
اللوحة مستلهمة من أعمال الفنان Medo Kagonka
لم يَسْبِقْ لآدم، وهو تاجرُ ذرةٍ في سوق صابرين بمحلية كرري بأم درمان، أن اضطرَّ إلى بيع الذرة بالتجزئة، بمكيال أقل من الملوة؛ لكنه في هذه الأيام أصبح يفعل ذلك، لأن بعض الناس لا يملكون سعر ملوة الذرة.
يعلق آدم على ذلك قائلاً: “أتوقع أن تنخفض القدرة الشرائية أكثر، ويلجأ الناس لشراء أقل من ملوة من الذرة أو الدقيق، لأن مدخراتهم المالية نفدت، ولا أحد يجد عملاً يقوم به في الوقت الراهن”، ويضيف: “قد يتوقفون عن الشراء نهائياً، لكنهم لن يستطيعوا مقاومة الجوع”.
وقد انقطع إيراد الذرة إلى سوق صابرين من ولايات الجزيرة والنيل الأبيض وسنار، بسبب سيطرة الدعم السريع على الطُّرق الرئيسة. ويعتمد سوق صابرين حالياً على وارد سوق القضارف.
لكن معضلة الرسوم المُتعدِّدة والتكلفة العالية للترحيل والرشاوى على الطُّرق، تحِدُّ من تفكير تجار الذرة في جلب مزيد منها. وتمر شحنات الذرة عبر رحلة من القضارف إلى كسلا وهيَا بولاية البحر الأحمر، وعطبرة فشندي حتى سوق صابرين.
ويقول آدم إن ترحيل الجوال الواحد يكلف 15 ألف جنيه سوداني، إضافة إلى رسومٍ قيمتها 5 آلاف جنيه فرَضتها السلطات في القضارف، منها ألفَا جنيه للمحلية و3 آلاف للمُقاومة الشعبية، بينما يدفع التجار رشاوى عديدة في الارتكازات العسكرية على الطرق.
وما زالت أسعار الذرة في القضارف هي الأقل بين الولايات. ويبلغ سعر جوال ود عكر 30 ألف جنيه، والذرة الفتريتة 25 ألف جنيه، والدخن 40 ألف جنيه.
وفي سوق صابرين يُباع جوال الذرة الفتريتة بـ 80 ألف جنيه، وسعر جوال ود عكر 80 ألف جنيه، وجوال الدخن 130 ألف جنيه، وجوال القمح 125 ألف جنيه.
ويُنبّه آدم في حديثه لمراسل “أتَـر”، إلى أن كثيراً من المواطنين باتوا لا يستطيعون الحصول على حاجتهم من الذرة والدقيق، لنفاد مدخراتهم المالية.
وظلَّت أسعارُ الذرة تشهد ارتفاعاً مُطّرداً في عددٍ من ولايات السودان للعام الثاني على التوالي، بسبب تدنِّي الإنتاج في بعض المناطق، وعدم زراعة مناطق أخرى، وتعرّض المحاصيل الزراعية في المخازن والأسواق للتلف والسرقة والتعدي من قِبَلِ المجموعات المُسلّحة في الولايات التي امتدت إليها يدُ الحرب، لكنها لم تبلغ الحدَّ الذي وصلت إليه بعد سيطرة الدعم السريع على أجزاء واسعة من ولاية سنار، وقطع الطريق نحو ولاية النيل الأبيض.
وخلال شهر يونيو الماضي، زادت أسعار الذرة في عدد من ولايات السودان بنسبة تتراوح بين 25% و35%، بينما كانت الزيادة في الأسعار بين الموسم الزراعي الماضي، والحالي تقترب من 75% بحسب إفادات حصلت عليها “أتَـر” من عدد من تجار المحاصيل الزراعية والمزارعين.
وقفز سعر جوال الذرة “طابت” بمدينة الأبيض بولاية شمال كردفان في الفترة ما بين 15 أبريل 2023 و12 يوليو الجاري، من 30 ألف جنيه إلى 125 ألف جنيه، وجوال الفتريتة من 19 ألف جنيه إلى 105 آلاف جنيه، وجوال القمح من 35 ألف جنيه إلى 125 ألف جنيه، مع عدم توفر محصول الذرة الأحمر المعروف بود الفحل، وهو مفضّل لدى قِطاع واسع من المواطنين بالولاية.
