أتر

كايا: معسكر الانتظار الذي سيطول

اللوحة مستلهمة من أعمال الفنان Medo Kagonka

على الحدود الجنوبية الشرقية مع السودان، يبدأ اللاجئون السودانيون رحلتهم الاضطرارية إلى معسكر كايا بإقليم المابان بدولة جنوب السودان، حيث يتحتم عليهم قبل بلوغه أن يحطوا رحالهم أولاً بمعسكر “السلك”، في الجانب الشمالي الشرقي من مدينة الرنك في ولاية أعالي النيل بجنوب السودان، ويبعد حوالي خمسة كيلومترات عن السوق الشعبي الواقع وسط المدينة.

قبل الوصول إلى معسكر “السلك”، يرى الناظر بوضوح أعلام الأمم المتحدة والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) ترفرف من البعيد، علامةً على موقع المعسكر الذي يبعد كيلومتراً واحداً عن موقع جامعة أعالي النيل التي لم يكتمل إنشاؤها، وقد اتخذت مبانيها معسكراً أيضاً. وبين مُعسكَرَي السلك والجامعة، تصطفُّ دكاكين القشّ، مُشكّلة سوقاً صغيرة نشأت مؤخراً من رحم معاناة الفارين من جحيم الحرب، لتفي ببعض احتياجاتهم.

ويأوي الموقعان المتجاوران، “السلك والجامعة” حشوداً من الناس، لاجئين من السودان وعائدين من جنوب السودان، قذفت بهم حرب السودان، واحتضنتهم ولاية أعالي النيل، يتكدسون في مجموعات من الخيام تبدو عليها البساطة، نُصبت على عجل كي تقي شرّ ساكنيها حر الشمس فقط، وليتها تفعل.

عند التجوال داخل السلك، ستجد العديد من العنابر التي جرى تصميمها لتكون مُخصّصة للاجئين والعائدين، لكن تعوزها خدمة الكهرباء.

نوتة

تقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إن أكثر من 1800 شخص يصلون إلى جنوب السودان يومياً، مما يزيد الضغوط التي تتعرّض لها البنى التحتية في الدولة المُستضيفة. وبحسب تقرير أصدرته المفوضية، حول الاحتياجات الخاصة بإعادة التوطين حول العالم والمتوقعة لعام 2025، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 2.9 مليون لاجئ في جميع أنحاء العالم سوف يحتاجون إلى إعادة توطينهم في العام المقبل، من بينهم 1.8 مليون عبروا الحدود السودانية فعلاً.

“في صباح العاشر من رمضان الماضي، جُمعنا وطُلب منا الذهاب إلى الطلمبة التي تبعد حوالي كيلومتر عن معسكر السلك، وكان قد جرى تسجيلنا سابقاً وإعلامنا بأمر السفر إلى المابان”؛ يقول موسى، الذي التقى به مراسل “أتَـر” في المعسكر السلك، وهو أحد الذين ذهبوا إلى معسكر كايا وعادوا منه إلى الرنك.

يروي موسى رحلته إلى إقليم المابان قائلاً: “وصلت شاحنات جرّارة، ونقلتنا إلى مابان، في رحلة استغرقت حوالي ثماني ساعات مشحونة بالترقب والقلق، ووصلنا بعد مغيب الشمس إلى معسكر “جندراسا”، وهو مركز الاستقبال الذي تجري فيه إجراءات التسجيل، حيث استلمنا كروت التسجيل، ومنها وُزِّعْنا على معسكرات دورو، وكايا، ويوسف باتيل. وزّعت لنا المنظمة الأممية مواد غذائية، عبارة عن دقيق وزيت وعدس وجنجارو “فاصوليا بنيّة”، إضافة إلى صابونة واحدة، اضطررت إلى بيعها لاحقاً، ووحدة طاقة شمسية صغيرة لشحن الهاتف والإضاءة، ومجموعة متنوعة من الأواني البلاستيكية التي تُستخدم في المطبخ، وبطانية، وفرشة، وناموسية، وجردل، وإناء من البلاستيك لجلب مياه الشرب”.

نُقلوا في الصباح إلى معسكر “كايا”، الذي لم يكن بعيداً، وينقسم إلى معسكرين يفصل بينهما شارع رئيس كبير، عُبّد في 2011 إبان الهجمة التي شنَّتها قوات مالك عقار على مدينة الدمازين. وعلى مسافة قريبة، قام سوق كايا على أكتاف المعسكر، ويمد قاطني المعسكر بالاحتياجات اليومية البسيطة.

يُخبر موسى مراسل “أتَـر”: “عند وصولك إلى معسكر كايا ستجد كثيراً من الكرانك الخالية التي هجرها أصحابها، وهي مساكن بلدية تشبه طبيعة ذاك المكان، حيث يكثر هطول الأمطار لفترات طويلة. ويتسع الكُرنُك الواحد لأربعة أشخاص”.

اتخذ موسى ورفيقه أحد تلك الكرانك الجاهزة مسكناً لهما. ولأن المعسكر غير مسوّر، يستطيع أفراد من المجتمع المحلي -الذي يتكوّن من قبائل الأنقسنا- الحضور في أي وقت، ويعمدون أحياناً إلى فكّ المشمع عن تلك الكرانك المهجورة.

