أتر

دفتر أحوال السودان (39): من أمدرمان وسنار وكسلا

سنار: مدينة الرعب والحصار

الحصار، وانعدام الخدمات وشحّها، وقلّة الحيلة، والتوتّر والقلق على مُحيّا السكان والنازحين بدُور الإيواء عند سماع أصوات الرصاص ودويّ المدافع، هِيَ أبرز سمات الواقع في مدينة سنار هذه الأيام؛ فمنذ نهايات يونيو الماضي، تدحرجت كرة الحرب نحو المدينة، جاعلةً حياةَ الناس وأوضاعهم بالغة التعقيد.

 ومع سيطرة الدعم السريع على مدينتَي سنجة والدندر، وقبلهما على منطقة جبل مويا الاستراتيجية في الطريق الرابط مع ولاية النيل الأبيض، غدت سنار قفصاً يُطوِّق من آثروا البقاء وفقدوا إمكانية المغادرة، ومع ذلك يحاولون الحياة.

انقطعت الكهرباء عن المدينة بأسرها منذ اجتياح مدينة سنجة من قِبل قوات الدعم السريع، وتبع الانقطاع ضعفٌ في شبكات الاتصالات، انعكسَ بدَوره على التحويلات المالية للمواطنين، وشُحّ السيولة النقدية جراء إغلاق جميع البنوك والمصارف أبوابها، في ظل انعدام مصادر الدخل والارتفاع الجنوني في أسعار المنتجات الغذائية، مع شُحٍّ كبيرٍ للبضائع في الأسواق.

 وعلى الرغم من احتكار الجهات الأمنية بالمدينة تصاديق السِّلع الغذائية، تشهد أسعارُها ارتفاعاً كبيراً، إذ بلغ سعر جوال الأرز 90 ألف جنيه سوداني، وجوال الدقيق 100 ألف جنيه.

 يوجد عدد قليل من الأفران التي تعمل بالحطب، وتطول صفوف الطالبين للخبز مع بلوغ سعر القطعة الواحدة منه 200 جنيه سوداني. وبات العديد من المواطنين يعتمدون على طحن الذرة للكسرة والعصيدة، وتعمل طاحونتان فقط في المدينة.

ولجأت كثيرٌ من الأحياء والمناطق في المدينة إلى ابتداع التكايا الجماعية التي تقدم الوجبات لأهل الحي أسوة بمطابخ دُور إيواء النازحين بمدارس المدينة.

صعوبات عديدة يواجهها سكان ونازحو سنار في الحصول على مياه الشرب والاستخدام، إذ لا تتوافر الآبار التي تعمل بألواح الطاقة الشمسية في جميع الأحياء؛ بينما يجلب عدد من ساكني الأحياء المياه من النيل الأزرق مباشرة، مع عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل المولدات، وانعدام ألواح الطاقة الشمسية وإن وُجدت فثمنها باهظٌ جداً.

 وأسهم عدم توفر الوقود في ندرة وسائل المواصلات، وإن وُجِدَتْ وسائل نقل داخلية فقد تضاعفت أسعارها إذ بلغ التعرفة 1500 جنيه سوداني.

 ويُتوقع أن يواجه المواطنون شبح المجاعة وانعدام الغذاء بالكامل، إذ خرجت جميع المشاريع الزراعية بالولاية من دائرة الإنتاج، وقُطِعَت الطرق بين مدنها، مما ولّد حصاراً  تزداد وتيرة أزمته يومياً، خاصة مع انقطاع سلاسل إمدادِ سلعٍ مثل الدقيق والوقود، نظراً إلى انقطاع الطرق التي تؤدي إلى شرق السودان بسبب سيطرة قوات الدعم السريع على مدينتي سنجة والدندر المتاخمتين لولاية القضارف.

