أعلن قائد الدعم السريع يوم 29 أكتوبر الجاري أنّ قواته «طوَت صفحة الحرب في المدينة [الفاشر] وبدأت مرحلة السلم»، وصدَقَ بطريقةٍ ما؛ فالحياة ميدان الصراع، والحرب باب السلام الأبديّ الذي عبَره آلاف الشهداء في الفاشر وفي بارا وفي غيرهما، عُزلاً من السلاح أمام جبروت قوّاته. خاض جنود الدعم السريع في الفاشر حرباً كليةً منذ بداية حصارهم للمدينة الممتدّ لعام ونصف؛ حرباً ضدّ البشر والشجر والحجر، وانتهت مهمّتهم إذا جاز التعبير بقتل مرضى المستشفيات في أسرّتهم، ولم تترك حربُهم من الحياة صفَقَة شجرة. يعود عمران الفاشر المدينة الحالية إلى أواخر القرن الثامن عشر، حين اختار السلطان عبد الرحمن الرشيد، ولقبه «اليتيم»، وادي رهَد تندلتي في سهل الجبل الشرقي موقعاً لبناء عاصمته، وذلك لخصوبة أرضها، فقام قصرُه على الضفة الشمالية للوادي وازدهرت المدينة من حوله. سرعان ما صارت فاشر السلطان بذلك مركزاً تجارياً ومحطةً للقوافل التجارية العابرة من حوض النيل وكردفان وتشاد وليبيا.
كانت الفاشر هدفاً لأكثر من حرب، فقد دخلها الزبير باشا ود رحمة في 29 أكتوبر 1847 وكيلاً للتركية السابقة بعد هزيمة السلطان إبراهيم قرَض في مَنَواشي. وحاصرتها قوّات المهدية بقيادة خالد زقل، لمدة أسبوع أو نحوه، وقصفت الحاميةَ التركية الصغيرة نسبياً من موقع قصر السلطان إبراهيم حتى خضعت لها في 16 يناير 1884 (ج. د. لامبن، تاريخ دارفور، السودان في رسائل ومدونات، م 31، ع 2، جامعة الخرطوم، ديسمبر 1950، ص 177-207). ثمّ قصفتها طائرات سلاح الجو البريطاني في مايو 1916 ضمن الحملة الحربية لإخضاع دارفور بقيادة اللواء ب. ج. كيلي حتى هزيمة جيش السلطان علي دينار في برنجية واحتلال الفاشر المدينة في 23 مايو 1916 (ديڤيد كيلينغراي، يد الحكومة الحاسمة: سلاح الجو في مستعمرات بريطانيا الإفريقية، مجلة التاريخ الإفريقي، م 25، ع 4، دار جامعة كمبردج، أكتوبر 1984، ص 429-444).
لكن، لم تكن أيٌّ من هذه الحروب حرباً كلّيةً كحرب الدعم السريع، تنطفئ بها الحياةُ مرةً واحدة. إنْ كان العدوّ الذي تستهدفه الدعم السريع دولة الاستقلال في 1956، فقد وجد الاستعمار والاستقلال الفاشر قائمةً تبزّهما عمراناً وجذوراً، وإنْ كانت تستهدف «الإسلاميين» كقوة سياسية فليسوا هم الذين أعدمتهم بالرصاص في أسرّة المستشفيات وفي شُعَب المدينة حتى رصدت الأقمار الصناعية تراكم الجثث وانقلاب الأرض حمراء بالدم المسفوك، وإن كانت تستهدف القوة العسكرية للفرقة السادسة مشاة فقد انسحبت القوة من موقعها الذي ظلّت عنده لعام ونصف، وفازت الدعم السريع بالحيطان، لكنّ حربها «شاملة».
ظهر هذا المفهوم، «الحرب الشاملة» إلى العلن، عشية الحرب العالمية الثانية، وساد قبله مفهوم «الحرب الحاسمة» عند فيلسوفها كارل فون كلاوسفتس: إذا كان هدف الحرب هو فرض الإرادة على الخصم بقوة السلاح، فالنجاح فيها هو وضع الخصم في موضع يستحيل معه الدفاع عن النفس وتنعدم كلّ مقاومة، وأوّل خط دفاع هو الجيش النظامي، ومتى انهار أو انكسر انفتح الباب لهذه الإرادة. وكانت نظرة كلاوسفتس أنّ النصر على الخصم يتحقّق بمعركة فاصلة أو سلسلة معارك فاصلة تنكسر بها قدرته على القتال.
