في محلية التضامن ليس الذهب حظاً فحسب، إنما هو شكل من أشكال نهاية الحياة، إذ باتت الشركات التي أوقفت من قبل عن العمل نتيجةَ مُناهضة السكان، تعمل عبر الأفراد، بينما تُحرس «الكرتة» بالسلاح، ويُذاب السيانيد مع المخلّفات، مُهدِّداً مياه الحفائر وحياة الناس والتربة والمواشي.
محلية التضامن هي إحدى محليات ولاية جنوب كردفان التسع عشرة، وتقع في الجزء الشمالي الشرقي منها في محاذاة النيل الأبيض وعلى الحدود مع دولة جنوب السودان، وحاضرتها التَّرْتَر. وهي محلية زراعية، لكن بدأ التعدين فيها نشاطاً أهلياً في بدايات عام 2004، بحسب حديث ناشط في لجان مقاومة محلية التضامن، طلب حجب اسمه لـ«أتَـر»، وحينها كان الذهب يُستخلص باستخدام الزئبق، قبل أن تُحوّله شركات مثل الشركة الدولية، وشركة لحاء، إلى إنتاج منظّم في 2014. وتضمّ المحلية ما لا يقلّ عن خمسة عشر منجماً للذهب أشهرها الجغرور، وسفورة، وإغيبش، وإعور.
وبحسب الناشط، كانت هذه الشركات تستخلص الذهب من مخلّفات التعدين «الكرتة» باستخدام مادّة السيانيد السامّة، ما يؤدّي إلى تلوّث التراب. ولأنّ المناجم تقع في مناطق جبلية بالقرب من الوديان، فإنّ مياه الخريف تجرف الطين الملوث، فيشرب منه الناس والحيوانات وتفسد الأراضي الزراعية.
![]()
السيانيد مادة كيميائية سريعة التأثير وقد تكون قاتلة. وغالباً ما يُوصف السيانيد بأن له رائحة «اللوز المر»، لكنه لا يُصدر دائماً رائحة، وليس كل الأشخاص قادرين على تمييزها.
وتنقسم أنواعه إلى غازي وسائل وصلب، ومنه سيانيد الهيدروجين (HCN) ويُعرف باسم «AC»، وكلوريد السيانوجين (CNCl) ويُعرف باسم «CK»، ويكون هذان النوعان في شكل غازي أو سائل، أما الأنواع الصلبة منه أو البلورية فهي سيانيد الصوديوم (NaCN)، وسيانيد البوتاسيوم (KCN).
ويستخدم السيانيد، في صناعات أخرى غير استخلاص الذهب مثل صناعة الورق والمنسوجات والبلاستيكية وتحميض الصور الفوتوغرافية والطلاء الكهربائي وتنظيف المعادن وقتل الآفات والقوارض. وبعض أنواعه تستخدم في صناعة الأسلحة الكيميائية.
ويُؤدّي استنشاقه إلى ظهور الأعراض بسرعة، كما أن ابتلاع السيانيد الصلب أو السائل يمكن أن يكون خطيراً أيضاً. ويسبب التعرض له بالاستنشاق أو الابتلاع آلاماً في الصدر وهيجاناً في العيون ومشكلات في التنفس. وتتضمن علامات التعرض له الغيبوبة والموت وارتفاع أو انخفاض ضغط الدم وفقدان الوعي وإصابة الرئة والنوبات التشنجية.
ذهب المواطنون إلى الوالي في فترة الحكم الانتقالي، وطلبوا منه إجراء دراسة أثر بيئي على المناطق المتأثّرة بالتعدين عبر «بيت خبرة» محايد. لكن حكومة الولاية تكتّمت على النتائج، ما دفع عدداً من أعضاء من التنسيقية بصحبة مواطنين للذهاب إلى الشركة السودانية للموارد المعدنية مطالبين بنتيجة الدراسة، لكن الشركة رفضت قائلة إنه لا توجد دراسة بالأساس. لاحقاً علموا من خلال أحد موظفي الشركة أن النتيجة قد وصلت بالفعل، غير أنّ الحكومة منعت نشرها.
«في 2018 لاحَظَ السكّان نفوق حيواناتهم وتضرّر أراضيهم، فخرجوا في احتجاجات رافضين قيام الشركات بالتعدين على بعد كيلومترات قليلة منهم، كما طالبوا بتطهير المناطق الملوّثة كيميائياً، لكنّ الجهات الأمنية ردعتهم باستخدام الأسلحة الثقيلة «الدوشكا»، وما زال بعضهم هناك يحتفظون بفوارغ الرصاص ذكرى ليومٍ لا يُنسى حاولوا فيه اقتلاع حقّهم في حياة كريمة ومعافاة»، يقول الناشط.
