لقد صنعت الحرب ما لم تصنعه الجغرافيا: قرّبت المدن من بعضها بعضاً، ووحّدت الوجع والأسى بينها. ووسط هذا الركام، ينبت وطنٌ جديد، لا يُكتب بالحبر ولا يُرسم على الخرائط، بل يُولد من الرحمة، ومن اللقاء بين مدنٍ كانت مُتباعدة.
منذ صباح السادس والعشرين من أكتوبر، وتوارد الأنباء عن سقوط مدينة الفاشر وسيطرة قوات الدعم السريع عليها، تغيّر الإحساس العام في أنحاء السودان. كان الخبر قاسياً على مدنٍ اختبرت دويّ المدافع، وأخرى وصل إليها مثل صدى بعيدٍ. بين الولاية الشمالية وبورتسودان وأم درمان وولاية نهر النيل وقرى الجزيرة وحواضرها، اختلافٌ في المناخ والجغرافيا، لكنّ مزاج سكان تلك الولايات توحَّد في شعورٍ واحد: الخوف من القادم. لقد تسلّلت الحرب إلى تفاصيل الحياة اليومية؛ إلى الأحاديث، والنظرات، وإلى الطريقة التي صار بها الناس يُتابعون الأخبار كما يُتابعون أحوال الطقس.
في الولاية الشمالية
التمر دا محتاج ليهو سوق قبل ما يحتاج مويه. البلد لو ما بقت واحدة الزرع ذاتو ما بنفع.
في مرَوي، المدينة التي تُلوّنها الرمال وزرقة النيل، ظلّ السوق يعمل كعادته، لكن الوجوه تغيّرت. التجار يجلسون أمام بضائعهم بعيونٍ قلقة، والحديث الدائر في الدكاكين لم يعد عن الأسعار فقط، بل عن الجبهات البعيدة. يقول يوسف عبد الرحيم، وهو تاجر في السوق الكبير لمراسل «أتَـر»، إن الناس في مروي يتابعون الأخبار على مدار اليوم، وكل صباح يسألون بعضهم بعضاً عن الجديد في دارفور وفي الأبيض: «السوق دا لو وقفت منه الشاحنات الماشة الخرطوم والأبيض، حيَوقِّفْ معاهو كل شيء».
في إحدى مدارس مروي، تُحاول المعلمة آمنة الطيب أن تُبعد من تلاميذها تفاصيل الحرب، لكن الأسئلة تتسلَّلُ رغماً عنها: «الطلاب يَسألونني: الحرب ممكن تجي مروي؟»، والسؤال بسيط لكنه موجِع؛ تُحسُّ أنهم بلغوا الرشد مُبكّراً. وعلى الضفة الشرقية للمدينة، ينظر الحاج أحمد ود البدوي إلى نخيله الممتد في الجروف ويقول بهدوءٍ يحمل مرارة: «التمر دا محتاج ليهو سوق قبل ما يحتاج مويه. البلد لو ما بقت واحدة الزرع ذاتو ما بنفع».
أما في الدّبة، التي تَقَعُ على ضفاف منحنى النيل في الولاية الشمالية، لا يُسمع سوى صدى القلق. المدينة التي كانت تُعرف بهدوئها صارت تُتابع الحرب من ناصية الأزمة، كما لو أنها على مقربة من بيوتها. يقول محمد علي، وهو موظف في المحلية لمراسل «أتر»، إن الاجتماعات الرسمية أصبحت جميعها عن الأمن، والناس يتكلّمون عن احتمالات استقبال نازحين، أو عن تمركز الجيش في المدينة. وهناك إحساس عام بأن الأحداث متجهة إلى الشمال.
في سوق الدبة، تبيع حليمة أحمد الشاي منذ عشرين عاماً، لكنها لم ترَ الناس بهذه الحالة من الصمت من قبل: «الزباين ساكتين. الواحد يشرب الشاي وهو ماسك التلفون، يسمع تسجيلات الحرب. الجوّ تقيل، كأن المدينة تتنفس بصعوبة». الشاب عبد الرحمن فضل، طالب جامعي، كان يستعد للعودة إلى الخرطوم قبل أن تتغير خططه. يقول: «بعد الفاشر بطَّلْتَ. حسّيت إنو البلد كلها ممكن تتقفل فجأة. الشباب هنا بين الحيرة والقلق، ما عارفين نجهّز للجامعة ولا نجهّز للاستنفار».
