اللوحة من أعمال الفنان Medo Kagonka
كان العام 2013م، لعنةً على نظام الإنقاذ العتيد، إذ إنه ظل يُعاني من آثار فقدان 80% من ميزانية الدولة، نتيجة لاستقلال جنوب السودان Qفي 2011. وفي المقابل، اشتعل الشرق الأوسط والعالم العربي بثوراتٍ ثم انتكاسات كبيرة في سوريا واليمن وليبيا وتونس، ووسط ذلك كله كانت الإمارات لاعباً أساسياً بالمال، وكانت باستمرار في حاجة مُلحَّة إلى المُقاتلين المستأجَرين.
حملت البوارج العسكرية الإماراتية والسعودية، جراء ذلك، آلافَ السودانيين إلى جبهة اليمن، تحت غطاء “عاصفة الحزم”. ومع التحوُّل الذي شهدته بنية نظام الإنقاذ بعد عام 2014م، والوصول إلى مسار مغلق داخلياً، واعتماده على الشخصيات بدلاً عن المؤسسات، برزت فرصة ذهبية للإمارات، أن تشتري من الرئيس السابق عمر البشير “الرجال” لقتالها في اليمن. البوابة التي فتحت لآل دقلو موارد غير محدودة ساعدته في توسيع منظومة الدعم السريع، ليضحي عمادُها الرئيسي توفير المقاتلين الأشداء الأقوياء من كلّ فج عميق.
سياسات الأرض
ضخت الإمارات خلال العقد (2012- 2022) حوالي 60 مليار دولار في إفريقيا، وتحوّلت إلى لاعب مؤثر في اقتصاد الدول الأفريقية. ومع مجيء العام 2022، ضاعفت الإمارات هذا الرقم. وتُظهر بيانات fDi Markets أن الإمارات، قد تعهدت بضخ 52.8 مليار دولار من المشاريع والاستثمارات المُباشرة في عام 2022، لتتصدَّر لأول مرة، تصنيفات الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو ما يتجاوز مساهمات الصين في أفريقيا بحوالي 20 ضعفاً. ومع ذلك، شهد العام 2023 انخفاضاً في الاستثمارات الإمارتية، لتبلغ حوالي 44 مليار دولار.
ظل السودان جزءاً من مشاريع تُنشئها الإمارات في عموم أفريقيا؛ فحتى العام 2018، ساهمت عبر صندوق أبوظبي للتنمية في السودان بمقدار حوالي 7.3 مليار درهم، وأغلبها ودائع تُضَخ ضمن أطر الصفقات التي كان النظام يعقدها.
وقعت موانئ دبي العالمية، الذراع الأخرى للإمارات، أولى الصفقات التي استحوذت بها على موانئ القارة في منتصف العقد الأول من الألفية؛ واشترت في 2022 شركة “Imperial Logistics” الجنوب إفريقية بحوالي مليار دولار. وهي خطوة مكنتها من الوصول إلى نقاط عدة داخل القارة، مما يُسهّل إدارة الاستثمارات وتوجيه الإيرادات القادمة من داخلها إلى أسواق الإمارات. كما وقعت قبل عام من الآن عقداً مع دولة تنزانيا تدير بموجبه ميناء دار السلام لثلاثين عاماً، واستحوذت شركات إماراتية على الأراضي الزراعية في زمبابوي وأنقولا، إضافة إلى السودان. ويقدر حجم المساحة التي استحوذت عليها شركة دبي للاستثمار وشركة E20 بحوالي 3800 هكتار.
سعت الإمارات إلى وضع يدها على أكبر المشاريع الزراعية في السودان، وبدأت سياساتها منذ الفترة الانتقالية تتخذ منحى أكثر قدرة على ترويض الأطراف الفاعلة في المشهد والمؤثرة على مؤسسات الدولة. وتمكنت شركة الظاهرة الزراعية القابضة من الحصول على مشروع وادي الهواد، الذي منحه مجلس السيادة الانتقالي إلى الشركة الإماراتية. وكان الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة قد كون لجنة في العام 2021م، بهدف دراسة المشروع وتقييمه، وبحلول العام 2022م رفعت اللجنة توصياتها لمجلس السيادة، ومن ثم حصلت الظاهرة على ما يقارب 3 ملايين فدان، بقيمة استثمار أولي يبلغ حوالي مليار دولار، ليصل في نهاية المرحلة الأولى إلى حوالي 10 مليارات دولار.
