أتر

نزاعات مؤجلة ومحاكم معطلة

اللوحة من أعمال الفنان Medo Kagonka

عجزت علوية محمد حسن، وهي أرملة ونازحة في إحدى مدن ولاية نهر النيل، عن استرداد وديعة مالية لدى محكمة الخرطوم جنوب للأحوال الشخصية والعامة بالخرطوم، تخصُّ أطفالها القُصَّر في القضية بالرقم (688-2018)، بعد تردُّدها عاماً كاملاً على دوائر القضاء ومكاتب المحامين في المدينة التي نزحت إليها.

تخبر علوية مراسل «أتَـر»: «استكملتُ جميع الإجراءات اللازمة لاسترداد المبلغ في الخرطوم، قبل اندلاع الحرب بوقتٍ قصير، لكن بطء العمل وبيروقراطية الأداء في المحكمة أخَّرَا اكتمال الطلب حتى اندلعت الحرب. احترقت مباني المحكمة ونُهبت وأتلفت جميع الملفات وفقدتُ أي دليلَّ يوصلني لاسترداد حقوق أطفالي القُصَّر».

وتتابع بأسىً: «أعيش أوضاعاً صعبة في النزوح، ولا أملك وسيلة لتأمين مستقبل أبنائي. بدأتُ من تحت الصفر، والقاضية التي تتولَّى قضيتي هاجرت إلى دولة الإمارات، واعتذر محامون عن تولّي القضية بحُجّة استحالة العثور على مستندات تُثبت إيداعنا المبلغَ لدى المحكمة، ونصحوني بكتابة التماس إلى رئيس القضاء للنظر بعين الرحمة إلى حالتي واسترداد المبلغ، لكنّني عاجزة عن السفر إلى محلّ إقامته في عطبرة».

ونما إلى علم خالد عبد الرحمن، الذي التقاه مراسل «أتَـر»، في أحد مكاتب المحامين بمدينة شندي، بأن الرجل الذي اشتكاه أمام محكمة أم درمان الجزئية في مديونية مالية بلغت 9 مليارات جنيه، وحكمت المحكمة بسجنه في أول يناير من العام 2023 ونُقل إلى سجن الهدى بأم درمان؛ قد هَرَبَ مع بدايات الحرب إلى دولة مُجاورة، فاتَّصل خالد بمُحاميه مُستفسراً عن أيِّ إجراء يمكن اتّخاذه في هذه الحالة. وجاء ردُّ المحامي صادماً: «لا شيء يمكن فعله».

محاكم تحت القصف

ومع اشتداد أوار المعارك وضمن حالة الفوضى العارمة والعامة النّاجمة عن شراسة الاقتتال واستباحة كُلِّ شيءٍ في البلاد بلا وازع أو ضمير، فرَّ آلافُ السجناء المُدانين على ذمّة قضايا مُحقّقة، من معتقلاتهم في زنازين سجون الخرطوم، واستُهدفت على نحو خاص ومُمنهج مؤسسات قضائية وعدلية، وقُصفت في أتون الحرب وهياجها، مباني رئاسة السلطة القضائية بالسودان، ومحكمة جنايات الخرطوم شمال، ومكتب أراضي الخرطوم شمال، والمحكمة الجزئية بالخرطوم، ونُهبت مباني قسم شرطة الأزهري، ومحكمة جنايات أمبدة ومحكمة أم درمان غرب السوق الشعبي، وأضرمت النيران في مجمع محاكم دار السلام وأُتلفت تسجيلات الأراضي بدار السلام بأم درمان بكاملها، قبل تدمير مقرّها، ونُهبت محكمة جنايات محكمة مكافحة الفساد ومخالفات المال العام، وأُتلفت ملفّات القضايا داخله، قبل إضرام النيران فيها، وطُمِسَتْ كثيرٌ من الحقائق والأدلة القانونية والعدلية، وضاعت كثيرٌ من الحقوق العامة والخاصّة.

ويتسبّب حرق وإتلاف وتخريب المحاكم بالحرق في محو أدنى أثرٍ يخص السُجناء المحكومين أو المُنتظِرين، وفيهم رموز النظام السابق، كما يقول قانونيون ومختصون لـ «أتَـر»، أطلَقوا تحذيراً من أن تدمير المحاكم والمقرات القضائية والعدلية يُنذر بضياع حقوق المتقاضين وانهيار المنظومة العدلية والقضائية بالبلاد.

سجلات مفقودة إلى الأبد

وبحسب مدير مركز «محامون من أجل العدالة»، محجوب عبد الله، فإن الحرب أدّت إلى تدمير كثير من الأعيان المدنية ومن ضمنها المؤسسات العدلية، المحاكم والنيابات ودُور الشرطة.