ويقول أحد المزارعين في مروي: «الحرب دي ما بتهدّ المدن بس، بتهدّ روح الناس».
بورتسودان
أي سفينة تتأخر نعتقد أن هناك مشكلة متعلقة بالحرب؛ ورغم أنها بعيدة مسافةً، لكن أثرها واضح في الميناء. فالجميع في قلق.
في بورتسودان، كان وقع الخبر أشدّ حضوراً. فالميناء الذي يربط السودان بالعالم صار مركز الدولة المؤقت، وكل اضطراب في الداخل ينعكس عليه مباشرة. عند الميناء، حيث تمتزج رائحة البحر بزيت المحركات، تقول صفاء محمد، وهي عاملة في هيئة الموانئ البحرية، إن الجو بات مشحوناً: «أي سفينة تتأخر نعتقد أن هناك مشكلة متعلقة بالحرب؛ ورغم أنها بعيدة مسافةً، لكن أثرها واضح في الميناء. فالجميع في قلق». وفي المقاهي المُمتدّة على الكورنيش، يتحدّث الناس عن الأسعار، عن الوقود، وعن المجهول الذي يقترب من البلاد.
عبد الله موسى، سائق شاحنة نقل بين بورتسودان والخرطوم، يقول إن الطريق صار «أتقل من زمان»، لأن الأخبار تنتقل أسرع من الشاحنات: «في كل نقطة تفتيش تُسأل: جاي من وين؟ ماشي وين؟ الحرب بقت ضُلّ ماشي معانا في الطريق».
أما فاطمة حمد، وهي ناشطة مجتمعية في بورتسودان، فترى أن النساء في المدينة أصبحن يتحمَّلْنَ عبء الخوف بصمتٍ مزدوج: «خوف على أولادهن من الحرب، وخوف من المعيشة. نقيم حملات تبرع صغيرة لأهل دارفور، فالجميع يعلمون أن الخطر أصبح عاماً».
في قرى نهر النيل
صُدِمَ أهل القرى بريف المتمة في ولاية نهر النيل بسقوط مدينة الفاشر، ورغم أن أغلبهم لم يرَ الفاشر في حياته، لكنّ الحرب درسٌ في الجُغرافيا، وقد عرفها أهل المتمة جيداً في حرب 15 أبريل 2023.
بدأ أهالي قرى ريف المتمة إحصاء الهجمات على الفاشر منذ شهور طويلة، وستَشعر لو جالستهم أنهم يَشعرون بمزيج من الفخر والتقدير تجاه أهالي المدينة الصامدة، ولكن خبر سقوطها هزَّ بعنف شيئاً ما في النفوس.
أكثر من يعرف الفاشر عن قرب في المتمّة هم العسكريون، بحكم خدمة بعضهم الطويلة في غرب السودان، ومنذ يوم 27 أكتوبر الجاري ظل الناس يتحلّقون حولهم في المجالس وهم يصفون شوارع المدينة وأسماء أحيائها كأنهم يَصفون قراهم، يحكون ذكريات أليفة عن الناس والعلاقات التي كوّنوها في الفاشر، عن الحياة هناك والأسواق، ويَتبادر الحزن بين كل قصة وأخرى.
أكثر من يعرف الفاشر عن قرب في المتمّة هم العسكريون، الجنود وضباط الجيش والشرطة، بحكم خدمة بعضهم الطويلة في غرب السودان، ومنذ يوم 27 أكتوبر الجاري ظل الناس يتحلّقون حولهم في المجالس، التي حضرها مراسل «أتَـر» مُنصتاً لكل ما يقوله الناس عن الفاشر: العسكريون الذين يصفون شوارع المدينة وأسماء أحيائها كأنهم يَصفون قراهم، يحكون ذكريات أليفة عن الناس والعلاقات التي كوّنوها في الفاشر، عن الحياة هناك والأسواق، ويَتبادر الحزن بين كل قصة وأخرى، وبعدها سترى الناس يحملون هواتفهم ويتصفحون آخر الأخبار صامتين، بينما أصوات هواتفهم تملأ المكان بالمقاطع التي صوّرها جنود قوات الدعم السريع وهم يغتالون ناس الفاشر، وبعدها ستسمع همهمات لاعنة.