وفي مدينة أم روابة الواقعة شرق مدينة الأبيض بلغ سعر جوال الذرة الفتريتة 140 ألف جنيه وجوال الدخن 170 ألف جنيه.
ويُعزى غلاء أسعار الذرة بولاية شمال كردفان إلى تعثّر عمليات الزراعة في الموسم الماضي، بجانب عدم تمكّن البعض الآخر من المزارعين من إكمال عملية حصاد المناطق التي جرت زراعتها بسبب حالة الانفلات الأمني التي تشهدُها الولاية بعد سيطرة الدعم السريع على أجزاء واسعة منها، ووقوع حالات السطو والسرقة التي تعرضت لها أسواق الولاية ومخازن الغلال بكل من الأبيض وأم روابة والرهد.
وفي مطلع يونيو 2023 أعلن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة تعرض مخازن البرنامج في مدينة الأبيض للسطو. وقال البرنامج في بيان وقتها إن كمية الذرة والمواد الغذائية الأخرى التي تمت سرقتها تكفي لـ 4.4 مليون شخص.
يقول أحد تجار الذرة بمدينة الأبيض، فضّل عدم ذكر اسمه لدواع أمنية، إن اللصوص والمُسلّحين الذين اجتاحوا الأسواق مع محاولة الدعم السريع فرض سيطرته على مطار المدينة نهبوا جميع مخازن الذرة.
ويخبر التاجر “أتَر” بأن جوال الذرة الفتريتة بات يُباع بخمسة آلاف جنيه فقط في الأسواق التي عُرفت بأسواق دقلو بدلاً عن سعره الحقيقي 19 ألف جنيه وقتها.
وبعد نهب الأسواق وتوقف عمليات الحصاد بالمشاريع الزراعية بولاية شمال كردفان، اعتمد التجار على جلب الذرة من ولاية النيل الأبيض ومن المشاريع الزراعية في الجزء الشرقي من ولاية جنوب كردفان.
ويقول التاجر، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، إن الترحيل والجبايات مقابل كل جوال ذرة، والرشاوى التي يدفعها التجار في ارتكازات الدعم السريع التي تحاصر مدينة الأبيض من جميع الأطراف، تزيد أحياناً عن سعر شراء جوال الذرة، لذا ارتفعت الأسعار إلى ما هي عليه اليوم.
ويُباع جوال الذرة الفتريتة في سوق تَندَلتي بولاية النيل الأبيض بـ 110 آلاف جنيه، بزيادة 40 ألفاً عن سعره في يونيو الماضي، وفي كوسْتي وربَك يُباع بـ 100 ألف جنيه، وفي الدويم قفز إلى 120 ألف جنيه.
ويتراوح سعر جوال الذرة ود عكر في ولاية النيل الأبيض، بين 130 و140 ألف جنيه. ويُرجع عدد من تجار المحاصيل الزراعية أسباب ارتفاع الأسعار إلى الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على الولاية من جميع الاتجاهات.
يكلف ترحيل الجوال الواحد يكلف 15 ألف جنيه سوداني، إضافة إلى رسومٍ قيمتها 5 آلاف جنيه فرَضتها السلطات في القضارف، منها ألفَا جنيه للمحلية و3 آلاف للمُقاومة الشعبية، بينما يدفع التجار رشاوى عديدة في الارتكازات العسكرية على الطرق.
ويقول تجار في سوق الذرة بمدينة تندلتي لـ “أتر”، إن الفترة ما بين مايو ويوليو الجاري، شهدت توقف وارد الذرة إلى السوق مما زاد من سعر البيع. وقال التجار الذين فضّلوا جميعهم حجب أسمائهم لدواعٍ أمنية، إنهم كانوا يجلبون الذرة من سنار ومن الدالي والمزموم بولاية سنار، لكن الوارد توقف بعد إغلاق الطريق بين الولايتين من قِبَلِ الدعم السريع.
الزيادة المُطّردة في أسعار الذرة دفعت السلطات في مدينة تندلتي لمنع نقلها إلى خارج المدينة، وبعد احتجاج التجار الذين شكوا من توقف عمليات البيع سمحت السلطات لكل تاجر بأن يبيع خمسة جوالات ذرة فقط في اليوم خارج تندلتي.
