أتر

الأبيض: أمام شبح الجوع والبطالة

في وسط مدينة الأبيّض يُقام أكبر سوق للمحصولات في السودان، ترد إليه المنتجات المحلية وسلع الصادر من أقاليم كردفان ودارفور، وهو يحتلّ جزءاً كبيراً من مساحة المدينة القديمة التي نالت شهرتها من ذلك السوق باعتبارها أكبر بورصة للصمغ العربي، وتكاد تحتكر صادرات الحبوب الزيتية.

شرق هذا السوق، تصطفُّ الشاحنات التي أفرغت حمولتها، مستعدة للمغادرة بعد فترة استجمام قصيرة، وفي تلك الأثناء يعمل المساعدون على كنسها وتنظيفها من ساقط الحبوب المخلوطة بالتراب والزيت والشحم والجازولين.

كانت هذه الكِناسة في الماضي غذاءً للطير، وشكّلت جزءاً من ذاكرة أطفال الأحياء القريبة من السوق؛ لكنها مع مرور الوقت، واشتداد الضائقة الاقتصادية، صارت نشاطاً تُمارسه النسوة الفقيرات، إذ يعملن على تنظيف الحبوب من تلك الأخلاط وفرزها عن بعضها البعض، فراجت سوقٌ يرتادها مُربُّو الدواجن وطيور الزينة.

منهُم إبراهيم. يقول لمراسل “أتَـر” إنه كان يتحصّل على تلك الحبوب من مختلف أنواع الذرة عند الفرّاشات بأقل من سعرها كثيراً؛ أما الآن، مع قلة الوارد للمدينة بسبب خطورة الطرق، فقد توقف إبراهيم عن الذهاب إلى سوق الفرّاشات وترَك تربية الطيور، خاصة وأن الأسعار هناك لا تكاد تختلف عن أسعار السوق الرسمي للعيوش، فالحبوب التي كان يعيش عليها الطير باتت غذاءً للبشر وارتفعت أسعارها؛ في وقت وصل فيه سعر ملوة الذرة-الفتريتة إلى أكثر من 4 آلاف جنيه سوداني، والذرة-طابَتْ إلى أكثر من 5 آلاف جنيه، بحسب جولة قامت بها “أتَــر” داخل أسواق للعيوش في أطراف المدينة.

وفي سوق أبو جهل الشهير، الذي يحمل الآن اسم الصحابي عبد الله بن مسعود، دون أن يتغيّر فيه أيُّ شي آخر، ما زال العمّال الزراعيّون يجدون احتياجاتهم من اللحم المُقدَّد “الشرموط” والسمك المجفّف “الكَجِيك”، ومنتوجات الألبان من الجبن والسمن وزيت الولد الذي تُنتجه العصّارات البلدية التي تعتمد في قوّة دفعها على الإبل؛ كما تكثر فيه المنتوجات الجافّة مثل الوِيكة (البامية المُجفَّفة) والشطّة والصلصة. وفي غير مواسم الزراعة والحصاد، التي يزدهر فيها السوق، فإن نشاطه يقتصر على تسوّق الأُسر الفقيرة التي تبحث عن بدائل غذائية للخضروات واللحوم الطازجة والمُصنّعة.

لكن، ومنذ اندلاع حرب 15 أبريل، غادرت الأُسر ميسورة الحال المدينة، فكسدت تجارة المعلبات واللحوم المصنعة والأجبان المستوردة.

يقول صاحب ملحمة، إنه ما قبل الحرب كان يبيع ما مجموعه 7 خراف وعِجْلان في اليوم؛ أما الآن، فإنه يذبح عجلاً واحداً ولا يبيع منه أكثر من 20 كيلوغراماً ويحفظ الباقي في الثلاجة. ومع انقطاع الكهرباء، فإنه مضطرّ إلى شراء ثلج للحفاظ على اللحم؛ مما يضع أكثر من 30 ألف جنيه أخرى ضمن لائحة إنفاقه، وربما خسارته. وأضاف صاحب الملحمة، الذي طلب عدم ذكر هويته، متحدثاً إلى مراسل “أتَـر” من تحت ظلّ شجرة: “تركتُ مهنةَ الجزارة حالياً، وأرسلتُ أسرتي إلى مصر، ولا أدري حقاً ماذا يتوجب عليّ فعله”.

كل هذه الأسباب مُجتمعة، زادت الإقبال على المنتوجات التي كانت مُخصّصة فيما سبق لعمال الكَنَابي في الفلوات البعيدة، حتى وصل رطل السمك المُجفّف إلى 7 آلاف جنيه، وأصبح في مستوى قريب من سعر كيلو اللحم الذي وصل 8 آلاف جنيه.

وفي ظل ارتفاع سعر الويكة، راج في الأبيّض استخدام نبتة تُسمى “الأباديب”، كانت تُستخدم وسط سكان القرى والفرقان البعيدة، وقد أسعفت السوق حيناً لرخص سعرها مقارنة بالويكة التي وصل سعر الملوة منها إلى 4 آلاف جنيه، لكن الإقبال على نبتة الأباديب بدَوره جعل سعرها يزداد حتى صار على مسافة ليست بعيدة من سعر الويكة، إذ وصل سعر الملوة منها 3 آلاف جنيه.