ويقول في حديثه لـ «أتَـر»: «تأثرت الأجهزة العدلية بنسبة كبيرة جداً، وطالت الحرب محاكم دمرت بأكملها في المدن التي دارت حولها المعارك، ولم يكن الدمار والخراب قاصراً على المحاكم الجزئية، بل امتد إلى محاكم الاستئناف والمحكمة العليا والدستورية والمحاكم الخاصة، وأتلِفت ملفات تحتوي على مستندات أصلية قُدِّمَتْ إلى المحاكم، وفُقِدَتْ ملفات لم يُفصل فيها بعد، وكذلك حوت النيابات بلاغات لم تُحَلْ إلى المحاكم، من ضمنها مستندات لن تتمكّن الأطراف المتقاضية والعدلية من الحصول عليها مجدداً».

وتكمن الخطورة بالنسبة لعبد الله، في أن الأجهزة العدلية لا تتوفر لديها أية وسيلة لإعادة تلك الملفات أو إنشاء ملفات بديلة، مما يُثير الجدل حول موضوع الاختصاص المكاني الذي يُحدّد نطاقاً جغرافياً واحداً لرفع الدعاوى.

يقول: «بموجب الحرب والنزوح قد يعجز كثيرون عن اللجوء إلى المحاكم في الوقت الراهن، لأنها لا تتمكّن من ممارسة عملها في غياب عدد كبير من الهاربين الموقوفين في دعاوى جنائية، إضافة إلى الدمار الذي لحق بمؤسسات السجون».

باتت العدالة الآن متاحة في مناطق محددة من مدن البلاد، وتعمل بعض المحاكم في نوع محدد من الإجراءات مثل استخراج الإشهادات الشرعية، مما يجعل من المعالجات التي أجراها رئيس القضاء غير عملية، وأن تؤدي إلى تبعثر سير العدالة وإحداث مشقة كبيرة للمتقاضين. ويضيف عبد الله: «لتتحقّق العدالة يجب أن تتوفّر شروط، وترتبط بوجود وعمل مؤسسات تحتاج بدورها لتوافر شروط الأمن والاستقرار، وهذا يعني ضرورة إيقاف الحرب».

ويتابع: «نُنادي منذ بداية الحرب بضرورة إبعادها عن الأعيان المدنية، وضرورة الحفاظ عليها بعدم استهدافها أو استغلالها من قبل المتقاتلين مقارَّ أو ارتكازات حتى لا تتضرر، لكن للأسف ما حدث من دمار للمنشآت العدلية من محاكم وسجون ونيابات ومقار الشرطة، كارثة تمس العدالة وتمثل انتهاكاً صارخاً للقانون».

ويقول القاضي السابق والمستشار القانوني، عمر عثمان، إن قوات الدعم السريع، منذ بداية الحرب، درجت على اجتياح المحاكم وأعيان القضاء، والبدء الفوري في تمزيق السجلات وإحراق وبعثرة الملفات والأوراق القانونية وإتلاف أجهزة الكمبيوتر.

ويضيف في حديث مع «أتر»: «من الصعوبة العثور على ملفات للقضايا التي جرى التداول حولها في فترة ما قبل الحرب، وكذلك دفاتر تسجيلات الأراضي بصورة سليمة ومكتملة وواضحة المعالم، وربما فقدنا جميع ملفات القضايا بأنواعها الجنائية والمدنية والإدارية والشرعية والدستورية في أي محكمة أو رئاسة جهاز قضائي في الولايات التي اجتاحتها الدعم السريع». ويمضي قائلاً: «ربما تحتفظ مصلحة الأراضي بنسخ احتياطية لمعلومات الأراضي المسجلة، لكن المحاكم لا تمتلك مسحاً ضوئياً لأوراق ملفات القضايا، وربما تتوفر لديها فقط أسماء المتقاضين وأرقام وأنواع القضايا».

وتقع مسؤولية إعادة منتظري الحراسة والمسجونين وموقوفي المحاكم في السجون والقبض عليهم على عاتق الشرطة في الأقسام أو الشرطة في السجون.

إسعافات عدلية أولية

وبحسب بدر الدين حمزة، القانوني والباحث، فإن مسألة تصريف العدالة ومؤسساتها ما قبل اندلاع الحرب وبعده، شائكة ومعقدة، وفي حاجة إلى جهد كبير لإصلاحها جراء التسييس الكبير الذي تعرّضت له خلال الثلاثين سنة من حكم الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني لاحقاً، وعدم فصل عمل السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية)، مما أفقد المؤسسة العدلية، ممثلة في القضاء والنيابة والشرطة كجهاز مساعد، الحيادَ على مستوى رئاستها التي انقادت لخدمة مشروع النظام الأيديولوجي الإسلامي.

ويقول حمزة في حديث لـ «أتر»: «بعد الحرب، توقفت هذه الأجهزة تماماً عن العمل بسبب انتشار العمليات العسكرية في كثير من الولايات، وشهدنا جرائم وانتهاكات يتحمل وزرها الطرفان المُتحاربان».

