تتجه الأنظار بترقب وقلق كبيرين، لطبيعة الحراك العسكري الذي انتظم شرق السودان، عقب اندلاع الحرب بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023. مصدر القلق هو تزايد الاصطفاف القبلي في تمظهراته المسلحة، التي وجدت دعماً ومباركة من دولة إرتريا، خاصة مع توسع رقعة الحرب وتجاوزها لمناطق الاشتباكات الأولى، لتصل إلى وسط السودان بعد اجتياح قوات الدعم السريع لولاية الجزيرة وأجزاء من ولاية سنار، واقترابها من ولايات الشرق.
الخطوة التي جاءت مُتزامنة مع حملات تجييش المدنيين، لمواجهة خطر تمدد «المليشيا»، وجدت تأييداً ومساندة من القوات المسلحة. بل ويذهب مراقبون إلى أن تأسيسها كان بمبادرة من الاستخبارات السودانية والإرترية، بعد استشعار الأخيرة خطرَ تمدد الحرب وتأثيرها المحتمل على الأوضاع في الداخل الإرتري.
التسريبات الأولى، عن وجود معسكرات تدريب لحركات مسلحة سودانية داخل الأراضي الإرترية، انتشرت بعد شهر من سيطرة قوات الدعم السريع على عاصمة ولاية الجزيرة وانسحاب الجيش، ووصول قواتها إلى تخوم ولاية القضارف في خواتيم ديسمبر 2023.
تلك التسريبات، أكدت على تأسيس حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي والجبهة الشعبية للتحرير والعدالة بشرق السودان بقيادة الأمين داؤود، لمعسكرات تدريب عسكري داخل الأراضي الإرترية، بدعم من القوات المسلحة. ولكن واقع الأمر، بحسب مصادر مقربة من الاستخبارت الإرترية، أن إرتريا كانت مهتمة بتسليح التنظيمات القبلية التي لها امتدادات داخل أراضيها، وأنها بدأت في تجميع عناصر من قبيلة البني عامر لتشكل منهم قوة مسلحة بعيداً عن القوى التقليدية التي كان لها وجود من قبل.
بالفعل، ظهرت إلى السطح حركة عسكرية جديدة أُطلق عليها «قوات تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا؛ وهو شخصية معروفة في أوساط ولاية كسلا، كان يعمل في صفوف الشرطة السودانية قبل أن يُهاجر إلى دولة قطر ويعمل بالشرطة القطرية، وعاد إلى السودان بعد اندلاع الحرب.
رعاية إرترية
تحت رعاية إرترية كاملة الدسم، عقدت حركة إبراهيم دنيا أول مؤتمر لها في الفترة من 10 إلى 13 مايو 2024، في معسكرها القريب من قرية تمرات داخل الحدود الإرترية؛ وشكلت فيه الحكومة الإرترية حضوراً قوياً، إلى جانب بعض شخصيات مثلت أحزاباً وحركات مسلحة سودانية، في ظل غياب التمثيل الرسمي للحكومة السودانية. ويقدر عدد «قوات تحرير شرق السودان» بحوالي 2000 مقاتل وتتكون بشكل أساسي من قبيلتي البني عامر والحباب. وقال إبراهيم دنيا في المؤتمر، إن تشكيل الحركة «أتى بعد تزايد انتهاكات طرفي الحرب ولحماية مواطني شرق السودان والدفاع عن الأرض والعرض».
يقول الكاتب والصحفي جمال همد، رئيس تحرير موقع «أدوليس» في حديثه لـ «أتَـر»، إن إسياس أفورقي دائم القلق من أي تحرك سلمي أو عسكري في شرق السودان حيث الامتدادات الإثنية لبلاده، والامتداد الجغرافي لغرب إرتريا، مشيراً إلى أن شرق السودان مارس دوراً كبيراً في احتضان الثورة الإرترية عبر ثلاثة عقود هي عمر الكفاح المسلح.
ويواصل همد: «إن إسياس حريص على عدم انفلات الأحداث في شرق السودان، ومن أجل ذلك فهو يحتضن الحركات المسلحة تدريباً وتسليحاً، خاصة في ظل التوترات الداخلية بسبب عدم العدالة في توزيع السلطة والثروة في إرتريا»؛ ويضيف أن حصول سكان شرق السودان على حقوقهم السياسية يمثل مصدر قلق دائم لنظام إسياس. يقول همد: «أفورقي يعيش ضمن أجواء الحروب والاضطرابات، وأي هدوء ونضال سلمي يقود إلى أنظمة ديمقراطية يعده خصماً على وجوده».
وقد سبق أن استضافت الحكومة الإرترية المعارضة السودانية في تسعينيات القرن الماضي، وأسست لها معسكرات في شرق السودان كانت منطلقاً لعملياتها العسكرية ضد نظام الإنقاذ الذي ترأسه عمر البشير قبل سقوطه في أبريل 2019 بعد ثورة ديسمبر. وكانت القوات الإرترية هي قوة الإسناد الفعلية لأي عملية عسكرية لقوات التجمع الوطني الديمقراطي.
