يسرد هذا المقتطف من الرواية التاريخية «آخر السلاطين – حروب السلطان علي دينار على تخوم مدافن السلاطين» للروائي منصور الصُويِّم، الأجواءَ التي سبقت غزو التجريدة الإنقليزية المصرية على الفاشر في معركة برنجية عام 1916، وعلى إثرها استولت على عاصمة سلطنة دارفور الفاشر بعد مقتل السلطان علي دينار الذي تراجع إلى الجبال حيث لقي حتفه بعد مطاردته، لتُصبح دارفور تحت الحكم الاستعماري. صدرت الرواية لأول مرة عن دار أوراق للنشر 2014 بالقاهرة، ثم صدرت الطبعة الثانية منها عن دار البشير للنشر 2024 القاهرة. وهي مشروع روائي حائز على منحة آفاق للعام 2012.
من المحرر
«إنّ كل ما نرغب فيه هو الجهاد، لأن الإسلام ضاع، وهؤلاء الكلاب الملاعين – الإنقليز والفرنسيين – جعلوا كل المسلمين في السودان كفاراً».
علي دينار إلى السلطان العثماني – 1916م.
لم تكن مدينة الفاشر، عاصمة سلطنة دارفور، في تلك الليلة من شتاء سنة 1916م، بعيدة عن إرهاصات الأزمة التي تعصف بحكم السلطان علي دينار، وأمرائه ومستشاريه وحاشيته، في قصره البديع جوار بحيرة الرَّهد، ولم تكن في حياد عن أجواء الكآبة التي بدأت تسري بين الأميرات من المَيَارِم في حي خير خنَقا، المضيئة أنوار بيوته بخفوت في ظلام هذه الليلة الباردة، ناقلة وقع الحوارات القَلِقة على المصير المتكوِّن في ثنايا الاستعدادات المتوالية لأمراء السلطنة، وقادة الجيش، الذين بات غيابهم يمتد لأشهر في معسكرات التدريب في جبل الحلة، وبرنجيَّة، وأبيض، أو في رحلات الاستطلاع المتوالية في طريق درب الأربعين، وسكة القيزان، إلى مركز النهود، وفي الدروب والمسارات الرملية المتماوجة ما بين مليط وجبل العوينات، وسكك دارا، ونِيَالا الجديدة التي بدأت في التفتح أمام الوافدين الأغراب والأجانب. وكما في بقية أحياء المدينة التي تنام مستريبة منذ بداية هذا العام؛ كان الحاج عبد الماجد ود الفكي، أحد كتَّاب السلطان علي دينار المقربين، يحس بثقل الهم يضغط على قلبه ويشتت أفكاره، وهو يتناول من زوجته الحاجَّة نفيسة الطحاوي بت الريف عباءته وعمامته بعد أن أحكم تثبيت الحزام على وسطه. قالت له نفيسة وهو يتهيَّأ للخروج متوكئاً على عكاز الأبنوس:
– كان تؤجل المشوار لبكرة يا حاج، الدنيا زِيفَة وبرد بَرَّه.
قال لها:
– يا نفيسة، لازم أقابل الشيخ محمد آدم الليلة، بكرة ما معروف ألقى وقت أم لا، كمان زينب أختي لا بد أقعد معاها قليلاً.. رسائل اليوم ما مطمئنة، وسيدي السلطان علي، ناوي على حرب طويلة.. سأكون ضمن مرافقيه من المستشارين والأمراء والقادة، ولا أعرف هل سأعود أم تُكتب لي الشهادة.
خرج وترك بت الريف وراءه تغشى وجهها حلكَة الهموم. الطريق مظلم والريح تصفّر وتبعثر ذرات الرمال الناعمة من حوله. تأمَّل من بعيد الأنوار التي تضيء في بيوت الأميرات الميارم في حي خير خنَقا. اعتلى تلال الرمال ببطء وألقى نظرة طويلة على ظلال إنارة القصر السلطاني المتراقصة على بحيرة الرهد.. غذَّ السير تجاه حي مكرَكا، وحنين واجب يدفعه للالتقاء بأخته زينب بت الفكي، وزوجها محمد آدم.
