التصميم مأخوذ من أعمال المصور أمين يحيى
نُشر هذا التعقيب على تعقيب مجدي الجزولي في مجلة أتر الإنقليزية، العدد (8).
في العدد (36) من مجلة أتر العربية، عقّب مجدي الجزولي على مقال نشرناه مؤخراً من مجلة نيويورك بوك ريڤيو، وهو متاح الآن باللغة العربية.
نحن مُعجَبون للغاية بما كتبه مجدي الجزولي، ومن هذا المنطلق يأتي تعليقنا على نقده، ومحاولة شرح موقفنا، على أمل أن يمتدَّ هذا النقاش إلى ما هو أبعد من مقالنا، ومناقشة بعض القضايا الجوهرية التي نُواجهها اليوم.
يرى الجزولي في مقالنا سرداً مثالياً لنظرية وفكرة المُنقذ الأبيض. ويزعم خلال قراءته أن مقالنا يعتَبِر السودان في محنة، بلا سيادة على أراضيه، وأن الأمم المتحدة والمجتمع الدولي هما وحدهما القادران على إنقاذنا الآن. ويختتم بالإشارة إلى دهشته: كيف لشخص مثل جوشوا كريز، الذي كتب بشكل نقدي عن الإنسانويّة، أن يؤيد دون تمحيص الاحتلال الإمبريالي للسودان المُدمر.
فإذا فوجئ مجدي الجزولي، فلك أن تتخيُّل شعورنا!
لم يكن لدينا أي نية لرواية قصة عن السودان تختزل الأمل إلى مجرد تدخل إمبريالي.
يحكي مقالنا قصة مأساوية؛ فقد انبثقت إحدى النقاشات حول السيادة الغذائية في ثمانينيات القرن العشرين، لكن سرعان ما أُقصيت من قبل وكالات المساعدات الإنسانية وطرحت بديلا لا-سياسيّاً بخصوص مسألة الجوع. لم يختفِ النقاش حول السيادة الغذائية في السودان، وإن كان عاود الظهور بقوة في الفترة 2018- 2019، ليجري كبْتُه مرَّة أُخرى من قِبَلِ المجتمع الدولي. للأسف، كُنَّا ملزمين من قبل مُحرِّري المقال الأصلي بعددٍ محدودٍ من الكلمات، لتفصيل تاريخ هذه النقاشات المحلية.
يُشير مقالنا إلى أن المجتمع الدولي بعيدٌ كل البعد عن ممارسة دور المُنقذ، فلطالما قمع مراراً وتكراراً النضالات الثورية الأصيلة، والتساؤلات الصادقة عن مسألة السيادة الغذائية.
تُختَتم مقالتنا برؤية جذرية للسيادة الغذائية، وإدانة للعلاقات الاستغلالية بين المركز والهامش؛ لكنها تُختَتم بشكل مأساوي، إذ تقيس المسافة بين تصوّرَيْن للسيادة الغذائية. النموذج المثالي لما تُمارسه حالياً غرف استجابة الطوارئ، ثم الاستخدام الحالي للجوع كسلاح حربٍ من قِبَلِ كُلٍّ من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
لم يمنح مقالُنا صكَّ تأييد للدبلوماسيين الغربيين والعاملين في المجال الإنساني، بل انتقد تصوراتهم وممارساتهم في الماضي والحاضر. نحن واضحون للغاية في هذا الصدد: ليس لمنظور الإنسانويّة من دور في المستقبل السياسي للسودان؛ كما أنه جزء من المشكلة، بدل أن يكون حلاً.
لماذا إذن، يُقدِّم مقالُنا نصائح للأمم المتحدة بشأن السياسات الواجب اتخاذها، كما لو أنه انسَلَّ عن صفحات مجلة الشؤون الخارجية، أو ربما مما هو أسوأ من ذلك؛ من غرف إعلام وزارة الخارجية؟
نتّفق مع ماو تسي تونغ، أننا نعمل ضمن تناقضات أولية وثانوية. ولا يمكننا في حالة الدمار إدارة وجهِنا عن النظام الدولي والعاملين في المجال الإنساني، الذين يتدخّلون نيابة عنه. ولأن نيل المطالب ليس تمنّياً، فإن السعي لتجاهلهم لن يسحقهم (ليت الحال يشبه الأماني! ليتنا نستطيع تمني زوال الإمبراطورية الأمريكية بنفس الروح!)، لذا نُفضِّل وجود مساعدات إنسانية دون أن تكون دميةً في يد المخابرات العسكرية للجيش السوداني. لا نُريد أن يكون العاملون في المجال الإنساني مرتاحي البال في بورتسودان، مما يُثري جيب وزير المالية جبريل، بينما يعمل تحالف الجيش السوداني المُتنوِّع من الإسلاميين على إفقار مساحات شاسعة من البلاد.
ففي الوقت الذي ينتقد فيه مقالنا الجهود الإنسانية الدولية، إلا أنه يحاول أيضاً دفع الجهات المعنية العاملة في المجال الإنساني إلى التصرف واتخاذ خطوات عملية. إذا كان ثمة تناقض ما في هذا المسعى، فذلك فقط لأن العالم مُتخَم بالتناقضات؛ والسياسة هي فن الممكن، وليست محض نقاء.
