عثمان مُحاسبٌ في إحدى الشركات التجارية بمدينة الأُبيّض، ترك عمله قبل الحرب ليعمل لحسابه الخاص، مُستفيداً من علاقاته التي كوّنها أثناء عمله السابق، فأصبح وكيلاً لإحدى الشركات الهندية التي تبيع الآليات الزراعية، وحقّق دخلاً لا بأس به وسمعة جيدة في عالم الأعمال، أعانته لاحقاً في تدبير حياةٍ انسربت في منعرجات ضيقة.
ثم اندلعت الحرب..
يقول عثمان، إنه حينما انطلقت الرصاصة الأولى، وأدار الجميع وجوههم صوب مصدر الصوت المُزعج لانفجار دانة مدفعية ثقيلة داخل مطار الأُبيّض، لم يُرِد أن يصدّق أن ثمة أمراً جللاً قد حدث؛ فقد كان في تلك اللحظة يُبرم عقداً في سوق المدينة ربما يدرُّ عليه دخلاً معقولاً إذا سارت الأمور على النحو الذي يرجوه. ولكن هيهات! فقد تكثّف إطلاق النيران من الجهة الجنوبية الغربية، حيث مقرّ قوات الدعم السريع، ودارت معركة ضارية انتهت بسيطرة الجيش على الموقع وانتشار القوة الأخرى داخل أحياء المدينة، ليتواصل القتال ناثراً على جنبات الطرق الداخلية الأشلاء البشرية والرعب داخل منازل لم تعتد على هذا المشهد المفتوح على المجهول، لكن في تلك اللحظة أسرع عثمان إلى منزله في حي الناظر ليواجه واقعاً مُختلفاً وحياةً لم يألفها من قبل.
كان يقيم مع أطفاله وزوجته في منزل الأسرة الكبير، وفي صباح اليوم التالي استقبل أسرتَي شقيقه وشقيقته القادمَيْن من الخرطوم، بعد أن نجوا من الموت بأعجوبة سيجري سردها على الأهل والجيران في قادمات الأيام. أما الآن فيتعيّن على عثمان أن يتدبّر إطعام عدّة أفواه، فَقَدَ من يعولونها مصادر أرزاقهم.
أوّل ما فكر فيه هو إنشاء طاحونة تضمن له ولأسرته دقيق الذرة، وقد تدرُّ عليه دخلاً سيكون في أمسّ الحاجة إليه؛ فاتجه إلى مُدّخراته التي كان يُخطِّط لاستثمارها على نحو مُختلف، وهو مستلقٍ في الحوش الكبير تحت سماء المدينة المرصعة بالنجوم، وجمع ديونه المستحقة على المتعاملين معه لكن دون إلحاح.
توفر له قدر من المال لا بأس به، وتمكَّن من شراء وابور لتوليد الكهرباء وسحّانة، وتحوَّل جزء من المنزل إلى مقرّ للمشروع، الذي شكَّل مخرجاً لنساء الحي؛ فقد توقفت جميع الطواحين بسبب انقطاع الكهرباء. وثمة قليل منها في سوق ود عكيفة البعيد من حي الناظر، بحيث يصعب على امرأة طاعنة في السن أو متوسطة العمر أن تحمل ملوة من الذرة ذهاباً وإياباً.
لكن الصعوبات لم تنتهِ عند هذا الحدّ، فعثمان عضو في لجنة الحي، التي قررت في اجتماع عاجل لها فتح المركز الصحي المُهمل منذ أمد بعيد. وأخذ عثمان التكليف، لكن ماذا يفعل؟ اتصل على الفور بجميع أبناء الحي العاملين في الحقل الصحي وطلب منهم الانتظام في العمل بالمركز، كما بعث برسالة إلى جميع أبناء الحي المغتربين وفي دول المهجر، الذين أبدوا بدَورهم حماساً فائقاً للمشروع. وكانت أولى الصعوبات التي واجهت عثمان هي توصيل الكهرباء للمركز الصحي؛ فالأجهزة التي أُحضرت بالتبرعات العادية يحتاج تشغيلها للكهرباء. وقد تعهّد أبناء الحي المغتربون بدفع تكاليف مشروع طاقة شمسية، ويجري جمع تبرعات لذلك، لكنها لم تكتمل، والحل العاجل حتى دون أن يسميه أحد هو “وابور الطحين”، مما يتطلَّب تنظيمَ أوقات العمل، فالطاحونة يجب أن تعمل بعد الظهر.
