من التحرير
احتبَسَت أنفاسُ البلاد بطولها وعرضها، وهي تُشاهد مقاطع الڤيديوهات والصور التي ورَدَتْ من الفاشر صباحَ الاثنين 28 أكتوبر، وهي تعكس اجتياح قوات الدعم السريع للمدينة، مُعلنةً سيطرتها الكاملة على أحيائها، والقرى من حولها، التي قاومت 18 شهراً.
كان الحدَثُ في نفسه عاصفةً من العواطف والآراء والتحليلات والمشاعر داخل البلاد؛ فقد أظهر الخوفَ والقلقَ والعجز. وفي جانب آخر أيضاً، أظهر فرحاً واحتفالاتٍ عند عدد مُقدّر من الناس. لا نُريد دليلاً أشدّ وضوحاً على حالة الانقسام حول الفاشر؛ فالحزين لا يعرف بالضبط لماذا أصابه الغمّ والحزن إلى هذه الدرجة، كما شرحها أحدُ المواطنين لمراسل «أتَـر» في نهر النيل، وكذلك الفَرِح. كلُّ ذلك يُشير إلى الاتجاه الذي تسير فيه البلاد، ولا عجب أن تكون الفاشر مرةً أُخرى مركز قصة السودان القديم والجديد معاً.
جاء الحصار ومن ثمّ الاجتياح إلى الفاشر من أقرب الأقربين إليها، من نيالا والضعين والجنينة. وكأنّ الحشد البشري المحلّي الذي حاصرَهَا لأكثر من سنة ونصف لم يكن كافياً، فقد سانده في ذلك الخبراء العسكريُّون من كُلِّ مكان في أفريقيا، وعَبَرَ مقاتلون كولومبيون البحارَ للانضمام إلى معركة الفاشر.
نقَلَت الطائرات العتاد الحربي الذي لم يرَه أهل السودان من قبل: مُسيَّراتٌ، كالطير الأبابيل ترمي بحجارةٍ من لهب وقنابل، وأنت لا ترى ولا تعرف من أين جاءت. ما الفاشر إذاً؟ وما قصّتها؟ ومن الذين قاتلوا فيها ليستحقّوا هذا المستوى من العُنف، وأن يُرسَل إليهم المقاتلون من جميع أنحاء العالم؟ وفي سبيل ذلك يُدفع بلا حساب. ما هي الجائزة التي أرادتها الدعم السريع من دخولها الفاشر؟
دائماً ما يقول محمد حمدان دقلو، إنه يقاتل مُضطرّاً، دفاعاً عن النفس؛ وتبريره الدائم أنّ جهةً ما تُريد أن تفعل بهم الشيء نفسه. هذه الجهة يُسمِّيها «الحركة الإسلامية»، ثمّ أصبح قادة الدعم السريع، العسكريون منهم والمدنيون، يُردِّدونها. لم تقتصر الحرب على الإسلاميين المُنظَّمين في الحركة الإسلامية بقناعات شخصية، وإنما شملت أيضاً أولئك الذين لا يعرفون أنهم أعضاء في الحركة الإسلامية، لكنّ الشبهة أو الملامح أو السلوك جعلتهم كذلك في مزاج جنديّ الدعم السريع الذي لا يتردَّد في إطلاق النار لا لشيء سوى أنه يستطيع أن يفعل ذلك.