الخلاف بين الجيش والإمارات
الحرب الصامتة التي كانت تدور بين الجيش والدعم السريع، كان أساسها الاقتصاد وطبيعة العلاقة بين المؤسستين، وحركة التجارة. وربما يمكن اتخاذ المواجهة العسكرية مع إثيوبيا في أراضي الفشقة علامةً في هذا الصدد. بدأت الأحداث في 6 سبتمبر 2020 مع محاولة الجيش السوداني استعادة أراضي “الفشقة” التي تحتلها إثيوبيا منذ 1991، مستغلاً انشغال إثيوبيا بحربها ضد قوات تيغراي.
في الفشقة، لم يُقدّم حميدتي أيَّ مساندة للجيش، سواء لوجستية أو من ناحية الجنود والوحدات المقاتلة، على الرغم من اهتمام حميدتي بملف شرق السودان. الأكثر من ذلك، أن حميدتي قد زار أديس أبابا أثناء المواجهة العسكرية، واستقبله رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، بل وقام بجولة في مواقع اقتصادية رفقة أخيه الأصغر القوني حمدان دقلو، الذي يُعد مسؤول الملف الاقتصادي لأسرة حميدتي.
لم يتدخل حميدتي تدخلاً مباشراً في قضية الفشقة، إلا بدعم المبادرة الإماراتية في حل القضية، التي اقترحت انسحاب الجيش السوداني إلى حدود ما قبل سبتمبر 2020، على أن تستثمر الإمارات في أراضي الفشقة، بعوائد موزعة 40% للطرف السوداني، و40% للطرف الإثيوبي، و20% للإمارات.
شهدت قضية الفشقة منعطفاً في العلاقة بين الجيش والدعم السريع، إذ رفض كباشي المقترح الإماراتي، في تصريحات أمام المواطنين بعد صلاة عيد الأضحى 2021، وقال إن كل من لا يعترف بسودانية هذه الأرض عليه البحث عن بلد آخر، مؤكداً أنه لا تنازل عن الفشقة. وكانت مجموعات مختلفة من مواطني القضارف؛ الولاية التي تقع فيها منطقة الفشقة، قد استخدمت شعار «هذه الأرض لنا»، الشعار ذاته الذي رفعه كباشي أمام المواطنين في رده على الموقف من المبادرة الإماراتية.
في مطلع 2022، بعد إرسال حميدتي قواته بعدة أشهر إلى بورتسودان من أجل حل النزاع الأهلي وحماية المواطنين، أصدر القائد العام للقوات المسلحة قانوناً بإسناد قانون البحار للعام 1970 إلى وزارة الدفاع، بدلاً عن مفوضية الحدود، الجهة المستقلة التي تشرف على ملفات الحدود السودانية. ووفقاً للمرسوم الدستوري، فإن وزارة الدفاع يجب أن تدير ساحل السودان، إضافة إلى خمسة كيلومترات من اليابسة، مما يعني فعلياً أن جميع الموانئ التي تطل على البحر الأحمر تشرف عليها وزارة الدفاع على نحو غير مباشر.
حرب على سيقان الضأن
مع اندلاع حرب 15 أبريل بين الجيش والدعم السريع، بدأت الأصابع تشير إلى مشاركة الإمارات، وسط صمت حكومي وخجل سيادي طوال أشهر الحرب الأولى، بينما تحاول أيدي الدبلوماسية السودانية أن تكون ودودة وهي تمتلك جميع الخيوط، قبل أن تظهر في 29 مارس 2024م عبر مذكرة السفير الحارث إدريس الذي اتهم الإمارات صراحة بالمشاركة في العدوان على السودان بجانب تشاد وإفريقيا الوسطى، قبل أن يكسر الفريق ياسر العطا، مساعد القائد العام للجيش، ذلك الصمت؛ تبعها خروج تظاهرات ضد الإمارات خاطبتها قيادة المنطقة العسكرية بولاية البحر الأحمر. فيما لا تزال الإمارات تحتفظ بموقعها كمستثمر في السودان، إلى جانب السوق الإماراتية التي يفرض فيها السودانيون وجودهم بقوة.
