أتر

كلمة: الفاشر مَراكب القُدرة

نعم، تُمثّل الفاشر تاريخيّاً إحدى أهمّ عواصم بلاد السودان في أفريقيا، وهي المساحات الواسعة التي امتدّت من القرن الأفريقي والبحر الأحمر إلى المحيط الأطلنطي. وقد ظلّت الفاشر، على نحو مُميّز، ضمن مُمْسكات الوحدة المتنوّعة لهذا الإقليم الواسع، خاصة في أجزائها التي عُرفت تاريخياً بأواسط بلاد السودان.

إنّ تلك الوسطية التي تميّزت بها الفاشر لم تتراجع، حتى في أزمان الاستعمار والنظم الفوضوية التي سادت الإقليم الأفريقي الأوسع بعد الاستقلال الهشّ، وقد عُرف ذلك النوع من الاستقلال في دوائر العلوم السياسية بـ«استقلال رفع العلم» Flag Independence.

إنّ ما تميّزت به الفاشر أيضاً، بوصْفها عاصمةَ عراقةٍ واستنارةٍ وطنية، أنها ظلّت منذ تأسيسها عام 1792 عاصمةً ومطرحَ استقرار لدولة السلطان عبد الرحمن الرشيد، وتميّزَتْ بقُدرات واسعة لقبول الآخر واستيعاب وجوده الإنساني، دونما عنفٍ أو كراهية، حتى ولو جاء الآخر مُحارِباً بالفتنة، أو مُعادياً بأعمال عسكرية غاشمة.

يَذكر أهل الفاشر تفاصيلَ دقيقةً حول قصة استيلاء الأمير عثمان آدم «جانو»، على المدينة أيام الخليفة عبد الله التعايشي، وهو أحد أمراء المهدية الذين تولّوا إدارة كردفان ودارفور، وكان عمره حينها لا يزيد عن الثلاثين سنة.

كَوَّنت الفاشر يومئذٍ مجموعتَي عمل لمقابلة القائد المُنتصر: المجموعة الأولى للتفاوض، والمجموعة الأخرى لمُراقبة الموقف، فإنْ كان الأمير مُرحّباً بالحوار الضامن لسلامة الأرواح فتلك «نعمة وتمّت»، وإلا تنسحب مجموعة المراقبة لتُبلغ أهل المدينة بهجرها ومغادرتها إلى أن تستقرّ الأوضاع. لكنَّ السؤال الأبلغ كيف سارت عملية التفاوض:

الوفد: جِيداً جِيتُو.

الأمير: غصباً عنكم.

الوفد: الله يهوِّن.

الأمير: الله يهوِّن بمالكم وعيالكم.

الوفد: الأخَدْ (تزوَّج) أمَّك، كلّو أبوك.

الأمير: أمَّكم أخَدَت ليها جان.

انتهى الحوار بشقّيه، ووجد أهل الفاشر فرصةً للخروج المنظّم بأقل قدر من الانتهاكات الإنسانية.

على أنّ عظمة الفاشر وقدراتها الاستيعابية لا حدّ لها، فعندما أُصيب الأمير عثمان جانو بداء الجدري وهو يتوسّع بالغزو، أعيد جثمانه إلى الفاشر، ودُفن على مقربة من منزل ملك الفاشر، وجنوبي مدرسة الفاشر الجنوبية بنات. تأتي العِبرة من أنّ أحداً لم يحتج على جفاء قائد وهو تحت التراب، ولم ينبش أحدُهم القبرَ لأنّ صاحبه أساء إلى أهل المدينة.

والقصص كثيرة، ومع مأساويتها، ومهما كانت قاسية ومُستفزّة، فإنّ فيها الطرافة والحكمة والنكتة والقبول بها، ثمّ الاستعداد للخروج من المأزق بحكمة الخبرات وتراكمها.

من تلك المُرتكزات، وتلك التي عايشتُها في الفاشر وسط أهلي وأسرتي، وطالباً في مدرسة الفاشر، ومواطناً ومعتقلاً في سجن شالا اعتقالاً تحفّظياً وتعسّفياً؛ عشتُ الدموع التي ذُرِفَتْ تنديداً بالانتهاكات والجرائم الجسيمة في الحرب؛ على أني واثق من أنّ الفاشر في دهاليزها خافتة الإضاءة، هذه الأيام تُعِدُّ برامج ما لإيقاف الحرب وهي تستعد للعدالة الانتقالية، وأيضاً تبذر بذور الفيدرالية الديمقراطية لتُشارك بها إيجابياً للخروج بالسودان ذي الوحدة المتنوّعة، حُرّاً مستقلاً من جديد، ضمن الأسرة الدولية التي تُحسن احترام من يحترم ذاته وهو متماسك بالقوة والثقة والتطلّع إلى الشراكة.

Scroll to Top