وفي اجتماع لجنة الحي وبعد الاطمئنان على تشغيل المركز الصحي، انتقل الاجتماع إلى الجَند الآخر، وهو مياه الشرب بعد أن تعذَّر جلبها من الحفائر في غرب المدينة، وكان الحل العملي هو تشغيل مضخّة المياه المالحة، مما ضاعف مهمة وابور الطحين الذي سوف يعمل طوال اليوم بين المشروعات الثلاثة، ويبدو أن أهم مشكلات الحي قد وجدت لها حلولاً ولو كانت مؤقتة.
لكن دائماً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
في صباح يوم غائم جاء عثمان ليأخذ الوابور إلى المركز الصحي، لكنه وجد أنّ أقفال المحل قد تغيّرت، ولم تستجب لمحاولات المفتاح الذي معه، فاحتار في الأمر ونفض عنه جميع الاحتمالات التي خطرت بباله، فلا يمكن أن يكون أحد سكان الحي قد فعل ذلك، أو أن لصاً سطا على المكان، وإلا ما كان سيهتم أصلاً بتغيير القفل أو حتى إغلاقه.
لم يَطُل به الانتظار حتى رنّ هاتفه، وكان المتحدث من الطرف الآخر موظفاً من محلية شيكان، أخطره بأنهم هم من غيّروا قفل المحل، وحذّره من الإتيان بأي فعل غير قانوني مثل كسر القفل بالقوة، لأن ذلك من شأنه أن يُعرّضه لمُساءلة قانونية، وأن عليه مراجعة مكاتب المحلية غداً صباحاً بسبب شروعه في نشاط استثماري دون إذن السلطات المعنية.
في صباح اليوم التالي، تقدّم عثمان بعريضة للمحلية، أوضح فيها أن السلطات لحظة افتتاح الطاحونة لم تكن موجودة أصلاً؛ فالمدينة كانت خالية تماماً من السلطة المدنية والشرطة والنيابة، ولم تنتظم الحياة فيها إلا بعد عدة أشهر من اشتعال الحرب، ولا يمكن الانتظار تلك المدة كلها بلا خبز، وعدَّد في خطابه الخدمات التي يُقدِّمها وابور الطحين فيما يخصّ مضخة المياه والمركز الصحي.
لم يُعِر الضابط التنفيذي ما ورد في العريضة أي اهتمام. وكتب في مؤخرة الطلب: (يُحلّ الأمر عبر تسوية مالية)، وأحيل عثمان والطلب إلى مكتب التسويات. هنا، دون أن يرفع الموظف الجالس خلف الطاولة الخضراء عينيه عن الورقة التي أمامه أو حتى ينظر إلى عثمان، قرّر تقدير قيمة التسوية بـ 700 ألف جنيه.
وحينما لم تُجْدِ جميع الشروحات التي قدّمها عثمان، أخذ الطلب وقرّر الذهاب إلى الحي؛ فهناك مشكلة ينبغي مواجهتها قبل التفكير في التسوية، وهي أن طحين نساء الحي كلّه في الطاحونة، والأسر تنتظر وجبة الإفطار التي تعتمد على حفنة طحين داخل المبنى المغلق بأمر المحلية وممنوع التصرف في الأقفال.
الآن لا بدّ لعثمان أن يشتري كمية من الذرة وطحنها في سوق ود عكيفة وتقسيمها على النساء حتى يتمكن أهل الحي من جمع مال التسوية الإدارية.