ويضيف أنه في بعض المناطق والولايات التي استمرّ فيها عمل مؤسسات العدالة، وهي التي تقع تحت سيطرة الجيش، مثل النيل الأبيض ونهر النيل والولاية الشمالية والولايات الشرقية، ظلت الأجهزة العدلية تعمل بجزء من طاقتها. ومع ذلك، يعود حمزة مؤكداً أنه حتى مع التشوهات المصاحبة وتسخير الجهاز العدلي لمُلاحقة الخصوم السياسيين والتنكيل بهم، ورغم شح الموارد المالية وتوجيه ميزانية الدولة للعمليات العسكرية، والمضايقات المتواصلة للناشطين في مجال العمل الإنساني، فإن مواصلة هذه الأجهزة عملها واجب ومطلوب، لأن توقفها عن العمل يزيد من حتمية الانهيار التام للدولة السودانية.

ويرى حمزة أن المعالجات التي جرت مثل تشكيل دوائر استئنافية ودوائر للمحكمة العليا في بعض المناطق، أشبه ما تكون بالإسعافات الأولية وقد أملتها الضرورة، لكنه يعود ويؤكد أنها حلول لن تكون مجدية على المدى الطويل، بسبب نزوح المواطنين المتواصل والضغط على أجهزة العدالة في ظل العطب القديم الذي لازمها طوال سنوات الإنقاذ، وبسبب محدودية طاقة الدولة السودانية نفسها في هذه المرحلة التي انعدمت أو كادت تنعدم فيها مقومات الحياة الإنسانية الكريمة. مضيفاً: «لا أظنّ أن من يديرون البلاد حالياً معنيّون بملاحقة الجناة الذين هربوا أو قُصد تهريبهم، بل هنالك قرائن تُدلِّل على تورطهم في تسهيل الإفلات من المحاكمة والعقاب، خاصة مع تغييب المحكمة الدستورية».

تكلس وخذلان

ويؤكد القانوني طارق الياس، أن غياب السلطة التشريعية لفترة طويلة خلّف فراغاً وارتباكاً لجميع المشتغلين بالعمل القانوني، إضافة إلى غياب المحكمة الدستورية وتعطيل ملفات عديدة متعلقة بمواد مثل المادة 130 «القصاص»، واستصدار بعض الولاة قوانين وأوامر محلية تكرّس سلطاتهم مما يُلقي عبئاً ووبالاً على المواطن. ويكشف الياس في حديث مع «أتَـر» أن الأجهزة العدلية بالمدن الآمنة تُعاني من قضايا نازحة تتمثل في المطالبات المالية والشيكات والمديونيات والنزاع حول قضايا الأحوال الشخصية والتهرّب من إنفاق الأزواج بسبب الفقر المدقع والحرب والنزوح.

بينما يخشى وكيل النيابة السابق عادل حربي، أن يُخذل السودانيون في القضاء بمثل ما خُذلوا في مؤسسات كثيرة، لأن عمل القانون يتعرّض لتحديات كبيرة في أوقات الحرب؛ ويرى أن تباعد مؤسسات العدالة، وجود وزارة العدل في بورتسودان ورئاسة القضاء في عطبرة، يُظهر عزلة المحاكم والمراكز القضائية في المدن الآمنة عن مناطق النزاع، مما يخلق فجوة ويتسبب في ارتفاع تكاليف الوصول وصعوبة مقابلة المسؤولين.

ويروي حربي لـ «أتَر» عن تجربته الشخصية: «أردتُ تقديم شكوى لرئيس القضاء، لكن الحاجب منع دخولي رغم إلحاحي وعدم ازدحام المحكمة»، ويضيف: «يعمل النظام القضائي الراهن في روتينه اليومي ولم يتغيّر فيه شيء، ومراحل التقاضي من استئناف وغيره ما تزال تستغرق وقتاً طويلاً، مما يؤخر تحقيق العدالة رغم انتقال كثير من القضاة والموظفين إلى المناطق الآمنة».

ويشير حربي إلى أنه رغم الإرث القانوني السوداني الذاخر، لكنه لم يواكب الوسائل الرقمية الحديثة أو يتبع نظام الأرشفة الإلكترونية، وما زال يتمسك بأبجدية الدفاتر والفورمات الورقية. يقول: «الإسكانر من أبسط التقنيات وأسهلها واستُخدمت بفاعلية لأرشفة المتاحف وغيرها، دعك من حقوق الناس وحفظها في المحاكم»، مضيفاً أن زيارات المسؤولين في رئاسة الجهاز القضائي ووزارة العدل لم تُسفر عن جديد ملموس، ولم تتضمّن مناقشات وحواراً مع المحامين الذين يمتلكون فهماً أعمق للإشكاليات اليومية التي تعتري النظام القضائي السوداني.

Scroll to Top