تربط غرب السودان بريف المتمة علاقات تجارة المحاصيل، وخاصة محصول البصل، الذي شهد موسمه السابق انفراجاً ملحوظاً في أسعار أردب البصل منذ بدء الحرب، ومع سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة بارا في نهاية الأسبوع الماضي، أبدى بعض مُزارعي ريف المتمة قلقَهم البالغ إزاء موسم بصل الشتاء الحالي، وخوفهم من تعثر أسواق غرب السودان وهبوط الأسعار بسبب ضعف الطلب. لكن حديث أهالي ريف المتمة عن الفاشر كان بعيداً عن معادلات الربح والخسارة أيضاً.
عند سقوط الفاشر ظهر الإحباط على وجوه الناس في المتمّة؛ شيءٌ عزيزٌ على أنفسهم قد تعرَّضَ للأذى، ظلّ الناس في هذه القرى طوال شهور الحصار على الفاشر يصفون أهلها بـ«الفرسان».
سأل مراسل «أتَـر» عدداً منهم عن شعورهم فأبدوا إجابات متنوّعة: النساء عبّرْنَ عن تعاطف واضح مع الضحايا، أما الرجال فحاولوا إخفاء شيء ما؛ شيء مؤسف شعروا به وهم يشاهدون مقاطع الدعم السريع، بعضهم عبّروا عن استغرابهم من درجة قسوة القلب لدى منسوبي قوات الدعم السريع. وعبّر آخرون عن إحباطهم بسبب تقهقر الجيش. أما أغلب الناس فقد عبروا عن شعور قويّ بالخطر المُحدق، وتحدثوا عن إشفاقهم على الخريطة التي تسمّى الوطن.
أم درمان
خلّف سقوط مدينة الفاشر التاريخية حالة مربكة من الشعور العام بالحزن والإحباط وسط قطاعات واسعة بين سكان أم درمان والخرطوم عامة، وكرّس خسران المدينة، بعد صمود أسطوري دام شهوراً، إضافة إلى المجازر المروعة التي ارتكبتها عناصر قوات الدعم السريع، إحساساً مرّاً بالهزيمة، أعاد للأذهان صدمة انسحابات الجيش من مدن كبيرة أخرى، مثل مدني وسنجة وأم روابة، لا سيما بعد إقرار قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، بانسحاب الجيش من مدينة الفاشر لتقديرات أمنية وعسكرية.
يَقول نبيل محسن، ويقطن مدينة أم درمان، إن خسارة الفاشر تَعني خسارة دارفور كاملةً، بإنسانها وثرواتها وتاريخها المشترك، وتضع البلاد كلها على المحكّ. يَقول لمُراسل «أتَـر»: «شعرتُ بغُصّة في قلبي ومرارة في حلقي وسالت دموعي دون أن أنتبه». ويُضيف: «كان سقوطها فاجعة أخرى كشفت لي عن لا جدوى الحرب وعبثيتها. يجب أن تتوقف فوراً».
تجمعني شخصياً صداقات قديمة وعلاقات نسب مع أناس من الفاشر، ولن يصير الدم الذي بيني وبينهم ماءً.
ويُضيف أنه لا يتصوّر السودان من دون دارفور التي اقتُطعت – مثلما يقول – بسكين حادة دامية وذُبحت عن بكرة أبيها انتقاماً من صمود سكانها رغم التجويع الممنهج والحصار الطويل: «كيف أنظر في وجه جاري صاحب الدكان وكيف أبيع وأشتري منه». يقول نبيل ومن ثم يضيف: «تجمعني شخصياً صداقات قديمة وعلاقات نسب مع أناس من الفاشر، ولن يصير الدم الذي بيني وبينهم ماءً».