في 2019 تجمّع السكّان مرةً أخرى متّجهين إلى منطقة «الجغرور»، فحاصروا المنجم الذي تديره (الشركة الدولية)، ورافقوا المسؤول عن الشركة إلى وحدة إدارية «وكرة»، حيث عُقِدَ اجتماع بحضور شخصيات اجتماعية من محلية التضامن، كان نتيجته إلزام الشركة بالتوقيع على وثيقة إيقاف وإخلاء فوري، وجرى تسلم آلياتها إلى الوحدة ذاتها من قبل المواطنين.
نتيجة لذلك صدرت مذكّرة من والي الولاية رشاد عبد الحميد إسماعيل بإيقاف نشاط شركات التعدين وحفظ ممتلكاتها إلى حين التحقيق والتقصّي، كما أمَر الجهات الأمنية بوضع حراسة أمنية على مواقع الشركات.
رغم توقّف نشاط شركات التعدين رسمياً، لا تزال تأثيرات عملها خلال السنوات التي سبقت قرار الإيقاف تلقي بظلالها على السكّان، إلى جانب أن شركات التعدين أصبحت تعمل عن طريق معدّنين أهليّين لاستخلاص الذهب من الكرتة. ولاحظ المواطنون كذلك، ظهور أمراض وأعراض جديدة في المناطق القريبة من المناجم، مثل السرطانات وتشوّهات الأجنّة.
وبحسب الناشط الذي تحدّث لـ«أتَـر»، ذهب المواطنون إلى والي ولاية جنوب كردفان في فترة الحكم الانتقالي، حامد البشير إبراهيم، وطلبوا منه إجراء دراسة أثر بيئي على المناطق المتأثّرة بالتعدين عبر «بيت خبرة» محايد. تولّت إجراء الدراسة شركة كاتشا الروسية، لكن حكومة الولاية تكتّمت على نتائجها، ما دفع عدداً من أعضاء تنسيقية لجان المقاومة بصحبة مواطنين للذهاب إلى الشركة السودانية للموارد المعدنية مطالبين بنتيجة الدراسة، لكن الشركة رفضت قائلة إنه لا توجد دراسة بالأساس. لاحقاً علموا من خلال أحد موظفي الشركة أن النتيجة قد وصلت بالفعل، غير أنّ الحكومة منعت نشرها، كما أخبر الناشط، الذي قال إن أعضاء لجان المقاومة حاولوا الوصول إلى التقرير الطبي، لكن أثناء ذلك وقع انقلاب 25 أكتوبر 2021.
متحدّثاً لـ«أتَـر»، يقول خالد قرشي، وهو ناشط في مجال البيئة والتغيّر المناخي، في محلية التضامن: «بعد أن رأينا ووَعينا بمخاطر التعدين غير الآمن، أنا ومعي شباب آخرون في مناطق الليري وقدير وأبوجبيهة والمناطق الأخرى المتأثّرة بهذه المخاطر، نظمنا حراكاً مجتمعياً كبيراً، خاصةً في مجال التوعية، فأقمنا الندوات والوقفات الاحتجاجية، ونتيجة لذلك حقّقنا بعض الانتصارات بإيقاف الشركات طوال فترة الحكومة الانتقالية، بفعل قرار من الوالي حينها بتوقيف أعمال شركات التعدين في الولاية».
بحسب عدد من المصادر التي تحدّثت لـ«أتَـر»، عاود التعدين نشاطه في محلية التضامن، بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، عبر أفراد مسلّحين يشترون مخلّفات التعدين، ثمّ يُنشئون أحواضاً ويضيفون إليها السيانيد.
صورة لقرار إيقاف عمل شركات التعدين في جنوب كردفان عام 2019
لكن بحسب عدد من المصادر التي تحدّثت لـ«أتَـر»، عاود التعدين نشاطه في محلية التضامن، بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، عبر أفراد مسلّحين يشترون مخلّفات التعدين، ثمّ يُنشئون أحواضاً ويضيفون إليها السيانيد. ويَستخرجون ما بين 4 و 5 كيلوغرامات، ومن ثمّ يَرمون المُخلّفات. يحدث هذا كثيراً في منطقة مثل «سفورة»، التي يوجد بها أكثر من مائتي حوض مُختلِط بالسيانيد على بعد 40 متراً فقط من الآبار الجوفية ومن حركة المواطنين.
طوال الفترة من 2016 وحتى 2018، ظلّ الطبيب الماحي حسن يرصد حالات التشوّهات والإجهاضات في الولاية. يقول حسن، الذي كان يعمل في مستشفى حكومي في محلية التضامن، إنه رصد أكثر من 55 حالة تشوّه خلقي لأطفال حديثي الولادة مرّت عليه خلال سنتين من عمله، تزامنت مع فترة نشاط شركات التعدين التي تستخدم السيانيد في استخلاص الذهب.