طوَّر الجنرال إريش فون لدندورف مفهوم «الحرب الشاملة» في سنين الذلّة الألمانية بين الحربين الأولى والثانية، ومسألتُه فيها؛ خلاف سيطرة المهنية العسكرية على الحرب والسلام، وكانت قد تضعضعت بالسياسة التي فرضها الحلفاء المنتصرون على ألمانيا المهزومة، تأكيدُ ما بين الحرب وصبغتها السياسية من وشيجة. وعكَس هذا المفهوم تحوُّلاً من تصوُّر الحرب بوصفها صراعاً عسكرياً بين جيوش إلى نزاع حول البقاء بين قوميات، فلم تعد مواجهةً عسكريةً لفرض مُلك أو إنقاذ عرش، وإنما صراعُ وجودٍ تندرج فيه أمّة قومية من الناس بحالها في مواجهةِ أخرى. انعكس ذلك أول ما انعكس في زيادة التجنيد العسكري، زيادة أعداد المقاتلين، وسيلةً لحشد الأمّة للقتال، هذا في مقابل «المدنيّين» في جبهة الأمة الداخلية.
جعل لدندورف أول عناصر هذه «الحرب الشاملة» كسر الجبهة الداخلية «المدنية» للعدوّ، ما يعجّل بانهيار بناء الدولة حتى قبل أن تنهار قوّتها العسكرية في جبهة القتال. واقترح لتحقيق هذا القصد، ضمن ما اقترح، تجنيد قوى غير نظامية تستطيع عبور خط النار العسكري لاختراق جبهة العدو الداخلية بالتخريب. خرج لدندورف بهذا الدرس من محاولة القيادة العسكرية الألمانية تجنيد «دفاع شعبي» خلال الحرب الأولى؛ المحاولة التي فشلت أيّما فشل، وكانت دليل لدندورف أنّ الجبهة الداخلية الألمانية انهارت قبل أن تنهار صفوفها العسكرية.
كان رأي لدندورف أنّ أمّةً تعصف بها الخلافات الداخلية لن تستطيع الصمود في مواجهة عسكرية، مثالُه في ذلك الجمهورية الألمانية بين الحربين العالميتين. وهي المرحلة التي روَّج فيها المثقّفون اليمينيّون، أرباب الفاشية الصاعدة، لضرورة «الحل الشامل» لمصاعب بلادهم التي أعجزت الديمقراطية الانتخابية، يفكّك القديم، يدمّره تدميراً، ويبعث من الرماد أمّةً جديدةً، تاريخُها في ماضٍ أسطوريّ غابر من الصفاء العِرقيّ. انتقلت عدوى الشمول هذه إلى ميادين حياتية مختلفة، فقد بشَّر والتر غروبيوس بتصميمٍ جديدٍ لمسرح «شامل» يضمّ الجمهور ضمن طاقم المسرحية، ونادَى الروائي إرنست يونغر بحشد الأمة، كلّ الأمة، للحرب، ثمّ زكّى القانوني إرنست فورتهوف مفهوم «الدولة الشاملة» في ورقة أكاديمية من العام 1933 كانت من الأسس الدستورية للنازية الألمانية.
قال لدندورف، من هذا الباب، إنّ النصر في الحرب معقودٌ بتجنيد كامل الأمة وخوض «حرب شاملة لا تستهدف القوات العسكرية للعدوّ فقط، وإنما تستهدف كلّ الشعب العدوّ». وهي عنده حرب عدائية لتحقيق أهداف دفاعية، الحفاظ على الأمة في مواجهة أعدائها من الأمم الأخرى، وعقيدته فيها أنّ أفضل وسيلة لضمان سلامة الأمة هي إبادة الأمّة العدو. فالحرب الشاملة، بهذا التقدير، هي حربٌ تحشد فيها الدولة الشاملة كلّ قواها لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية كلية. قد تستفظع قارئةُ اليوم مفهومَ لدندورف، لكنه مفهوم ظاهر واضح كاشف، قضيّتُه أنّ إخضاع أمّة العدوّ لا يمكن تحقيقه سوى باعتبار كلّ فرد فيها عدوّاً وهو بذلك هدف مشروع. جرى نشر كتاب لدندورف «الحرب الشاملة» في ديسمبر 1933 (دار نشر لدندورف، ميونيخ)، وحقّق في ألمانيا النازية شعبيةً تَصدَّر بها مبيعات الكتب غير الأدبية، وصار بها مفهومه «الحرب الشاملة» عنصراً من عناصر الخيال الشعبي. اشتُهِر على سبيل المثال نداء وزير دعاية هتلر، جوزيف غوبلز، للجماهير في ميدان قصر الرياضة في برلين في 18 فبراير 1943: «عايزين حرب شاملة؟»، وجواب الجمهور: «أيوه!».