تسوء الأوضاع الأمنية يوماً بعد يوم، وقد ازداد الهلع على قاطني سنار عند صباح 11 يوليو، إثر اندلاع الاشتباكات بين قوات الجيش والدعم السريع قرب منطقة مايرنو على بعد 10 كلم جنوب المدينة، وسرعان ما أعلنت قوات الجيش أن كوبري مايرنو تحت سيطرتها، وبثت بعدها تطمينات للسكان بهدوء الأوضاع، لكن تشهد المدينة انتشاراً لنقاط التفتيش المنصوبة على جميع الطرق، حيث يتعرض جميع المارّة للمساءلة، إضافة إلى الملاحقات والاعتقالات التي تطال كثيرين، فكل من يحمل السلاح في المدينة له مطلق السلطة على من شاء.

يعمل قسمان فقط بمستشفى سنار: الحوادث والكلى. وهو مُهدّد بالتوقف مستقبلاً جراء شح الوقود والإمداد الدوائي. ولا تتوفر أية أدوية في صيدليات المستشفى. كذلك يعمل مستشفى الكرامة الخاص. وتعمل بالمدينة  أربع صيدليات فقط، وهي تجارية، وأسعار الدواء فيها فوق قدرة المرضى على الشراء، ولا تتوفر فيها جميع الأدوية المطلوبة خاصة لأصحاب الأمراض المزمنة، ومع انتشار حالات الملاريا، والفصل خريف.

تتملك الرغبة في المغادرة كثيراً من القاطنين بسبب الذعر والرعب، لكن تصدّهم عن ذلك تكلفة السفر العالية، وقد اضطر بعضهم إلى المغادرة سيراً على الأقدام، ومع ذلك لم يسلموا من لدغات العقارب والثعابين، إضافة إلى وعورة الطرق وانقطاعها بسبب هطول الأمطار، وكثرة حوادث النهب بسبب انتشار جماعات تحمل السلاح ولا يعرف انتماؤها إلى أي جهة، باثةً رعباً على الرعب الذي خلفته الحرب.

كسلا: زحف بشري وغلاء في السلع الاستهلاكية

موجة نزوح جديدة تضرب مدينة كسلا بعد أحداث سنجة، وقد وصلت إليها أعداد كبيرة من مدن سنجة، وسنار، والدندر، وجبل مويا، وما حولها من قرى. جرى تحديد مركزَي إيواء للوافدين، وهما المدرسة الصناعية ومدرسة عمر الحاج موسى، ولاحقاً استضيف عدد منهم بمبنى وزارة الزراعة قبل أن يُطالبوا بإخلائه وترحيلهم إلى مدرسة نزلة العمدة بمحلية غرب كسلا.

وتوزع النازحون على مراكز الإيواء بواقع حوالي 6.700 شخص في المدرسة الصناعية، وأكثر من 1.500 في  مدرسة عمر الحاج موسى، وأكثر من 1.500 شخص بمدرسة نزلة العمدة.

ونُصبت عدد من المخيمات داخل المدرسة الصناعية والمراكز الأخرى، لكن أعداد النازحين تتزايد على نحو مستمر، وعلى مدار الساعة، مما جعل أعداداً كبيرة منهم تعيش في العراء أمام مراكز الإيواء المختلفة.

وجرى إنشاء عدد من المطابخ لتغطية الوجبات الثلاث، كما أنشئت عدد من العيادات الميدانية. ورغم ذلك ما زالت المبادرات المحلية عاجزة عن تغطية حجم الاحتياجات.

ويعيش النازحون أوضاعاً مُتردّية، على الرغم من المجهودات المبذولة من وزارة الصحة والمنظمات المختلفة وغرفة طوارئ شباب كسلا وشباب الترعة ومجتمع كسلا، لتوفير الحد الأدنى للاحتياجات.

توجّس وقلق عام وحالة ترقب تنتاب المواطنين على الرغم من قلَّة المظاهر العسكرية التي ترافقها حالة هدوء أمني تام، مع استمرار تفعيل وضع حظر التجوال منذ التاسعة مساء وحتى السادسة صباحاً وعقوبات تتراوح ما بين الغرامة المالية والسجن للمخالفين .