هذا الرجل الخمسيني قوي الجسد؛ الحاج عبد الماجد فضل المولى ود الفكي، فرَّ قبل عشرين عاماً أو يزيد، من مدينة الخرطوم، بعد أن اجتاحتها جيوش المهدية بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي، عقب مقتل الحاكم العام غردون، وهزيمة الجيش التركي أمام جيش المهدي، والقضاء عليه تماماً. استيقظ الشاب -حينها- عبد الماجد في صباح سيطرة المهدويين على الخرطوم، ولم يجد في بيت عمه بابكر الدقيل أحداً سواه وأخته الطفلة زينب بت الفكي، حملها على كتفه وجرى فزعاً بين شوارع وأزقة المدينة، ومشاهد الدماء تنتشر من حوله، وأصوات الرصاص مختلطة بصيحات النصر تُصمّ أذنيه، هرب في دروب عشوائية بلا هادٍ، إلى أن وجد نفسه في قافلة تجارية صغيرة، كانت في طريقها إلى كردفان ودارفور في غرب البلاد. انضم إليها ومعه أخته زينب، ثم أخذ يتنقل من مدينة إلى أخرى إلى أن حل بمدينة الفاشر، ووجد سلطانها علي دينار قد عاد ووطَّد أركان حكمه في أرض دارفور بعد اندثار حكم المهدية، واستشهاد الخليفة عبد الله التعايشي. بعد استقراره في الفاشر عرف عبد الماجد ود الفكي لأول مرة قيمة الدروس التي تلقاها على يد عمه بابكر الدِّقيل في تعلم الكتابة والقراءة، وإجادة التدوين، وحفظ سور القرآن الكريم. كان يعدّه ليكون ساعده الأيمن في أعماله التجارية المحدودة في سوق الخرطوم. في فاشر السلطان حلَّ كاتباً لدى تجار قوافل درب الأربعين، والتجار الجلَّابة القادمين من دار صباح، ثم ذاع صيته ككاتب بديع الخط يحفظ القرآن ويجيد تماماً ربط الحسابات وتنظيمها وتبويبها، إلى جانب كتابة الرسائل المرسلة مع القوافل، وبعد ذيوع شهرته انتقل للعمل في زرائب للمحاصيل والمواشي يمتلكها أحد الأمراء من أبناء السلاطين الأثرياء، ومنه ساقته الأقدار ليكون كاتباً ضمن طاقم كتَّاب بلاط السلطان علي دينار في قصره المنيف عند أعلى روابي الفاشر.
في صباح اليوم الذي انقضى، كان عليه أن يسطِّر رسالة ردَّاً على قائد جيش الإنقليز، الذي بات تهديده ماثلاً وقريباً بغزو المدينة، وإخراج السلطان وحاشيته منها إلى الأبد. كان يحثّ السير ويستعيد في حزن مشهد الهروب القديم، وزينب الصغيرة على كتفه، هرب بعكس اتجاه الآخرين، شق طريقه في حواري الخرطوم غير مبالٍ، بينما فر الآخرون شمالاً إلى أرض النُّوبَة، عَبَر النهر الذي شهد فجر اليوم غزوة الدراويش الكبرى، ومضى غرباً في ذات الطريق الذي سيسلكه من بعده السلطان علي دينار في رحلة عودته الظافرة. مكث في مدينة النهود عامين، عمل خلالهما في عدة مهن، إلى أن تعرف على رفيقه وصديقه الشيخ محمد آدم، الذي سيصير زوج زينب أخته، فقررا الاشتراك في رحلة تجارية إلى الفاشر، حيث استقر هناك متدرِّجاً ومتنقلاً على سنّ قلمه إلى أن بلغ القصر، وصار لصيقاً بالسلطان، وشاهداً على القادم المدسوس في رحم الأقدار.