جاز اعتبار «الحرب الشاملة» نمطاً مثالياً تقترب منه الحروب وتبتعد. جاء دارسون جدد للحرب، منهم ستيفن غراهام، صاحب «مدن تحت الحصار: الحضرية العسكرية الجديدة» (دار فرسو للنشر، لندن، 2010) بعناصر تتمايز بها الحرب الشاملة لصاحبها لندندورف عن الحرب الحضرية الجديدة، الحرب على المدن، ومثالها المُعاش، الذي تناقلته الشاشات حدثاً سينمائياً أو يكاد؛ الحرب الصهيونية على عاصمة الحرّية في عالمنا غزّة، أو في صيغة «قدِّر ظروفك»، بتكلفة أقلّ، وتقنية أدنى، حرب الدعم السريع على الفاشر. جنديّ الحرب الجديدة عند غراهام، مقاتل ريفيّ، وطنيّتُه قريته وربعه، يرى كلَّ مجال حضري ميدانَ حذر وخطر، فساد وتخثّر، والدار دار. ولا تُميِّز هذه الحرب في تطبيقاتها التقنية بين مدني وعسكري، فتستغلّ كلّ تقنية متوفرة، مدنية وعسكرية، للرصد والاتصال والتمويه والاستهداف، فلا يمكن في الحقيقة تمييز هذين الغرضين في وسائلها أو أهدافها. تقع عدسة الكاميرا في القلب من هذه التقنيات متعدّدة الأغراض، فهي وسيلة الرصد والاستهداف، وكذلك وسيلة التمويه والدعاية. من ذلك تكتيك الدعم السريع الثابت: إنزال أقصى درجات العنف بخصوم عُزل، والتمثيل بهم، والكاميرات تدور، ثمّ بثّ هذه العذابات على الملأ بقصد بثّ الرعب وإرهاب النفوس، ثمّ يتلو ذلك الإنكار المتكرّر، بدعوى أنّ ما بثّته الكاميرات كان صناعةً وتركيباً، وأنّ بعضه مدسوس مصنوع، مع الوعد بالتحقيق ومعاقبة الجناة وحسن السير والسلوك في مستقبل منظور.
يتعدّى هدف مثل هذه الحرب إخضاع الخصم أو كسر إرادته إلى مسح وإعادة تركيب المجال الحضري، كمثل الريفيرا التي يهذي بها ترمب ورهطه على ساحل غزة، أو المدينة الجديدة التي يتصوّرها الدعم السريع تخرج من رماد الإبادة في الجنينة والفاشر، مدينة بلا عوائق من التاريخ، تقوم على صفحة خالية لتحقيق أقصى الأرباح من مضاربات عقارية أو استثمارات تأتي ولا تأتي!
طالت يدُ الدعم السريع هذه المرة حتى بلغت حنجرةَ الفاشر فأطبقت عليها، وذلك بمَدد مستمرّ عسكريّ ولوجستيّ ومعلوماتيّ وتقنيّ وبشريّ مشدودٍ من الإمارات إلى بوصاصو الصومالية وكينيا وتشاد حتى كولومبيا ومصانع في صربيا وتقنيات أوكرانية وصينية، كأنّ الكون اجتمع على مدينة السلطان «اليتيم» هذه، لكنها لم تنهزم، حيّة كجمرة حيّة يحملها النازحون إلى طويلة وكرنوي في أجسادهم وعظامهم، كالفاشر النسخة الأولى؛ العاصمة التي كانت ترافق سلطان دارفور كرُوحه حتى قامت في الجغرافيا.