وتشهد المدينة ارتفاعاً جنونياً في أسعار السلع الاستهلاكية والخضروات والخبز والبنزين والفواكه. ويعزو التجار هذا الارتفاع إلى عدم استقرار سعر الدولار، بينما يرى المواطنون أن الازدياد المطرد مرتبط بقدوم النازحين.

وتراوح سعر ربع اللحم العجالي بين 2.500 و4 آلاف جنيه، والضأن بين 3.500 و5.500 جنيه، ووصل سعر جوال العدس 20 كيلو ما بين 45 ألفاً و52 ألف جنيه، والأرز 20 كيلو بين 45 ألفاً و52 ألف جنيه، والزيت 18 رطلاً بين 28 ألفاً و35 ألف جنيه، وجوال السكر 50 كيلو يتراوح سعره بين 83 ألفاً و108 آلاف جنيه، وجوال الدقيق 25 كيلو بين 27 ألفاً و29 ألف جنيه. وارتفع سعر رطل اللبن من 700 جنيه إلى 900 جنيه، الرغيفة من 100 جنيه إلى 150 جنيهاً، السلطة الخضراء من ألف جنيه إلى 5 آلاف جنيه. وارتفع سعر جالون البنزين من  9 آلاف إلى 11 ألف جنيه. ومن المتوقع زيادة تعرفة المواصلات خلال الأيام القادمة. وتتراوح أسعار إيجار المنازل ما بين 700 ألف جنيه ومليونَي جنيه.

من ناحية أخرى، فقد اجتاح فيضان القاش مدينة أروما شمال كسلا، وأدى اجتياحه إلى انهيار عدد كبير من المنازل، مع القلق من اجتياحه مناطق وقرى أخرى بمحلية أروما وشمال الدلتا نسبة لتذبذب منسوبه وعدم الاستعداد الجيد لموسم الخريف باتخاذ التدابير اللازمة لتلافي أثره.

وتوافَدَ عددٌ كبيرٌ من الكوادر الصحية إلى المدينة، وافتُتحت عدد من المراكز الصحية والمستشفيات والعيادات الخاصة والصيدليات. وانحسرت عدد من الأمراض الوبائية التي بدأت تتفشى من قبل بين النازحين، مثل السل والحمى النزفية، لكن مع اندفاع القاش تتوقع مصادر صحية، انهيار الوضع الصحي بسبب توالد الحشرات الناقلة للأمراض مثل الذباب والباعوض. ويمثل زحف النازحين نحو المدينة تحدياً آخر مع ارتفاع أسعار الأدوية والعلاج بالمستشفيات الخاصة والحكومية.

أم درمان: إعادة تأهيل المستشفيات المتضررة

عندما اندلعت الحرب في منتصف أبريل من العام الماضي، كان القطاع الصحي يسير بخطى حثيثة نحو الانهيار، لذلك لم تستمر مقاومته طويلاً. وبعد أيام قليلة على الحرب، خرجت مستشفيات العاصمة الرئيسة من الخدمة، وفقد العشرات من مرضى الكلى والسرطان والأطفال فرصتهم في الحياة عندما لم يجدوا الرعاية الطبية والضرورية.

وواجه سكان محلية كرري التي دارت فيها أقل المعارك العسكرية بولاية الخرطوم، مصاعب جمة من أجل الحصول على الرعاية الطبية، إلى أن جرى تشغيل مستشفى النو بأم درمان بواسطة متطوعين.

وعلى الرغم التضحية التي قدمها المتطوعون، إلا أن بعضهم تعرضوا لمضايقات من قِبل الأجهزة النظامية واعتُقل عدد منهم، وبالمقابل قصفت قوات الدعم السريع المستشفى أكثر من مرة مخلفة عدداً من الضحايا في كل مرة. حالياً بات مستشفى النو حجر الزاوية في تقديم الخدمة والرعاية الطبية بمحلية كرري.