بدَوره يقول المواطن مهدي عبد الله، ويَقطن مدينة بحري، إن سقوط الفاشر في قبضة الدعم السريع يمثل بدايةً لفصل جديد من معاناة إنسانها من تبعات الحرب، فقد ظلت المدينة على مدى أشهر بؤرة محتدمة للصراع بين طرفي الحرب؛ وفي هذه الفترة قاسى إنسان الفاشر مرارة الحصار والتجويع والاستهداف المباشر بالقصف حتى تحولت الحياة في المدينة إلى جحيم لا يطاق. يقول مهدي: «الآن آلت السيطرة على المدينة كاملة إلى قوات الدعم السريع، وبدأ فصل جديد من الانتهاكات والتشفي بحجة التعاون مع الجيش السوداني والقوات المساندة له. هذا المشهد تكرر كثيراً في الصراع، فعقب دخول الجيش إلى مدني وإلى سنجة وغيرها من المناطق تعرّض المواطنون إلى أمر مماثل، وفي جميع الأحوال نجد أن المواطن الأعزل يكون الضحية». ومن ثم يُضيف: «الآن وقد سقطت الفاشر في أيدي الدعم السريع فإن شكوكاً بدأت تتسرب عن مدى قدرة الجيش والقوات المساندة له على تأمين المناطق التي تحت سيطرته؛ إذ بعد سقوط المدينة أصبحت ولايات دارفور بأكملها تقريباً تحت سيطرة الدعم السريع ما يمنح حكومته الافتراضية – حكومة تحالف تأسيس بحسب وصفه – جغرافيا أوسع لنفوذها قد تشمل ولايات كردفان، كذلك في حال سيطرتها على مدينة الأبيّض، وهو ما يُعدّ تحولاً جذريّاً في الصراع، ما لم يرضخ الطرفان لحلول تفاوضية تجنب البلاد مرارة التقسيم».
وتقول فاطمة هارون، وتقطن محلية كرري، إنها تشعر بخيبة كبيرة وخذلان أشد بعد سقوط المدينة ورؤية مقاطع الڤيديو الدامية والعنيفة ومقتلة النساء والأطفال بدم بارد: «كنا نتابع صمود سكان الفاشر البطولي باهتمام كبير، ونشعر بالعجز عن دعمهم». تقول فاطمة ومن ثم تضيف بحسرة كبيرة لمراسل «أتَـر»: «أخشى أن يُمثّل سقوط الفاشر موجةً جديدةً من الحرب بتمدد الدعم السريع في ولايات جديدة، بعد خسارة دارفور العزيزة كلها. هذا أمر مخيف».
في الجزيرة
لقد كان طه يُتابع بقلق أخبار المعارك في الفاشر، التي يحفظ أحياءها وضواحيها وطرقها الوعرة، ودروبها الخفية، أكثر مما يحفظ من مناطق البطانة وتمبول، ولا عجبَ في ذلك، إذ لم تتوقف تجارته بتلك المناطق من دارفور إلا بعد اندلاع الحرب.
بالنسبة لخضر طه الجابو سيدو، 65 عاماً، من قرية عد الغباش بشرق الجزيرة، فإن الفاشر وبارا، والأبيّض والضعين، ليست مناطق أو مدن سمع بها أو زارها ضمن السودان فحسب. يقول طه لمراسل «أتَـر»، وهو يمسح دمعات سقطت أثناء سرده بعضاً من ذكرياته في الفاشر، إنه يدين بالفضل كله في حياته لها، إذ هجر قريته في السبعينيات وهو شابٌ صغير، فعمل «مساعداً» في شاحنة كبيرة لعمه: «من عملي في هذه الشاحنة، اشتريت واحدة لنفسي، كنا نعمل في تجارة الماشية بين غرب السودان وشماله، ونحمل بضائع شتى من الخرطوم وود مدني في الذهاب، وكانت تجارة مربحة». لقد تزوج العم طه من تجارته، وعلّم أبناءه حتى حصلوا على درجات علمية عالية، أحدهم طبيب، عمل بالمستشفى السعودي بالفاشر، وأصيب في قصف على المستشفى العام الماضي، ويخضع حالياً للعلاج خارج السودان. وله أيضاً بنت معلمة بالضعين، حضرت إلى الجزيرة قبيل الحرب، وابن آخر أقام صيدلية بالفاشر وهو خارج السودان حالياً.
لقد كان طه يُتابع بقلق أخبار المعارك في الفاشر، التي يحفظ أحياءها وضواحيها وطرقها الوعرة، ودروبها الخفية، أكثر مما يحفظ من مناطق البطانة وتمبول، ولا عجبَ في ذلك، إذ لم تتوقف تجارته بتلك المناطق من دارفور إلا بعد اندلاع الحرب، فحين انطلقت رصاصتها الأولى كان ما بين النهود والخوي يشتري خرافَ أضاحٍ ويبيعها في الجزيرة.