وفي مايو الماضي، ذهب بعض المواطنين إلى قائد الفرقة العاشرة في أبوجبيهة، باعتباره السلطة العليا هناك، وتحدّثوا معه عن مضار التعدين، فوعدهم بإرسال قوات لإيقاف هذه الممارسات، قبل أن يكتشفوا لاحقاً أنّ المُعدِّنين أنفسهم على تواصلٍ معه. ويقول أحد المواطنين المهتمين بهذا الشأن لـ«أتَـر»، إن الطيور اختفت تماماً من سماء سفورة، ونفقت كثير من الحيوانات بعد شربها من المياه المتسرّبة من الأحواض.
طوال الفترة من 2016 وحتى 2018، ظلّ الطبيب الماحي حسن – اسم مستعار لدواعٍ أمنية – يرصد حالات التشوّهات والإجهاضات في الولاية. يقول حسن، الذي كان يعمل في مستشفى حكومي في محلية التضامن، في حديثه لـ«أتَـر»، إنه رصد أكثر من 55 حالة تشوّه خلقي لأطفال حديثي الولادة مرّت عليه خلال سنتين من عمله، تزامنت مع فترة نشاط شركات التعدين التي تستخدم السيانيد في استخلاص الذهب.
لاحظ الطبيب أن أكثر أنواع التشوّهات الخلقية شيوعاً مما رصده هو (خلل الأنبوب العصبي ـ Neural Tube Defect)، وهي حالات يكون فيها الجنين إما بلا رأسٍ واضح أو بظهرٍ مكشوف. ووصف الطبيب جميع هذه الحالات الـ 55 بالشديدة، ولم ينجُ منها سوى طفلين فقط.
وأوضح أن التشوّهات منتشرة في أغلب مناطق محلية التضامن، وأنّ أبعد نقطة من المناطق السكنية في المحلية من المنجم تصل إلى 21 كيلومتراً. كما لاحظ الطبيب أن أكثر أنواع التشوّهات الخلقية شيوعاً مما رصده هو (خلل الأنبوب العصبي ـ Neural Tube Defect)، وهي حالات يكون فيها الجنين إما بلا رأسٍ واضح أو بظهرٍ مكشوف. ووصف الطبيب جميع هذه الحالات الـ 55 بالشديدة، ولم ينجُ منها سوى طفلين فقط. ورجَّحَ أن المسبّب الرئيس لهذه الحالات هو التلوّث بالسيانيد، وأنّ جميع الأسر التي ظهرت فيها هذه الحالات لم يكن لديها تاريخ عائلي لمثل هذه الأمراض. وأضاف أنّ هذه الحالات ظهرت بكثافة في عام 2016.
إلى جانب ذلك، أشار إلى أنّ هناك زيادة مطردة وخطيرة في معدّل الإجهاضات، وأنّ السبب الرئيس لمعظمها منها هو عيب خلقي في الجنين ذاته. وخلال سنتين فقط، رصد الطبيب أكثر من 1500 حالة إجهاض في محلية التضامن، كما أضاف الطبيب الماحي أنّ آخر حالة تشوّهٍ جنيني رصَدَها كانت قبل أشهر قليلة، في وقت لا يهتم فيه أحد بالتوثيق لما يحدث.
ولأنه حتى الآن لا توجد دراسات موثوقة تربط التعرّض للسيانيد بتشوهات خلقية، بسبب صعوبة قياس الجرعة الممتصة بدقة، يوصي الطبيب بإيقاف العمل بأحواض السيانيد التي نشأت بعد الحرب فوراً وإجراء مسح إشعاعي للمناطق، وإجراء بحوث وتحاليل لإثبات أنّ السيانيد هو ما يسبب ذلك وبالأدلة العينية، لتلافي ما يمكن تلافيه من الأخطار التي أصبحت واقعاً مُعاشاً.
ويوضح خالد قرشي أنّ حملات الاعتقالات والتضييق لا تزال تطال كثيراً من الشباب المناهضين لعمليات التعدين، سواء أكانت بصورتها الرسمية أم العشوائية، وأنّ الدولة بعد الحرب خلقت صدامات داخلية بين السكّان في جنوب كردفان، وتماهت في دعم نشاط التعدين تحت ذريعة دعم المجهود الحربي، معتبرةً أنّ كل من يقف في طريقها داعمٌ لقوات الدعم السريع أو غيرها من التهم.
لكن يرى محمود، وهو مواطن من محلية التضامن، أنّ للتعدين إيجابيات كثيرة كان من الممكن أن يستفيد منها سكّان المنطقة، إذا ما جرى على نحوٍ لا يؤثّر على البيئة ولا يسبب آثاراً صحية على الإنسان وماشيته وزراعته. ويرى محمود أن دَوره هو المناهضة بالطرق القانونية والسلمية لمنع ذلك التلوّث والضرر الناتج عن التعدين، كما فعل من قبل حين خرج في الاحتجاجات لحماية أهله وممتلكاته وتصدَّى للشركات.