يحدث هذا الارتفاع في ظلّ انخفاض القوة الشرائية بصورة غير مسبوقة في مدينةٍ فقَدَ الناس فيها مصادر دخلهم الذي يعتمد على الزراعة والرعي ورواتب العاملين في القطاعين العام والخاص، ولم يكن الموسم السابق ناجحاً بحسب جهات تعمل في سبل كسب العيش، مثل الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد)، إذ تعذَّر دخول أكثر من 1000 تراكتور كانت تأتي سنوياً من ولاية النيل الأبيض لحرث الأراضي الواقعة بين ولايتي غرب كردفان وشرق دارفور، ولم يتمكّن المزارعون في المشروعات المخططة والتي خارج التخطيط من حصاد زروعهم، حالهم حال المزارعين في منطقة خور أبو حبل شرق أم روابة والرهد التي تعتمد عليها الولاية في تحقيق الأمن الغذائي.

في ظل ارتفاع سعر الويكة، راج في الأبيّض استخدام نبتة تُسمى “الأباديب”، كانت تُستخدم وسط سكان القرى والفرقان البعيدة، وقد أسعفت السوق حيناً لرخص سعرها مقارنة بالويكة التي وصل سعر الملوة منها إلى 4 آلاف جنيه

وبحسب ممثل منظمة إيفاد، فإنهم سعوا إلى إنجاح الموسم الشتوي بتوزيع البذور العلفية وحب البطيخ وتشجيع التقنية الوسيطة التي تجريها الدواب، لكنهم لم ينجحوا، لأن الانتقال إلى الخطة “ب” يتطلب اتخاذ قرار من رئاسة المنظمة في الخرطوم التي يتعذّر الوصول إليها. ومثلما أثّر هذا الوضع على وارد المنتوجات إلى المدينة، فقد قاد أيضاً إلى انخفاض القوة الشرائية وكساد الأسواق التي تعتمد على تسوّق أهل الريف داخلها.

كذلك حال الرعاة الذين لا يُغامرون بجلب بهائمهم إلى المدينة خوفاً من تعرّضهم للنهب والسلب قبل الوصول إليها، وبعد مغادرتهم في طريق العودة إلى ديارهم، لذلك انخفض الوارد. وزريبة الأبيّض، التي كانت أكبر محجر للصادر وترد إليها أعدادٌ لا تُحصى من الخراف والأبقار، ما عادت تأتي إليها الآن إلا أعداد محدودة، الأمر الذي أثّر على المعروض من اللحوم وقاد إلى اختفاء حِرَف كثيرة مرتبطة بالترحيل والذبيح. وبحسب صاحب الملحمة، في حديثه إلى “أتَـر”، فإن الوارد الآن قليل جداً، ويتنافس عليه عدد كبير من السماسرة، مما يقود بدَوره إلى ارتفاع الأسعار.

وبسبب قلة الوارد من المنتجات الزراعية، بشقّيها النباتي والحيواني، فضلاً عن السيولة الأمنية، تأثَّر قطاع النقل كثيراً، وتوقّفت شركات ضخمة مثل “كمدور” و “كركر” و “الطريفي للبترول” و “العليقي للبترول” و “هوان للنقل” وغيرها، واحتفظت بشاحناتها في بورتسودان وكوستي خوفاً عليها، ولعدم وجود ما يمكن شحنه من المدينة وإليها.

يقول مدير شركة نقل، متحدثاً لمراسل “أتَـر”، إن الشركة الواحدة تمتلك أكثر من ألف شاحنة، يعمل بكلّ واحدة منها ثلاثة عمّال في وظائف القيادة والتزييت والتشحيم؛ وكل هؤلاء أُنهيَت خدماتهم بخطابات مروّسة إلى أجل غير مسمى، فتوقَّف تبعاً لذلك النشاط في المنطقة الصناعية، وتوقَّف عمّال العتالة في سوق الأبيّض الغربي عن العمل، لكنهم ما زالوا يرتادون أماكن عملهم القديمة ويقضون سحابة نهارهم في لعب السِّيجة والضالَة، وهما من اللعبات الشعبية الرائجة في كردفان، كذلك توقف عمل الموظّفين والعاملين في القطاعين العام والخاص، وما عادت الدولة تتكفل بصرف مستحقات لغير المعاشيين والعاملين في التعليم العالي، بنسب لا تتجاوز 60٪ من مستحقّاتهم، التي لا تصل إلى 300 ألف جنيه.

كانت مدينة الأبيض مركزاً تجارياً واقتصادياً يربط أرياف ومدن كردفان ودارفور، لكنها الآن تواجه شبح الجوع والبطالة ويُتربَّصُ بأهلها في كل الاتجاهات.

Scroll to Top