ومن أجل تقوية عمل المرافق الصحية بدأت سلطات ولاية الخرطوم التي انتقلت لإدارة الولاية من محلية كرري، العمل على تنفيذ عدد من الخطط والبرامج لصالح توفير رعاية صحية وطبية لائقة بالمواطنين.

لكن عدداً من المصادر الطبية بمحلية كرري –فضلت حجب هويتها لعدم تخويلها بالحديث للإعلام – ترى أن الإصلاحات التي تتحدث عنها سلطات الولاية أقل بكثير مما يقال عنها.

وقالت المصادر إن معظم الإصلاحات التي تتحدث عنها الولاية لا تتعدى افتتاح وتأهيل وتحديث المستشفيات القائمة أو إدخال أجهزة حديثة كانت موجودة في السابق، لكنها تعرضت للسرقة أو الإتلاف أثناء الحرب.

لكن مصادرَ أخرى داخل الحقل الطبي بمحلية كرري، وصفت لـ “أتر” ما يجري حالياً بالإنجاز، لكونه يجري في ظل ظروف الحرب بالغة التعقيد، وقالت إن المؤسسات الطبية بمحلية كرري تشهد نقلة نوعية وكبيرة في الخدمات رغم  الأضرار البالغة التي لحقت بالبنية التحتية للصحة.

وبحسب المصادر، فإن سلطات ولاية الخرطوم استغلت رغبة وزارة الصحة الاتحادية في العودة إلى العمل بمحلية كرري، ودفعت وزير الصحة الاتحادي هيثم محمد إبراهيم لتأهيل عدد من المنشآت وتحديث أخرى شملت مستشفيات قائمة، منها مستشفى البلك بالثورة وإنشاء قسم للحوادث، مع إضافة أقسام وتخصصات طبية لم تعمل منذ بداية الحرب، وتوفير أجهزة حديثة للمستشفيات.

 واستقطبت السلطات بالولاية عدداً من اختصاصيي الأطفال إلى مستشفى البلك، وافتتحت 12 عيادة متخصصة تشمل جميع الأقسام ووفرت معامل نادرة للأطفال.

 ووفقاً لإحصائية غير رسمية تحصّلت عليها “أتر”، فإن مستشفى البلك للأطفال يستقبل ما بين 1.500 إلى 2.000 مريض شهرياً.

وكان وزير الصحة قد افتتح مطلع الأسبوع بمحلية كرري مقر المعمل القومي للصحة العامة “ستاك”، ومقر المجلس القومي للأدوية والسموم، وهيئة الطب العدلي، وافتتح أقسام العناية المكثفة بمستشفى النو.

وأنشئت عدد من حضانات الأطفال حديثي الولادة بالمستشفى السعودي للولادة الذي جرى نقله من مقره إلى داخل مستشفى النو.

 لكن في مقابل ذلك يقول عدد من المواطنين تحدثوا لـ “أتَـر”، إن الجهد المُتداول لتوسيع مواعين تقديم الخدمة الطبية يصطدم بندرة وغلاء فائق في أسعار الأدوية والعقاقير الطبية.

ويقول السر محمد “71 سنة” ومريض مزمن بالسكري والضغط، إن أدوية الأمراض المزمنة تُباع في السوق السوداء، ويُخبر “أتَـر” بأن سعر حبوب الضغط ارتفع من 3 آلاف إلى 18 ألف جنيه، وحبوب السكري من 1.500 إلى 7.500 جنيه.

ويقرّ عدد من الصيادلة ببيع الدواء بسعر السوق السوداء، مبررين ذلك بأن السلطات تخلّت عن فتح اعتماد لتوريد الأدوية، وسمحت لكل من يرغب التجارة في سوق الدواء عبر ما يعرف بتجارة الشنطة.

وعلى كلٍّ، فقد جرت إعادة افتتاح مستشفى بر الوالدين بمحلية كرري وعدد من المستشفيات بالريف الشمالي أهمها مستشفى السروراب الذي يقدم حالياً جميع الخدمات الطبية بما فيها غسل الكلى.

Scroll to Top