وفي ذات السياق، يقول عضو بغرفة تجار «التمباك» بولاية الجزيرة لمراسل «أتَـر»، إن تجارتهم تأثرت كثيراً بانتقال الحرب إلى إقليم دارفور، وتحديداً بعد أكتوبر من العام الماضي حين منعت قوات الدعم السريع مرور التمباك ضمن سلع أخرى إلى شمال السودان ووسطه، ويكشف للمراسل عن أن استمرار الحرب يهدّد بتوقف هذه التجارة، ويلفت إلى أن ما يُباع منه الآن هو أنواع رديئة من السلعة، وهي كميات كانت مُخزنة، وليس هناك أي وارد جديد، سوى بعض الكميات القليلة جداً التي يأتي بها بعض الجنود العائدين من تلك المناطق.
ويحكي عبد الغفار علي حمدو، من قرية سليم بمحلية الحصاحيصا، عن تأثره الشديد بما يحدث بمدينة بارا بولاية شمال كردفان، ويقول لمراسل «أتَـر»: «ربطتني ببارا وضواحيها علاقة ممتدة لأكثر من 40 سنة، أذهب في أكتوبر من كلّ عام للتعاقد مع عمال موسميين للَقيط القطن بمشروع الجزيرة، ويبقى العمال بالجزيرة في الفترة من نوفمبر وحتى أبريل، ليذهبوا إلى مناطقهم الأصلية لزراعة محاصيلهم الخريفية، ويعودون مرة أخرى». لقد تزوج حمدو من قرية جبل الرخمي بضواحي بارا، وزوجته تعيش الآن معه في الجزيرة. ويتأسف حمدو لما يحدث قائلاً: «ما رأيته من انتهاكات ومآسٍ بالجزيرة، أثناء سيطرة الدعم السريع عليها، لا أتمنى حدوثه لأي شخص ولو كان عدوّاً».
عندما استعاد الجيش بارا فرح حمدو فرحاً غامراً، وبات يفكّر في الرجوع إليها، ليطمئنّ هو وزوجته على أهلها، ويَطمئنَ هو على معارفه فيها، بيد أنه لم يفرغ من تدبير مستلزمات الزيارة، حتى ورد إليه خبر سيطرة الدعم السريع على بارا مرة أخرى، فانقلب فرحه حزناً شديداً، واعترت زوجته حالة نفسية عاتية.
وليس بعيداً من حمدو، يقول بركات عثمان من قرية الفوار بمحلية الحصاحيصا، إنه يدخل في نوبة بكاء، كلما تذكّر حال الناس في بارا، حين كان يذهب برفقة آخرين للتعاقد مع العمّال الموسميين للَقيط القطن، في قريته، ويقول لمراسل «أتَـر» إنه يستذكر تلك الأيام ويُقارنها بما يسمعه ويشاهده الآن، ويضيف: «حينما أتذكر الناس في فرج الله ونملة وأم قويز، والكرامشة، مليحة وشوق النوم، أبكي كثيراً».
ولا يُخفي سعيد فرج الله دكين من محلية الكاملين، لمراسل «أتَـر»، قلقهم بمجرد سماعهم أنباء سقوط الفاشر وبارا وأم دم حاج أحمد، إذ أحسّوا باقتراب خطر الدعم السريع منهم، ويقول: «الضاق لدغ الدبيب يخاف من جرّ الحبل».
لا حديث للناس هذه الأيام بالجزيرة، إلا عن أخبار المعارك في غرب السودان، التي يُتابِعون دقائقها على غير عادتهم في السابق، ويُحلِّلون أسباب الخسارة فيها وإمكانية المكاسب في المستقبل، في وقت ترتفع فيه مُكبّرات الصوت في المساجد والأسواق، تحثّ الناس على عدم ترك السلاح والتأكّد من جاهزيته، ووضع الأصابع على الزناد وإحياء نقاط الارتكاز التي تخلّوا عنها وطبّعوا مع الحياة المدنية.
وفي المقابل، إذا توقفت الحرب، فإنّ معركة جديدة ستبدأ: معركة استعادة الثقة. سيكون على المجتمع أن يُعيد بناء نفسه من الداخل، أن يجد من جديدٍ لغته المشتركة، وأن يعيد تعريف معنى الأمان. حينها، يمكن أن تؤدي مرَوي دَورها الزراعي في إعادة الإعمار، وتستعيد بورتسودان حيويتها التجارية، وتصبح الدّبة ملاذاً هادئاً للتوازن الأهلي والمبادرات الشعبية، وتعود أم درمان ملاذاً للناس جميعهم، وتعود مدن الفاشر ونيالا والأبيض وبارا بخيراتها وإنسانها وتملأ الجزيرة البلاد قمحاً ووعداً.