قطع المسافة الطويلة نسبياً، من بيته في حي القبة، إلى بيت أخته زينب وزوجها محمد آدم في حي مكرَكا، في وقت سريع، وهو يَنتزِع قدميه بخفة من التربة الرملية ويتدرج في الأرض التي تنبسط أمامه ثم تصعد به عالياً لتنبسط من جديد في تضاريس المدينة المتباينة علواً وهبوطاً، أحسَّ بالدفء وهو يَطرُق برأس عصاه باب الصَّفيح. وجدَ صديقه وزوج أخته محمد آدم في انتظاره مرتدياً عرَّاقي خفيفاً، تقابلا بالأحضان كأنهما لم يلتقيا منذ زمن بعيد، قاده صديقه إلى غرفته الداخلية، حيث وجد زينب تضع للتو صينية طعام العشاء على شَمْلة صوف مفروشة وسط الغرفة، في توقيت دقيق مع قدومه. قفزت كالطفلة نحوه وهي تقبِّل يديه.
محمد آدم، زوج زينب بت الفكي، كان معروفاً في أنحاء شمال دارفور قبل عودة السلطان علي دينار المظفرة إلى الفاشر، واستعادته لعرش أجداده، الأهالي يعرفونه كأحد أمهر صائغي الذهب والفضة في مركز النهود والمدن والقرى المجاورة، كما لشهرته علاقة بشيخه ومعلمه صائغ الذهب ومعلِّم القرآن الشهير بمدينة النهود، الفكي حسن العمرابي. بعد أن قرر الاستقرار في الفاشر، أسس بمساعدة صديقه عبد الماجد دكاناً صغيراً في السوق الكبير، منه توسّع وتدرَّج في سنوات قليلة ليصبح شيخ صاغة السوق الكبير، إلى أن سمع بمهارته وجمال نقوشه وتشكيلاته المبهرة على الذهب والفضة السلطانُ علي دينار، وقرّر ضمّه إلى صاغة القصر السلطاني، وأن يكون أحد صاغته الخاصين عند الطلب، وأن يشرف على مصنع سَكّ العملة الذي يديره صائغ آخر لكنه سجين من أبناء النهود، إلى جانب اشتغاله وممارسة مهامه كشيخ للصاغة في السوق.
تناولوا العشاء المكوَّن من شيَّة لحم الضأن المدخّن، ومعه شرائح البصل والفِجْل، وسلطة متنوعة من الخضراوات الأخرى، وطبق عَصيدة دُخن مملَّحة باللبن. كانوا صامتين وهم يأكلون، زينب تحسّ بثقل الهموم على قلبيْ أحبّ رجلين إليها في هذا العالم. همست لأخيها:
– أخوي الحاج، لا تحملوا هماً للحرب، سيدي السلطان علي دينار قادر عليهم، كما قدر على من سبقهم.. سيدي مبروك والله ينصره وينصر دينه يا أخوي.
ابتسم عبد الماجد، وهو يُحدِّق في وجهها الطفولي الحبيب إلى قلبه، لكنه وجَّه حديثه إلى زوجها محمد آدم:
– تحداهم مرة أخرى في رسائله يوم أمس، وقال لهم إنه لن يتعامل معهم بل سيتعامل مع الخديوي مباشرة.
