في هذه الحرب، وطوال زمن اشتعالها العنيف وفظائعها البشعة ضد المدنيين، بقي سبت عثمان، وما زال، كعادته في الانتماء وأصالة الحياة، مُستمسكاً ببيته في ضاحية “أمبدة” في أم درمان، صامداً، من دون زخم إعلامي ولا التفاتة من أحد، يواجه عزلة الحرب والمرض وشظف العيش، بروح فنانة وضحكة بسيطة ممراحة، بلا مدخرات سوى محبة الجيران وفنه الخالد واختلافه العميق.
جاء سبت عثمان إلى أم درمان في العام 1971، من التخوم الساحرة، الغامضة والقصية في أقاصي الجنوب الشرقي على الحدود الإثيوبية، في بلدته “قيسان”. بدا الفنان سبت عثمان متفانياً في التمسك بأصالة فريدة، صبيّاً في نحو العشرين من عمره، يطوي بين إبطيه آلة محلية صغيرة، مُستطيلة الشكل، غريبة عن أم درمان وحداثاتها في الآلات الموسيقية، تبعث أصواتاً مُختلفة وفيّاضة، صنعها بنفسه، وينطوي في قلبه شغفٌ كبيرٌ بالموسيقى وصليل الإيقاعات؛ لكنه أيضاً يحمل تصميماً، ويعرف أن الأبواب في أم درمان ليست دائماً مُشرَعة.
مباشرةً قصد سبت اتحاد الفنانين، مسكناً وخفارةً ودودة، يُقدِّم خدماتٍ بسيطة للجميع بقلب مفتوح، وعضوا كَلفاً بالفن والموسيقى وتطوير آلته الخشبية ذات الأوتار الأربعة؛ وفي موهبة متفجرة لا تهدأ، يُمارس الغناء على طريقة وتراث أهله في تخوم الأنقسنا البعيدة، حيث يقطعون مسافات طويلة بين الغابات والجبال وهم يترنمون، لا يَلوون على شيء أو يقصدون أحداً، ويُحوّلون كل شيء إلى إيقاعات منثورة لا تفتر. ومن خلال وجوده في اتحاد الفنانين تعلَّم العزف على الآلات الإيقاعية، وأجادها إلى حدّ بعيد، حتى استطاع أن يعزف مع كبار الفنانين.
يقول الباحث الموسيقي والشاعر هاشم جبلابي في حديث لـ”أتَـر”: “يمتلك سبت مخيلة موسيقية فطرية، صقلها عبر صداقته للراحل الموسيقار عبد الله أميقو، الذي علمه دلالات الحروف الموسيقية وأشكال الرموز الإيقاعية”.
حينها نحّى سبت آلة الربابة جانباً وتعلم العزف على آلة العود في مهارة مُدهشة، جعلته يُخضعه لمقامات وإيقاعات بيئته الموسيقية التي انحدر منها، ومتح من فيوض تراثها الثر والخلاق، كما تعلَّم وأجاد العزفَ على الآلات الإيقاعية، وكان دقيقاً جداً في الحسابات الموسيقية حتى أن كثيراً من الفنانين كانوا يستعينون به في العزف على الإيقاعات، وهو ما يزال مغنياً رسمياً من خلال إجازة صوته بالإذاعة والتلفزيون. يذكر جبلابي من أولئك الفنانين، صلاح بن البادية وأبوعركي البخيت والعميد أحمد المصطفى أستاذه في آلة العود.
لم ينجرف الفنان سبت وراء تيار التقليد والمشابهة وأساليب الغناء الموصوف بـ “الشمال وسطي” السائد والمسيطر. يقول الموسيقار أنس العاقب في شهادة عنه: “ظل مستمسكاً بهويته الفنية السودانية الأصيلة، ولم نحفل به كثيراً”. ويضيف: “تمتَّع بأخلاق طيبة، وكان أميناً صبوراً، تجاوز بالصفح عن الذين لم يلتفتوا إلى موهبته التي كانت تنتظر أن تنطلق كغيره من الفنانين الواعدين”.