هل ستدفع مطالبنا أو نصائحنا الجهات العاملة في المجال الإنساني إلى تغيير مسارهم، للتأكيد على الحق في التدخل لإنقاذ الأرواح على حساب نزع الشرعية عن البرهان؟ يُساوِرُنا الشك حيال ذلك. لكن ما تزال القضية جديرة باستحقاق الكتابة، طالما أن المقالات جزءٌ من النضال السياسي.
إنه لمن الجدير أن نُفكّر في كيف جعلتنا الحرب نلجأ لخيارات الاصطفاف مع طرفي الحرب.
نحن لسنا في جانب قوات الدعم السريع، لكننا لا نعتقد أن هذا يجعلنا أصدقاء للجيش السوداني. في رأينا لا يكمُنُ التناقضُ الأساسيُّ بين الدعم السريع والجيش، حتى لو أصبحت هاتان القوتان في العديد من الروايات الإعلامية بمثابة “بعابع” تُحدِّدُ مجمل الخيال الدولي، بحيث يكون هناك حديث لا متناهٍ عن إيقاف إطلاق النار، في الوقت الذي يُصِرُّ فيه الجانبان على ضرورة استمرار آلة الحرب.
لنكن واضحين حيال القُوَّتَيْن! يُشكِّل الجيش وقوات الدعم السريع رأسَي هيدرا الأجهزة الأمنية للبشير، ويجب استئصال كليهما. لا تمثل قوات الدعم السريع حيواناً سياسياً مختلفاً عن الجيش، بل تنويعة مغايرة لحكم البشير المُفترس الاستغلالي.
ومع ذلك، لا يعني هذا ضرورة أن نصطفَّ إلى جانب الجيش. الواجب هو رفض جميع محاولات إجبارنا على الاختيار بين الجانبين.
إن نقد مجدي الجزولي لمقالنا، يُثير شبح التدخلات الدولية بغرض الدفاع عن سيادة الجيش السوداني، لكن هذا لا يعدو كونه محضَ خيالٍ مُزدَوج.
أولاً: لا يملك “المجتمع الدولي” قدرةً أو إرادةً للتدخل. وإذا كان هناك من انتهاك لسيادة السودان، فيأتي من قِبَلِ الإمارات وإيران، وليس الجهات البائسة العاملة في المجال الإنساني.
ثانياً: نحن نطرح سيادة الشعب السوداني مُقابل المواقف التي تُدافع عن سيادة الجيش السوداني. ففي ظل الحرب الحالية، والتي يغيب فيها العمل الإنساني ويتعثّر، وفيما أثبتت الدولة ومنافسوها مرةً تلو الأخرى، أنها قوىً جائرة عازمة على تشريد واضطهاد شعبها، يجب أن نُقاوم الإغراء الزائف لسيادة الدولة: يجب منح السلطة والإرادة السياسية للشعب السوداني. وهو مبدأ لا يمكن تحقيقه بالانصياع الصاغر للإملاءات الصادرة عن عصابة بورتسودان.
نعترفُ أن مقالتنا بها العديد من النقائص الفكرية. فقد أولينا تاريخ الجوع واستخدام مؤسسات الدولة لحيلة “فرّق تسد”، أهميةً أكبرَ من نضالات الشعب الهادفة لتحقيق السيادة الغذائية؛ كما أن سردنا لديالكتيك عمليات التعريب، كما يلحظ مجدي الجزولي على نحو سليم، لا يتعامل مع الشروخ المُعقّدة التي تسم تاريخ دارفور. لم ينقضِ عملُنا بعد، فسوف يُصدر رجاء وجوشوا قريباً مقالاً عن قوات الدعم السريع، وسيأخذ في اعتباره هذا النقاش المُستمر مع مجدي الجزولي، في هذه اللحظة المُظلمة للحاضر السوداني.
لقد رأينا شعاع أمل في هذا الوضع الحالك. وهو أمل يمتح من مئات الآلاف من نساء السودان ورجاله، ممن ينشطون في مبادرات المساعدة، وفي المطابخ الجماعية، وفي العمل اليومي لحياةٍ في ظل الحرب؛ لذا ينبغي على أولئك المنخرطين والذين هم جزء من “الوجعة” استخدام أيِّ أدوات متاحة، بما فيها أدوات المضَّطهِدِين، والمساعدة الإنسانية، والضغط الغربي. يجب أن نتذكر مع ذلك أن هذه المصالح لا تنسجم البتة مع مصالحنا. أمريكا والمنظمات الإنسانية ليسوا أصدقاء. ولكن حتى البلهاء التعساء قد يكونون ذوي فائدة في بعض الأحيان.
جوشوا كريز: كاتب متخصص في شؤون السودان.
خلود خير: مؤسسة ومديرة Cofluence Advisory.
رجاء مكاوي: محررة وباحثة سودانية مقيمة في لندن.