لا يُغيّر هذا حقيقةَ أنّ السودانيين اجتمعوا في كلِّ مدينة، ليَرفضوا نظام الإسلاميين، وسلّموا السلطة من بعد ذلك إلى جنرالات. ولقد كان حميدتي عنصراً أساسياً من المكوّن العسكري، ونائباً لرئيس مجلس السيادة وتاجراً لا يُشَقُّ له غبار، وقبلها كان حامياً لسلطان البشير في دارفور وكردفان والخرطوم أيضاً. كان حينها، أي في الفترة الانتقالية، يَعلم أن الإسلاميين إمّا في السجن أو اختفوا أو مساكين على باب الله لا حول لهم ولا قوة بالنظر إلى إمبراطوريته. لم يَأبه لهم، وتعامَلَ معهم خلال الفترة الانتقالية، وحينما توصّل إلى تفاهمات معهم تركهم وشأنهم. كانت مشكلة حميدتي الأساسية مع القوات المسلحة، هي منافسه، وهي التي يرغب أن يحلّ محلها بقواته، وبعبارته في خطابه: «جيش جديد لنج». تحوّلت رواية الدعم السريع لتشمل نطاقاً واسعاً شمل ما سُمِّي «دولة 56»، وهو تاريخ بداية الدولة المُستقلّة؛ لكن دائماً ما تعود الرواية لدى حميدتي إلى الإسلاميين أسامة عبد الله وعلي كرتي وهكذا.
بافتراض أن كلّ ذلك صحيح، هل يُبرّر ذلك سحلَ أهل السودان وقتلهم وتشريدهم وتدمير بنيتهم التحتية؟ هل هذا هو الحل المثالي للأخطاء التي ارتكبتها دولة 56؟ وللمفارقة كانوا جميعاً من المستفيدين منها وصُنّاعها ومساهمين أساسيّين فيها!
ثمّة خطأ شنيع في هذه الرواية، لكن بعد الهجوم الأخير على الفاشر، انهارت تماماً. لم تكن الفاشر معقل الإسلاميين، ولا يُرجَّح أن تكون مخبأ لعلي كرتي أو حتى محمد عثمان كبر. وإنما هي في الحقيقة مدينة كانت يمكن أن تكون حليفةً، إذ لا يمكن أن يستقيم نظامٌ في السودان دون الفاشر. رفض أهل الفاشر الخروج من بيوتهم ومنازلهم، وكذلك جنود الفرقة السادسة، لأنّ علاقتهم بالمدينة ليست علاقة عمل وحسب، وإنما من دمها ولحمها وإشلاقها. نزل العقاب على أهل الفاشر، لأنهم رفضوا الخروج من المدينة، أكلوا الأمباز وجلود المواشي، وناموا في الخنادق ولم يخرجوا حينما كان ذلك مُتاحاً.
المعلومات الأولية، بما في ذلك تحليلات صور الأقمار الصناعية، أظهرَتْ مستوى العنف الذي أعقب سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة، بعد انسحاب قيادة الفرقة السادسة بالفاشر: عنفٌ جنسيٌّ وإعداماتٌ وثّقتها كاميرات جنود الدعم السريع أنفسهم، وأكّدتها تقارير، منها تحليل بيانات صور الأقمار الصناعية بواسطة جامعة ييل. لقد سَمّى حميدتي جميع ذلك في خطابه الأخير «تجاوزات»، ثم سمّاها كارثة لم يستطع السيطرة عليها! رغم أن روايات العنف والقتل والإعدامات في الفاشر قد غمرت الأخبار وتصدّرت عناوينها، وجذبت الانتباه المحلي والعالمي.
تَرغَبُ قوات الدعم السريع، وتتفق في ذلك مع تحالف تأسيس السودان والإمارات من خلفهما، في صناعة موقفٍ تفاوضيٍّ جديدٍ، وفي السعي إلى ذلك تحتاج إلى توسيع نطاق عملياتها العسكرية للسيطرة على أكبر نطاق من الجغرافيا. يأتي ذلك تمهيداً لخطة الرباعية: الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، ومصر؛ بفرض اتفاق وقف إطلاق نار لمدة ثلاثة أشهر بدايةً. إذن، تستخدم الدعم السريع جميعَ إمكاناتها لدخول مُفاوضاتٍ مع من تسمّيهم «الإسلاميين» أو في الحقيقة مع ضباط القوات المسلحة الذين يسيطر عليهم الإسلاميون. المُشكلة في هذه الخطة، أنّ وسيلتها العنف الذي دمَّر ما يُمكن أن يَصلُح أساساً للتفاوض، والمشكلة الثانية أن الدعم السريع خلقت دعايةَ تجنيد لا يمكن السيطرة عليها في حالة السلام.