
اللوحة من أعمال الفنان Medo Kagonka
لعدة سنوات كان السودان يحصل على ما بين 32 و34 ألفاً من عدد فرص الحج التي توزعها المملكة العربية السعودية على 200 دولة يوجد بها مسلمون يرغبون في أداء فريضة الحج، وفقاً لما أورده مركز الإحصاء السعودي عن حج العام 1445 هجري، المقابل للعام الميلادي 2024.
ولقلة عدد المقاعد المتاحة، مقارنة بعدد الراغبين في الحج، درجت السلطات الرسمية في السودان على توزيعها عبر التقديم الإلكتروني، وهو ما يجعل البعض ينتظر لأعوام حتى يحصلوا على فرصتهم بالقرعة الإلكترونية، مثلما جرى تماماً لأحمد عطا المنان الذي قدم للحج إلكترونياً في العام 2022، ولم يحصل على فرصة للحج إلا في العام 2023، لكن قبل الشروع في الإجراءات الرسمية اندلعت الحرب في منتصف أبريل من العام ذاته.
يقول عطا المنان، متحدثاً لـ “أتـر”، إنه كان يتوقع توقف الحرب سريعاً، لذلك قرّر تأجيل فرصته التي انتظرها عامين لعام آخر، وعقد نيته على الحج في العام 2024.
عاد عطا المنان بأسرته إلى قريتهم في جبل مويا بولاية سنار، ممتلئاً بحسُن الظن في المجتمع الدولي والإقليمي الذي سوف يُجبر الأطراف المتحاربة على إيقاف دوي المعارك، التي وصفها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان صباح بدايتها بـ “العبثية”.
في الفترة ما بين منتصف أبريل 2023، بداية الحرب، وديسمبر من العام ذاته، اتسعت رقعة الحرب لتشمل ولاية الجزيرة التي سقطت في يد الدعم السريع في منتصف ديسمبر 2023، وهنا بدا عطا المنان قلقاً من اقترابها إليهم في جبل مويا. يقول: “شعرتُ أنني لن أحجَّ في هذا العام أيضاً”. وهو ما حدث بالفعل.
لم يتمكن سوى 6570 مواطناً من إكمال إجراءات أداء الحج للعام 2024 من حصة السودان في الحج المقدرة بـ 32 ألفاً
بدأت المعارك تقترب منهم، وفي صباح كل يوم يصير البحث عن الأمن هو الأولوية القصوى لأحمد وليس أداء فريضة الحج، إلى أن اجتاحت قوات الدعم السريع مستقر نزوحه الجديد في الأسبوع الأول من يونيو الماضي، ونزح سكانها إلى جهات متفرقة بين ولايات القضارف والنيل الأبيض، وعبر بعضهم إلى دولة جنوب السودان، واختار أحمد عطا المنان مدينة ربَك وجهةً أولى في رحلة نزوحه الداخلي.
أثناء الحرب، كانت الأولوية أمام الجميع، ومنهم عطا المنان، هي البحث عن ملاذ آمن بعيداً عن المعارك التي لم تتوقف، رغم المحاولات المتعددة التي كانت تُجريها الوساطة الدولية من أجل جر الطرفين لإيقاف إطلاق النار، لذا لم يتمكن سوى 6570 مواطناً من إكمال إجراءات أداء الحج للعام 2024 من حصة السودان في الحج المقدرة بـ 32 ألفاً بحسب ما حصلت عليه “أتـر” من محمد عبد الوهاب، أمين أمانة الحج والعمرة بالسودان.
وتُلزم أمانة الحج والعمرة المُتقدّمين إلى الحج بعدة شروط، منها ألا يكون المتقدّم قد أدى فريضة الحج خلال السنوات الخمس الماضية، وأن لا يقل عمره عن 12 عاماً، وأن تكون النساء دون سن 45 عاماً برفقة مأمونة، وأن يكون مع المرضى وكبار السن والمعاقين والعجزة مرافق من الدرجة الأولى من نفس النوع، بجانب إبراز شهادة سكن معتمدة من الجهة المُختصّة تُفيد بإقامة المتقدم في نطاق موقع التقديم الخاص به، وكذلك لا يُسمح بالتقديم لأكثر من طلب، على أن يكون مقدم الطلب قد أكمل جرعات التطعيم الرئيسة ضد كوفيد – 19، إضافة إلى أي لقاحات أخرى معتمدة لدى المملكة العربية السعودية.
ويشترط التقديم الإلكتروني على المتقدم للحج أن لا تكون لديه مخالفة لأنظمة الإقامة بالمملكة العربية السعودية، وفي حال عدم الإفصاح عن المُخالفات، يصبح المجلس الأعلى للحج والعمرة خاليَ المسؤولية تجاه المُتقدّم للحج في حال إرجاعه من منافذ الدخول بالمملكة العربية السعودية.
لم تكن الشروط هي العائق الذي جعل 25،430 ألفاً يعجزون عن الحج، لكن الحرب والظروف التي أنتجتها هي السبب في خسارة هذا الرقم غير المسبوق. يقول إبراهيم عبد الله وهو معلم بالمعاش، متحدثاً لـ “أتـر”، إنه كان يدخر من راتبه لعدة سنوات من أجل أداء الفريضة حين يتقاعد، إلا أن الظروف الاقتصادية التي تَلَت الحرب جعلته يُنفق ما ادّخره للحج على مأكله ومشربه وعلاجه.