ردَّ محمد آدم:
– فِكْرَكْ فرسان الجيش الأول قادرين على مواجهة مدافع وبنادق الخواجات الملاعين ديل يا حاج عبد الماجد؟
طأطأ حاج عبد الماجد رأسه، وسرح مفكراً. لملمت زينب بت الفكي أواني الأكل ومضت إلى غرفتها الداخلية لتكون قرب صغيرها الرضيع عبد الماجد. قال الحاج لصديقه:
– اليوم أملى عليَّ أربع رسائل، الأولى كانت إلى الشيخ أحمد السنوسي، إمام السَّنُوسيَّة في ليبيا، يطلب منه الإسراع في إرسال ما وعد به من أسلحة وبنادق ودعم، تواً وعلى الفور. أما الثانية، فكانت إلى سلطان دار المساليت يطلب المشورة في ظاهرها والدعم في باطنها. الرسالة الثالثة حفظت كلماتها وفحواها ومعناها من شدة تركيزه على جُملها وإعادة صياغتها، وكانت إلى السلطان العثماني، أمير المؤمنين، وأرسلها إلى الأستانة مع قوافل التجار المسافرة بدرب الأربعين للتمويه. مما قال فيها يا محمد آدم: «وقد أحاطت أيدي النصارى الكلاب الكفار بالمسلمين من يميننا وشمالنا وورائنا وأمامنا، وحازوا ديار المسلمين كلها، ممالك البعض سلطانها مقتول، والبعض سلطانها مأسور، والبعض سلطانها مقهور، يلعبون بأيديهم كالعصفور، ما عدا بلادنا دارفور، قد حفظها الله من ظلمات الكفار. والداعي أنهم حالوا بيننا وبين الحرمين الشريفين اللذين حرسهما الله ومنّ عليكم بخدمتهما. ولم نر حيلة نتوسل بها لأداء الفرض الذي فرضه الله علينا من حج بيته الحرام، وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام».
صمت بعد استرجاعه كلمات الرسالة وإعادة تلاوتها على مسامع صديقه، الذي سأله بقوله:
– والرسالة الرابعة يا حاج؟
لفَّ الحاج عبد الماجد ود الفكي عباءته جيداً على جسده، وبدا كأنه يتأهب للمغادرة:
– الرسالة الرابعة يا محمد أخوي، رسالة غضب ولعن وتحدٍّ، أرسلها سيدي علي إلى المدير الإنقليزي بكردفان، ووصفه فيها هو ومن معه من الإنقليز وجنودهم بالكفار والكلاب، وأخبره بأن مصيرهم الجحيم الذي سيذهبون إليه في النهاية.. لقد تحداهم بقوته وجبروته يا محمد آدم، وقال لهم إنهم اختاروا الموت حين قرروا مواجهته، وإننا نرحب بالموت كشهداء باسم الله وللفوز بالجنة والسعادة الأبدية.. ومن ضمن ما أملى عليّ يا محمد آدم: «إننا لا نخافكم وسنقاتلكم بالرماح والسْفَارِج»، وكتبت بيدي هذه «والله إذا تحركتم أو ثبَتُّم فسوف أسير إليكم بإذن الله أينما كنتم».. إنها الحرب الملعونة من جديد يا محمد أخوي.. الحرب والموت والهلاك.
صمت كاتب السلطان، بينما زوج أخته شيخ الصياغ محمد آدم يفتش عن كلمات مناسبة ليرد عليه بها، إلى أن قال:
– يا حاج، الله تبارك وتعالى ناصر عباده على الكفار والمنافقين، وإن شاء الله سيدي السلطان علي ود زكريا منتصر على جيش الإنقليز الكفرة.
تبسم عبد الماجد في وجه صديقه وصفي روحه، رَبَّتَ بيده على كفِّه، واقترب قليلاً منه:
– يا محمد أخوي، إذا حدث الدُّوَاس واشتعلت الحرب سأكون في رفقة السلطان وفي مقدمة المقاتلين بلا شك، لا يمكنني أن أتخلف أو أفلت من المواجهة هذه المرة.. أوصيك على زينب يا صديقي، أوصيك عليها كأنها ابنتك وليست زوجتك فقط، ارعها وحن عليها وعاملها برفق يا أخي.