انضمَّ سبت عثمان إلى فرقة الفنون الشعبية، وبرز فيها مُغنّياً لتراث منطقة جنوب النيل الأزرق، مضيفا آلة “الوازا” للمرة الأولى إلى الآلات الشعبية في الفرقة، ومن خلال ذلك شارك في العديد من المهرجانات والاحتفاليات الداخلية والخارجية، وكرّمه الصينيون والألمان والفرنسيون في مناسبات متعددة. يقول جبلابي: “يتّسم سبت بالبساطة في الحياة والمثابرة الدؤوبة. لم تُتِحْ له ظروفُ منطقته القاسية التي نشأ فيها ليدرس ويتعلّم، لكن عندما برع في العزف والتلحين رشحه اتحاد الفنانين، بوصية من الفنان عثمان مصطفى، ليدرس في معهد الموسيقى والمسرح، كحالة استثنائية، إلا أنّ ذلك جُوبه بالرفض التام من قبل مدير المعهد وقتها، بحجة أن النظام لا يسمح بدخول المعهد إلا لحمَلة الشهادة السودانية”.
ويصف الموسيقار ومعلم الموسيقى علي الزين، أعماله بأنها تمثل تراثَ وتاريخَ أمةٍ عريقة: “لم يجد التنقيب الكافي والبحث في ما قدّم من فنٍّ وأغنيات”. يقول علي الزين ويضيف في شهادته لـ “أتَـر”: “لم يُجَزْ صوتُه بداية في الإذاعة، لانعدام معرفته وإلمامه بغناء “الحقيبة”، وبسبب فرض سلوك التعالي الثقافي الضارب في مؤسسات الدولة والمعروف لديها”. ويتابع: “ليست مشكلة تخص سبت عثمان وحده، وإنما هي مشكلة تاريخية مُزمنة منذ الفنان رمضان حسن، الذي لم يكن أقل من أنداده في شيء، لكنها جناية التمييز العرقي والثقافي”.
ويجد الزين العزاء في أن سبت أثبت وجوده بمثابرته وإصراره، وهو يعزف على عدد من الآلات الموسيقية الشعبية, ويضيف: “له كثيرٌ من الأعمال التي لم تُفتح لها الأبواب حتى اليوم، ولم تجد من يسبر غورها بعد”.
“سبت عثمان مشروع فني وموسيقي ضخم، وما زالت الفرصة قائمة لمعرفته وتقديمه، فهو صوت متميز بالتطريب العالي، وليس لزاماً أن يقدم أغنية الوسط حتى نهتم به”، يضيف الزين.
في سنوات قبل الحرب، كان جسد سبت عثمان قد بدأ في التآكل، بسبب داء السُكَّر اللعين، لكن ظلت روحه وثابة، عامرة بالحب والقوة، فكانت كل قطعة يفقدها من جسده تتسرب في مسارب روحه. ويرى الكاتب الصحافي علاء الدين محمود، أن حكاية سبت مع المرض شبيهة بحكايته مع ما وجده من تهميش بوصفه مُغنياً رافضاً لأن يضْحي نسخة مكررة و “ترساً” في ماكينة غناء الوسط، فلم يقابل كل ذلك التجاهل بالكره، بل الغناء والتحليق في سماوات المحبة، حتى احتل مكانه في قلوب السودانيين. ويضيف في علاء الدين في حديثه لـ “أتَـر”: “سبت أنشودة منسية، ويظل صوته خالداً يُغالط صدى وهزيمة الفناء. وفي الطفولة البعيدة شكلت أغنيات الإذاعة السودانية وجداننا الغنائي، وكان صوت سبت ينسل قوياً من ذلك الجهاز الصغير يردد أغنيته الآسرة “حليمة”، التي طالما ردَّدناها دون أن نعي معانيها، لكنه الحنين الكامن في تلك المناجاة يخرج كدفقة شعورية وكسهم مصوب جهة القلب”.