نوتة
وفقاً لإحصائية رسمية حصلت عليها “أتَـر”، من أمانة الحج والعمرة بالسودان، فإن عدد حجاج ولاية الخرطوم 718 حاجاً فقط. وبيَّن أمين أمانة الحج، أن عدد حجاج ولاية الجزيرة كان 192 فقط وعدد حجاج ولاية شمال كردفان كان 240 حاجاً، ومن الشمالية 694 حاجاً، ومن البحر الأحمر 839 حاجاً، وكسلا 672 حاجاً، والقضارف 642 حاجاً، والنيل الأبيض 382 حاجاً، وسنار 342 حاجاً، وجنوب كردفان 87 حاجاً، والنيل الأزرق 185 حاجاً، وشمال دارفور 196 حاجاً، وغرب دارفور 39 حاجاً، وشرق دارفور 25 حاجاً، وغرب كردفان 87 حاجاً، ووسط دارفور 83 حاجاً.
يقول إمام الفكي، من ولاية نهر النيل، إن التكلفة المالية جعلته يصرف النظر عن الحج هذا العام، وينتظر لوقت قادم ربما يتحسّن وضعه المالي.
وقد وجد السودانيون صعوبة بالغة في توفير التكلفة المالية للحجّ التي تراوحت بين أعلى تكلفة مالية لحجّاج ولاية جنوب دارفور بقيمة 7،056،955 جنيهاً للطيران، و6،056،665 جنيه للحجاج عبر البحر، وهو ما أجبر الراغبين في الحج من جنوب دارفور على عدم التفكير في أداء الفريضة، ولم يتمكّن منهم سوى 18 حاجاً، من إكمال الإجراءات بحسب ما حصلت عليه “أتَـر” من أمانة الحج والعمرة.
وكانت أقل تكلفة مالية لحجاج ولاية البحر الأحمر بقيمة 6،056،955 جنيهاً للطيران و5،096،665 جنيها للسفر عبر البحر. وبالمقابل، كان أكبر عدد حجاج أدى مناسك فريضة الحج لهذا العام من ولاية نهر النيل بعدد 1129 حاجاً، وأقل عدد حجاج من ولاية جنوب دارفور بعدد 18 حاجاً فقط.
وفضلاً عن المعاناة المالية التي سببتها الحرب، واجه كثيرٌ من السودانيين صعوبات في استخراج الأوراق الثبوتية والمستندات وتجديدها، بعد أن ترك كثيرٌ منهم أوراقهم الثبوتية في سكنهم وأماكن عملهم بعد فرارهم من الحرب.
أما يوسف الأمين، من ولاية النيل الأبيض، فقد دفعته محاولات الدعم السريع بسط سيطرتها على المنطقة للتراجع عن أداء الحج، وقال لـ “أتَـر”: “من غير المنطقي أن أتجه إلى الحج وأترك أسرتي في مواجهة الحرب التي تمدّدت على أجزاء واسعة من ولاية النيل الأبيض”. وأشار يوسف إلى أنه كان ينوي الحج، لكن عندما اقترب الدعم السريع من منطقتهم الواقعة بمحلية ود نمر فضّل البقاء حتى يكون عضداً لأسرته إذا لا قدر الله أرادوا الفرار من وجه الحرب.
بعضٌ آخرُ من السودانيين، لم تُعِقهم الظروف الأمنية ووعورة الطُّرق من طَرْق باب الحج، لكن ارتفاع التكاليف المالية، وقف عائقاً أمامهم. يقول الأمين بابكر، ويسكن محلية كرري بأم درمان، التي تُعدُّ الجزء الذي ما زال يتعرّض لأقل هجمات من الدعم السريع في العاصمة، إنّ ارتفاع التكلفة المالية أجبره على التنازل عن الحج، وأخبر “أتَـر” بأنه كان يتوقع تخفيض الرسوم المالية للحج، لكنه فوجئ بأن السلطات وضعت أرقاماً فلكية، إذ بلغت قيمة رسوم الحج من ولاية الخرطوم 5،541،665 جنيه للحج عبر السفر بالبحر، و6،501،955 جنيه للحج عبر الطيران، أي ما يعادل أكثر من 5 آلاف ونصف الألف بالدولار الأمريكي، حينها.
نوتة
كانت الإدارة العامة للجوازات والهجرة قد أعلنت في أغسطس 2023 عن تمكنها من استرداد بيانات السجلّ المدني وفتحت الباب لاستخراج الأوراق الثبوتية، لكن التكلفة العالية لاستخراج الجواز والتي بلغت حوالي 150 ألف جنيه، بجانب الإجراءات المتعثرة بسبب الأعداد الكبيرة للمواطنين الذين فقدوا أوراقهم الثبوتية، جعلا البعض يصرف النظر عن استخراج أوراقه الثبوتية.
“لم يسبق أن عزف السودانيون عن الحج بهذه الطريقة”؛ يقول محمد عبد الوهاب أمين أمانة الحج والعمرة بالسودان، ويضيف أن ظروفاً عديدة تضافرَت لتحدّ من قدرة الراغبين في الحج من إكمال إجراءاتهم، ويكشف لـ “أتَـر” أن عدد الحجاج لهذا العام هو الأضعف مقارنة بالأعوام السابقة.
وبحسب الأرقام والإحصائيات التي حصلت عليها “أتَـر”، فإن الظروف الأمنية ليست هي السبب الوحيد في عدم الرغبة في الحج لهذا العام، لكن الظروف الاقتصادية والتدهور والتراجع في دخل المواطنين الذين فقدوا أموالهم وممتلكاتهم في عمليات السطو التي اجتاحت المناطق التي امتدت إليها الحرب، فضلاً عن فقدان كثيرين وظائفهم ومصادر دخلهم وعدم حصول العاملين في القطاعين العام والخاص على حقوقهم المالية الراتبة منذ اندلاع الحرب؛ كل ذلك قد أدى إلى العدد القليل الذي استطاع إلى الحج سبيلاً هذا العام.