وكشفت مصادر محلية بسوق تندلتي لـ “أتَر”، أن قرار منع البيع وتحديده لاحقاً قصدت به السلطات الحد من نقل الذرة إلى ولاية شمال كردفان. وقال المصدر الذي فضّل حجب اسمه لدواع الأمنية، إن عشرات القرى الواقعة في ولاية شمال كردفان بات سكانها يحصلون على احتياجاتهم اليومية من سوق تندلتي، وحتى لا تتأثر السلع القليلة وفي مقدمتها الذرة سمح لكل تاجر من خارج تندلتي بترحيل 5 جوالات ذرة فقط.
وخلال عشرة أيام، قفز سعر جوال دقيق القمح زنة 25 كيلو بسوق تندلتي من 27 ألف جنيه إلى 50 ألف جنيه مما رفع من استهلاك دقيق الذرة بأنواعها.
وفي ولاية كسلا شرق السودان، بلغ سعر جوال الذرة الفتريتة 100 ألف جنيه. وعزا أحمد صاحب طاحونة بسوق كسلا الزيادة العالية في سعر الذرة إلى زيادة الإقبال على استهلاكها بعد ارتفاع سعر الخبز. وقال أحمد لـ “أتر” إن سعر الرغيفة الواحدة تضاعف من 100 جنيه إلى 200 جنيه، وهو ما جعل كثيراً من الأسر تستعيض عن الرغيف بالكسرة.
ويقول عبد الرحيم من وحدة ود عَشَانا الإدارية بولاية شمال كردفان، إن المواطنين باتوا يواجهون معاناة حقيقية من أجل شراء الذرة، ويُخبر “أتَر” بأن حالة الجوع بدأت تنتشر بين السكان على نحو ملحوظ.
“الناس فقدوا مصادر دخلهم الرئيسة وهي الزراعة”، يقول عبد الرحيم ومن ثم يُشير إلى أنهم في العام الماضي لم يتمكنوا من حصد المحاصيل الزراعية بسبب الاعتداءات المُتكرّرة من قِبَلِ قوات الدعم السريع بعد سيطرتها على المنطقة في نهاية شهر سبتمبر 2023.
نوتة
وفقاً لأحدث بيانات التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، فإن حوالي 755,000 شخص يعيشون أوضاعاً كارثية من الجوع، إذ وصلوا إلى المرحلة الخامسة في التصنيف العالمي لقياس مستوى الجوع. ووفقاً لبرنامج التصنيف التابع للأمم المتحدة، فإن قرابة 25.6 مليون شخص يواجهون مستويات عالية من الجوع الحاد (المرحلة 3 + من التصنيف).
وتعرّضت مخازن الذرة في المزموم وسنجة لعمليات نهب واسعة بعد سيطرة الدعم السريع على المدينة. وقال أحمد عطا المنان من جبل مويا، التي انطلقت منها قوات الدعم السريع نحو سنجة، إنه فقد ما يزيد عن 300 جوال ذرة جرت سرقتها، وأن العشرات غيره فقدوا كميات كبيرة من الذرة.
وقال مزارعون بمشروع الجزيرة، إنهم لأول مرة لن يزرعوا بسبب عدم توفر الأمن وانهيار البنية التحتية للمشروع، التي تعرّضت لسرقة مُنظّمة بعد سيطرة الدعم السريع على الولاية.
وطبقاً لإفادات مزارعين وتجار محاصيل زراعية بولاية سنار والنيل الأبيض، فإن الأيام القادمة يُتوقع أن تشهد ارتفاعاً كبيراً في أسعار الذرة، وقالوا إن المتوفر حالياً لا يتناسب مع الطلب المتزايد عليها بعد ارتفاع أسعار دقيق القمح الذي يتراوح بين 50 و65 ألف جنيه للجوال زنة 25 كيلو في عدد من الولايات، مما دفع أصحاب المخابز إلى مضاعفة سعر الرغيفة الواحدة إلى مائتي جنيه.
هذا كله في مقابل خروج أهم المشاريع الزراعية بولاية سنار والنيل الأبيض وأجزاء واسعة من القضارف من دائرة الإنتاج لهذا العام. وقال مزارعون تحدثوا لـ “أتَـر”، إنهم غير راغبين في المجازفة بالزراعة في ظل حالة الانفلات الأمني الراهنة. وهو ما يُنذر بكارثة جوع قادمة في ظل انعدام الذرة وهي العنصر الغذائي الرئيس في السودان.