وهما عند باب الخروج أقسم عبد الماجد على صديقه ألا يذهب معه أبعد من ذلك. خرج وريح الشتاء الباردة تلفح وجهه من جديد، أحكم عباءته على وسطه وصدره، وأنزل طرفاً من عمامته وجعله لثاماً على وجهه. ارتقى ببطء تلة حي مكركا الرملية العالية، وأطل بعينيه مرة أخرى على أنوار منازل الميارم الأميرات المضاءة حتى تلك الساعة المتأخرة من ليل الفاشر في حي خير خنقا البعيد، تأمَّل للمرة الثانية الإضاءة الخافتة لقصر السلطان، المنعكسة ظلالاً على مياه بحيرة الرهد في ترقرقات هادئة.. أدار بصره في أنحاء المدينة الواسعة، وحدد بحسه الداخلي في ظلامها الشتوي الدَّامِس مواقع هضابها الست، ومنازل أحيائها الموزعة ما بين تدرجات رملية بديعة صاعدة وهابطة، توقف ببصره في موقع سوق بئر حجر قَدُّو، واسترجع سريعاً أيامه الأولى في دكان راشد ود الريف، إشرافه على توزيع وتصنيف البضائع المحملة على الجمال في رحلة درب الأربعين الموسمية إلى مصر والحجاز، انحناءته طوال اليوم على دفاتر الحسابات يدون كل وارد وصادر، زواجه من نفيسة الجميلة أخت راشد وأم عياله، التي تنتظره قلقة الآن في البيت. هبط من التلة العالية وأسرع الخطى باتجاه حي القبة حيث هناك تنتظر.
في صباح اليوم التالي، دخل الحاج عبد الماجد، إلى القصر، ووجد السلطان علي دينار مجتمعاً بوزرائه وأركان حربه من الأمراء وقادة الجيش، تردّد قليلاً في الدخول، إلى أن أشار إليه السلطان بالتقدم. كان الأمير ود إبراهيم، رئيس الجيش الأول، يقدم تقريراً مقتضباً عن تحركات جيش الإنقليز في حدود كردفان، وخروجهم من النهود في الطريق إلى ود بندا، واصفاً بدقة عدد سرايا الجنود وتكويناتها من الهجّانة والمشاة والراكبة، جنودها من السودانيين والترك، عدد الإبل والهَجَّانة وتقديراً تقريبياً يقترب من الألفين للعدد الكلي لجنودها، ثم قدم تقريراً وصفياً آخر يعكس مدى استعداد مقاتلي وفرسان جيش السلطنة في حاميات الكْلاَكْلَة وبِرنجِبيل والطُّويشَة وجبل الحلة وأم شَنقَة، واكتمال التخطيط لنقلهم إلى معسكر برنجيَّة متى ما حانت لحظة الصفر.
جلس عبد الماجد في موقعه على يسار كرسي السلطان، وتحت مرمى بصره، أمامه أدوات الكتابة موضوعة على السَّانِد القصير، أخذ يستمع لحديث السلطان الذي بدا واثقاً في تلك اللحظات من نصر كاسح سيتحقَّق على جيش الإنقليز، وهو يخاطب رئيس الجيش الأمير ود إبراهيم:
– كثِّف عدد المشاة والفرسان في الطويشة وعراديب الملّم.. البارود والبنادق ستتوافر الأيام القادمة، ستصل مع عودة قوافل الحجاز والكفرة الليبية، اشترينا كمية كبيرة من الذخيرة، بشرنا بذلك مندوبونا إلى هناك.
فتح عبد الماجد أوراق دفتر الرسائل والمكاتبات السلطانية، وغمس سنّ القلم الخشبي في المحبرة واستعد للتدوين. سمع الأمير ود إبراهيم يقول للسلطان:
– سيدي السلطان علي دينار أبو زكريا حفظك الله ورعاك، نبلغك، وبعد مباركتك، بدأ رجال كرَادِيسنا من الجيش الأول بحفر الخندق حول معسكر برنجيَّة، فصارت الآن مؤمنة ومحمية والحمد لله القوي العزيز.