“كان لزاماً علينا قضاء شهر حتى نستطيع صرف الإعانة التي تبلغ عشرة آلاف باوند جنوب سوداني-أي أقل من خمسة دولارات- لكن عرفنا من بعض الأشخاص الذين تعدوا الشهر ولم يصرفوا مستحقاتهم، أن الصرف لا يبدأ إلا بعد مرور 45 يوماً من القدوم”، يضيف موسى.

يقع معسكر كايا في غابة ذات مناخ استوائي كثير الأمطار، تحيط به الأشجار من جميع جوانبه، ويكثر وجود العقارب والثعابين السامة، يقول موسى: “كنا نضطر إلى رفع فرش النوم على أعمدة خشبية غليظة من الجوانب، مع ضرورة وجود كشاف أو إضاءة ثابتة نستخدمها أيضاً أثناء الحركة الليلية. وما يزيد من القلق دخول مياه الأمطار داخل الكرنك”.

قابل موسى كثيراً من الأفراد والأسر ممّن عبّروا له عن شعورهم بالضيق من عدم توفر ظروف ملائمة للبداية من جديد، مما جعل كثيراً من الأسر تُفكِّر في سُبل العودة إلى الرنك، ويحول بينهم وذلك المال اللازم.

“لم يُصرف لنا مال الإعانة الشهرية في عيد الأضحى السابق، واضطررنا إلى بيع بعض الأدوات التي منحتنا إياها المنظمة حتى نُؤمّن ثمن تذكرة العودة إلى مدينة الرنك، وها نحن مرة أخرى نعود المكان ذاته، لنُحاول البدء من جديد في رحلة البحث عن مكان نُعيد فيه توطين أنفسنا، وإيجاد معنى لحياتنا بعد أن شرّدتنا هذه الحرب الملعونة”، يضيف.

نوتة

ليست هذه أول مرة يصل فيها أهل السودان، لاجئين ولاجئات، إلى معسكر كايا. في 2015، نزحت 129 أسرة من قرى النيل الأزرق إلى معسكرَي جندراسا وكايا بعد أن شنت مليشيا قوات الدعم السريع هجوماً على عدد من قرى النيل الأزرق وأحرقتها، وهجّرت وشرّدت المواطنين منها. وكان القتال قد اندلع قبلها بأربع سنوات بين الجيش السوداني وقوات الحركة الشعبية شمال في 2011، وما فتئ يشرّد أهل الإقليم طوال السنوات التالية، ومنذها ظلّ كثيرٌ من أهل النيل الأزرق ينزحون نحو معسكر كايا بإقليم المابان. ويقبل مُخيّمان في منطقة المابان (دورو وكايا) بشكل متكرر لاجئين جدداً من السودان، حيث تخطط الجهات المشرفة لمساحة إضافية تتسع لما يصل إلى 50,000 فرد.

بعد وصولها إلى جوبا، تحكي ليلى متحدثة لمراسل “أتَـر”، وهي أم لثلاثة أطفال، عن تلك الأيام، التي كانت في أواخر شهر يناير من العام الجاري: “بعد معاناتنا التي امتدت طوال الفترة التي قضيناها في معسكر الجامعة، بتنا نترقب الذهاب إلى المابان. ذهبنا عند الصباح الباكر إلى الطلمبة، وهي نقطة التجمع للذهاب نحو المابان”.

تصف “ليلى” رحلتها بأنها شديدة الصعوبة، فالطريق غير معبدة وممتلئة بالحفر، وسائق الباص يتمادى في سرعته، مُبرراً بأنه يريد أن يصل إلى منطقة المابان قبل مغيب الشمس، وقد يظهر قطاع الطرق المسلحون.

“وصلنا معسكر جندراسا بعد طول عناء، وتوقفنا لإنزال إحدى راكبة حبلى بسبب لتعرضها لنزف بسبب وعورة الطريق، وانتظرنا حتى وصول سيارة الإسعاف التي حملتها لترجعها إلى الرنك. كان الاستقبال في جندراسا جيداً يوحي بالاهتمام. قضينا تلك الليلة لإكمال بقية الإجراءات، وحصلنا على حصتنا من الأغذية والمعدات اللازمة مثل الأغطية والمفارش والأواني وبطارية الشحن، حملنا توقعاتنا لحياة جيدة لزوجي وللأطفال”.

وفي معسكر كايا، في وسط الغابة، قضت أسرة “ليلى” أياماً يحاول فيها أفرادها التكيف على هذا الوضع: “كنا نبيع ما يفيض عن حاجتنا لنتدارك ما ينقصنا لنأكل، أُصبنا بالإحباط بعد أن حاول زوجي البحث عن عمل، وكان يستغرق الوصول إلى مكان العمل المشي مسافة ساعة، لقطع القنا وحمله لمسافات طويلة لبيعه، وعلى الرغم من هذا العناء لم يكن يعود بعائد مُجْزٍ”.

وعند بداية أشهر الخريف ونزول المطر، تضحي المنطقة معزولة تماماً عن بقية ولايات جنوب السودان، وقد تمتد هذه العزلة لما يزيد عن الستة أشهر.

مع بدايات شهر فبراير، ودون أن تنتظر يومها العاشر قرَّرت ليلى وزوجها الخروج من معسكر كايا والذهاب نحو جوبا، تحديداً نحو معسكر قروم لعلهم يجدون الأمان، ليواصلوا رحلة الانتظار الذي ربما سيطول.

Scroll to Top