استعان الموسيقار الصافي مهدي بثقل تجربة الفنان سبت عثمان، بوصفه مؤدياً رئيساً، ضمن مشروع “رسائل للسلام” الذي قدمه “كورال كلية الموسيقى والدراما” في تجربة مختلفة ومهمة، أبطالها من المغنين الشعبيين والمحليين، للمحافظة على الخصائص التراثية للأغنية وتمظهراتها الحداثية في آن معاً. يقول مهدي في شهادته لـ “أتَـر”: “صوته قوي، فريد وجميل، وله حضور مسرحي هائل، مُشبع بالفلكلور والأداء الراقص”؛ ويضيف: “هو من الرواد الذين عكفوا على نهضة الفنون الشعبية بموسيقاها ورقصاتها وأزيائها المتنوعة، في الماضي المشرق والمشاركات الحية في الداخل والخارج، لفرق وجماعات الفنون الشعبية”.
يقول أستاذ الموسيقى كمال يوسف، إن سبت يُمثل عنصراً مهماً من عناصر التعريف بتنوع الحياة والسحنات والثقافة والفنون في السودان، فكما كان وردي ناقلاً للتراث والثقافة الموسيقية لحضارة النوبة في شمال السودان، كان سبت عثمان ناقلاً لموسيقى وإيقاعات ولغات قبائل جنوب النيل الأزرق، وكما كان عبد القادر سالم ناقلاً وموصلاً لإيقاعات المَردُوم والدرَملّي وغيرها من إيقاعات غرب السودان في إقليمي كردفان ودارفور، وللهجة الموسيقية والخصوصية النغمية للحياة الموسيقية في تلك الأقاليم، كذلك كان سبت عثمان ناقلاً لإيقاع الكلش، وجالباً لآلة الأبنغرنق مُتغنّياً بها، بلغته وصوره الشعرية المرتبطة بمواسم الحصاد ومفاهيم وتقاليد ذاك الجزء من السودان. والأبنغرنق هي الربابة في إقليم النيل الأزرق، وهناك نوع آخر منها يسمى جنقر.
ويضيف لـ”أتَـر” في شهادته: “لم يكتف بالوقوف على نقل تراثه بصورته الفلكلورية فقط، بل استطاع كما فعل قبله وردي وعبد القادر سالم وغيرهما من الموسيقيين المغنين، أن يربط محموله التراثي بما وجد من وسائط وأدوات حديثة، فقدم أغنياته مع الفرقة الموسيقية المكونة من آلاتٍ حديثة”.
وينظر يوسف إلى تجربة سبت عثمان، بشمولية الفن في حقل العمل الموسيقي، “فإن كان لدينا من المطربين في السودان من ألّف الألحان ولم يعزف على آلة موسيقية، أو من تميّز في حيز التصويت والتطريب ولم يؤلف الألحان، فقد عُرف سبت عثمان مُغنياً ذا طابع صوتي خاص به، عزف على آلته الشعبية الأبنغرنق، وتعلم عزف العود وأجاده وتغنى به، كما عُرف عازفَ إيقاعٍ صاحب العديد من كبار المطربين”.
وساهم سبت بقوة وفاعلية في بناء تصور لسودان متنوع وسلميّ وإبراز الخصائص المحلية لمجتمعات نخرها التهميش الثقافي والسياسي، عبر أدوات الفن وآليات الجمال، في الوقت الذي اختار فيه آخرون أدوات صلبة للمقاومة والتغيير.
وحين كانت الدولة ترمي البلدات السياحية، شديدة الجمال والخضرة، في قيسان والصعيد، بالنيران والقنابل ودخان البنادق، كان سبت يُضفي على الموسيقى في المركز لغات أخرى وإيقاعات جديدة ويلفت الانتباه إلى آلات موسيقية من صميم الحياة هناك، يود أن يقول: هذا هو الوطن، لا سواه.