أمسك عبد الماجد بالقلم الخشبي بين أصابع يده وقبع منتظراً. أبصر وزير التجارة والمال، بشير نصر الشايقي، يبسط أمام السلطان دفاتر جرده الحسابي الشهري لخزانة السلطنة، وسمعه يحادثه في همس حول مخزون الذُّرة في صوامع الفاشر ومخازن دارا ومنواشي، وعدد الجَبارِيك التي تمَّ رصدها في حواكير الجنوب، ويفصِّل بدقة عدد البنادق المتوقع وصولها ضمن شحنة البضائع القادمة عن طريق درب الأربعين من الكفرة الليبية وصعيد مصر في قافلتين؛ الأولى يحركها تجار الكفرة من أبناء الفَزّان، والثانية يمتلكها تجار أولاد البحر، والمتوقع كذلك من بنادق وبارود طلبهما السلطان مع رسوله إلى أرض الحجاز. سأل السلطان وزير تجارته بشير نصر الشايقي، عن أسباب تأخُّر سداد ضريبة بعض قبائل البقَّارة حتى الآن، و… يخفض الوزير صوته أكثر ويبرر ذلك بنزولهم البحر وذهابهم إلى أقصى الجنوب منذ الصيف الماضي وعدم أوبتهم حتى اللحظة.
كان بقية الأمراء وقادة الجيش يجلسون صامتين على أرائك منخفضة متقابلة من الجهتين، بينما السلطان يجلس على كرسي عرشه يكمل محادثته الهادئة مع وزير التجارة بشير نصر الشايقي.. ويقرِّب إليه الوزير الأول محمود الدادنجاوي، طالباً منه تقديم تقريره اليومي عن أحوال البلاد والعباد. دار حديث طويل عن موسم الحج هذا العام، والاستعدادات لتجهيز المَحْمَل والصُّرَّة السنويين ليرفقا مع أفواج الحجيج رغم إرهاصات الحرب القادمة والضائقة الاقتصادية التي تطوق البلاد بسبب شح أمطار الخريف الفائت، إضافة إلى تهديدات قُطّاع الطرق والهَمْبَاتَة لقوافل الحجاج في كل سكك دارفور المؤدية إلى الحجاز من قلب الفاشر عاصمة السلطنة. قال السلطان:
– الصرة والمحمل، يُجهَّزَان مثل كل سنة كالمعتاد، ويخرجان في وقتهما المعلوم، لا يوجد ما يؤخرهما أو يعطلهما.. والله تبارك وتعالى هو الحافظ وهو الحارس.
استمَّر الحوار بين السلطان ووزيره الأول، وبقية الأمراء والوزراء والقادة جالسون في أماكنهم صامتين، عينا عبد الماجد كانتا تتحاشيان عيني القائد رمضان وَدْ بُرَّةْ، الذي كان يضع لثِّاماً على وجهه فلا يظهر منه غير عينيه اللتين بدتا لعبد الماجد وكأنهما مثبّتتان على وجهه، وشبح ابتسامة ساخرة يشع منهما. تأكد عبد الماجد أن توتره بسبب الحرب الوشيكة بات محسوساً، على الأقل للقائد رمضان وَدْ بُرَّةْ، قائد أحد أهم الكراديس المقاتلة والمشرف الأول على كتائب حراسة السلطان واختيار وتدريب فرسانها من خيرة جنود البلاد المُعَدِّين للقتال وفق الولاء الخالص لعرش السلطنة. أَلهَى عبد الماجد نفسه بتقليب القلم الخشبي بين يديه، واستعاد في قفزات متنافرة صوب الماضي رحلته من الخرطوم إلى الفاشر. خرج من نافذة ذكرياته حين أحس بأن جميع من في المجلس يقف، والسلطان ينهض من على كرسي عرشه ويمسك بيديه أطراف عباءته الموشاة بالذهب.