الدولة / السنة | 2018 | 2019 | 2020 | 2021 | 2022 |
---|---|---|---|---|---|
المملكة العربية السعودية | 549.1 | 510.1 | 284.9 | 365.3 | 317.3 |
اليمن | 14.4 | 8.5 | 12.5 | 5.2 | 5.3 |
الإمارات العربية المتحدة | 944.6 | 1,067.0 | 1,637.5 | 2,967.8 | 2,076.2 |
الأردن | 23.0 | 91.2 | 24.1 | 23.9 | 37.0 |
سوريا | 22.3 | 32.9 | 22.7 | 16.7 | 16.0 |
العراق | 1.1 | 0.5 | 0.8 | 0.6 | 0.1 |
المجموع | 1,638.394 | 1,779.3 | 2,068.6 | 3,464.1 | 2,518.0 |
جدول يوضح قيمة استيرادات الدول العربية من السودان (بملايين الدولارات) (2018- 2022).
المصدر: اعتماداً على بيانات بنك السودان المركزي، العرض الاقتصادي والمالي 202 ، جدول رقم (10)
يشير مجدي الجزولي في “حرب على سيقان الضأن”، إلى وجود علاقة بين الانفجار السكاني في الخليج وماشية بادية كردفان ودارفور، حيث يمثل صادر السودان والصومال حوالي 80% من وارد الخليج للحوم. يفسر مجدي تلك الحاجة، بأن اللحوم التي تجري رعايتها في هذه البوادي تُعد وقوداً مشغلاً لمدن الخليج، فإن كان النفط هو المنتج للكهرباء، فاللحوم منتجة لطاقة العمل الذي يزود به عامل الخليج نفسه لزيادة قدرته على الإنتاج.
صادرات السودان من اللحوم والحيوانات الحية ( 2022) المصدر: أتر العدد 7- 23 نوفمبر 2024م
تقارير التجارة الخارجية، بنك السودان المركزي (2022-2012) المصدر: أتـر، العدد7، 23 نوفمبر 2024م
السيناريو القادم
تحول الدعم السريع إلى مجرد كسيبة، على حد تعبير عارف الصاوي، في “رهان الإمارات الأخير: حميدتي أم الكسيبة”، وهو توصيف دقيق لما حدث أثناء الحرب. وبكل تأكيد انحسر رهان الإمارات في نقطتين: الأولى فهم موقع حميدتي من معادلة وجود الإمارات؛ أما الثانية فهي التحولات داخل تركيبة الدعم السريع نفسها، التي صعد فيها وجود الشقيق الأكبر، عبد الرحيم دقلو – بعد خروج حميدتي – على نحو لافت.
وعلى الرغم من اتساع رقعة المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع في سنار، وتكثيف وجوده في الجزيرة، وتشكيل إداراته المدنية في ولايات دارفور، لا يعفيه ذلك من دفع ثمن ما ارتكبه من انتهاكات طوال أشهر الحرب، خاصة وأن الولايات المتحدة قد بدأت تتدخل بقوة عبر دعوة وزير الخارجية بلينكن للجيش والدعم السريع إلى اجتماعات جنيف، مع دعوات وجهت إلى المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر والاتحاد الأوروبي، على أن تكون الأمم المتحدة هي المراقب. لكن على الرغم من ذلك، قد لا تسفر اجتماعات جنيف، ومحاولة إحداث اختراقات سياسية، عن توقف القتال العسكري على نحو سريع أو الوصول إلى نقطة نهاية، إلا إذ توصل حلفاء الأطراف المتقاتلة إلى صيغة مُرضية في السياسة والمال.