بعد صلاة عصر ذلك اليوم، في جامع الفاشر الكبير، استدعى السلطان كاتبه الحاج عبد الماجد مرة أخرى في حضور القائد رمضان وَدْ بُرَّةْ فقط، أحسَّ عبد الماجد بشيء من الانقباض لوجوده معهما منفردين دون الآخرين، بيد أن ابتسامة السلطان المشجعة طمأنته قليلاً وهو يناديه ليقترب أكثر بأوراقه ومحبرته وقلمه الخشبي. باغته السلطان بالسؤال:
– هل ترى أنها النهاية يا عبد الماجد؟
أجابه وعيناه إلى الأرض:
– سيدي السلطان علي دينار أبو زكريا، حفظك الله وأبقاك.. أنت منصور بنصر من عند الله تعالى وتبارك بإذنه، والكَفَرَة الملاعين من ورائهم الشيطان وغضب الله، وهزيمتهم ودحرهم سيكون درساً لكل أعداء الدين في كافة البلدان.
حدَّق السلطان طويلاً في عبد الماجد، الذي ظل مثبتاً نظراته على الأرض بعد إكمال كلامه، قال له:
– الأمير ود إبراهيم، رئيس الجيش الأول، يرى في حال أنفذ الكَفَرَة الملاعين تهديدهم واقتربوا من الفاشر أن نخرج إليهم في حدود برنجيَّة ونقاتلهم هناك.. لكن اكتب يا عبد الماجد.
أمسك عبد الماجد بقلمه وغمس سنّه في المحبرة وبدأ الكتابة إلى أن وصل: «التقى جزء من جيشنا بالكفار، وحاربَهم وبلطف الله لم يُجرح أي من رجالنا لأن بنادقهم ورشاشاتهم ورصاصهم غير مؤثرة. لم تُصب مدافعهم أي شخص. لقد سقطت عشر أو خمس عشرة رصاصة على كل واحد من رجالنا. ولكن لم يُجرح أي شخص. إن رصاصاتهم لم تخترق حتى جببهم. إن الله القدير منحنا النصر على الكفار وقتلنا العديد منهم.. وهي واحدة من أفضال الله العظيمة على الإسلام، ولا شك سيقوي دينه. لقد علمنا أن العدو قد أرسل إليك رسائل ولكنك رفضتها وقد سررنا بذلك كثيراً، ولا نعتقد أنك ستفعل ما قالوه لك، باركك الله وجازاك لحبك واهتمامك بالإسلام ورفضك التعاون مع الكفار.. نأمل بعون الله أن نرسل لك قريباً أكثر الأخبار سروراً عن الهزيمة التّامّة للكافر».
مدَّ السلطان يده اليمنى، فنهض عبد الماجد منحنياً وناوله بكلتا يديه الرسالة، أعاد قراءتها ببطء، نادى على خازن الأختام، فخرج من وراء ستار وأخذ الرسالة وختمها بختم السلطنة، ثم أعادها إليه فطواها وناولها للقائد رمضان ودْ بُرَّة، فاستلمها بيديه الاثنتين وهو منحنٍ ثم استقام واقفاً وانسحب من المجلس السلطاني. تلك كانت الرسالة الثانية في غضون أسبوعين إلى ناظر قبيلة الرزيقات موسى مادبو، العدو القديم، الصديق الجديد، تدعوه مواربة إلى الانضمام إلى جيش السلطان لمقاتلة الإنقليز.
منصور الصويم
منصور الصويم روائي وقاص وصحافي، وُلِد بمدينة نيالا بإقليم دارفور غرب السودان 1970، ودرس النقد بكلية الموسيقى والدراما بالخرطوم، وظل يعمل كاتباً ومحرراً بالصحف السودانية والعربية منذ العام 2000 وحتى الآن.
حازت رواياته على جوائز محلية وإقليمية وصدرت له ست روايات حتى الآن، هي: «تخوم الرماد»، «ذاكرة شرير»، «أشباح فرنساوي»، «آخر السلاطين»، «عربة الأموات»، «طحلب أزرق». وتُرجِمت بعض أعمال الصويم القصصية والروائية إلى اللغات السويدية والإنقليزية والفرنسية.