مواقف متغيرة
بدا الموقف الإرتري على تناغم تام مع الحكومة السودانية في بداياته، والتي بدأت التواصل مع القيادة في أسمرا للتعاون من أجل التصدي لتمدد لقوات الدعم السريع تجاه الشرق. وجاء الدعم الإرتري للحكومة السودانية انطلاقاً من مخاوفها على أمنها القومي وحدودها الغربية، وسرعان ما استضافت حركات أخرى إلى جانب «قوات تحرير شرق السودان»، وهي «قوات مؤتمر البجا» بقيادة موسى محمد أحمد، وقوامها من قبيلة الهدندوة و«قوات الأورطة الشرقية» بقيادة الأمين داؤود وقوامها من قبيلة البني عامر، وقوات «الحركة الوطنية للبناء والتنمية» بقيادة محمد طاهر سليمان بيتاي وقواته قوامها من «الجميلاب»، أحد أفرع قبائل البجا التي تتمدد في مناطق همشكوريب وتلكوك المُجاوِرة للحدود مع إرتريا، وله تواصل مستمر مع السلطات الإرترية.
بحسب وكالة سونا للأنباء، فإن الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة، زار منطقة همشكوريب مطلع أبريل الماضي، ودعا أهل المنطقة إلى الاستمرار في «التضرع والدعاء لنصرة القوات المسلحة في معركتها ضد المرتزقة والمتمردين».
تقول مصادر مقربة من المخابرات الإرترية، تحدثت لـ «أتَـر»، إن تحولاً مهماً طرأ على موقف الحكومة الإرترية من الحرب في السودان، وإنها قررت الوقوف على مسافة واحدة من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وإن أولى خطواتها المقبلة هي توحيد قوات التنظيمات الأربعة تحت قيادة واحدة.
وأفادت المصادر، قبل هذا التطور الأخير، بأن قوات الدفاع الإرترية خصصت فرقة عسكرية قوامها خمسة آلاف جندي لتقديم الإسناد، حال تطورت العمليات على الأرض في السودان واقتراب قوات الدعم السريع من المناطق الشرقية، وأنها بالفعل أرسلت فصيلة استطلاع متقدمة في وقت سابق، للوقوف على الأوضاع في مناطق الكباري على نهر عطبرة.
تطور جديد
مثلت حادثة طرد السلطات الإرترية للقائم بالأعمال في السفارة السودانية بأسمرا، الأسبوع الماضي، حدثاً لافتاً في مسار العلاقات بين البلدين، خاصة في ظل الوضع الإقليمي المتوتر أصلاً. وهي الحادثة التي أقرت بها الخارجية السودانية في وقت لاحق.
ذهبت التأويلات مذاهب شتى، في ظل صمت أسمرا عن أسباب اتخاذها لهذا القرار المفاجئ. وتوقع بعض المراقبين أن يكون الأمر على صلة بما يتردد عن علاقة حكومة السودان بمقاتلي التيغراي، وانخراطهم في القتال إلى جانب الجيش السوداني في معركته ضد قوات الدعم السريع. وقال آخرون إن الأمر مُتعلّق بفرض السفير رسوماً على السودانيين في إرتريا، في وقت أعفتهم فيه الدولة المستضيفة من أي رسوم، تفاعلاً مع ظروف الحرب في السودان.
لكن الدبلوماسي الإرتري السابق الذي يقيم بباريس، فتحي عثمان، يشير في تعليق على الحادثة في حسابه على فيسبوك، إلى أن هناك تسريبات تفيد بتجنيد الدبلوماسي السوداني لمخبرين للتجسس على تدريبات المجموعات المسلحة في معسكر ساوا بغرب البلاد. ومعسكر ساوا هو معسكر التدريب الرئيس لقوات الدفاع الإرترية. وقال عثمان إن هذا أمر لا تقبل به السلطات الإرترية، وتعده تجاوزاً للمهام الدبلوماسية، مشيراً إلى أن العرف والممارسة الدبلوماسية تتطلبان من المبعوث الدبلوماسي مراقبة ورصد أي أنشطة يمكن أن تمثل تهديداً لأمن بلاده، واستدرك: «لكن بالطرق الدبلوماسية».
وجاءت حادثة طرد القائم بالأعمال السوداني وطلب مغادرته لأسمرا في غضون 72 ساعة، في الوقت الذي التقى فيه الرئيس الإرتري إسياس أفورقي قيادات أهلية من شرق السودان تتدرب قواتها داخل الأراضي الإرترية، من بينهم الناظر محمد الأمين ترك ناظر عموم قبائل الهدندوة.
سلاح الشرق والمستقبل
تتزايد المخاوف من تأثيرات الحشد القبلي في تمظهراته العسكرية بشرق السودان، خاصة في المستقبل. يقول المختص في شؤون القرن الإفريقي، خالد محمد طه، لـ «أتَـر» إن تعدد التنظيمات وتنوع المقاتلين المنتشرين في شرق السودان الآن، هو جزء من أزمة كبرى تتمثل في انتشار السلاح والتحشيد غير مدروس الأثر، وتجاهل هشاشة البنية الأمنية والترابط الاجتماعي فيما بين المكونات الاجتماعية بولايات شرق السودان الثلاث، والتي قد تتفاقم بوصول عشرات الآلاف من النازحين من ولايات أخرى جراء الحرب.
ويضيف أن «الأزمة ليست فقط في حمل المواطنين للسلاح كوسيلة للحماية أو لدرء أخطار محتملة – بعد ما حدث من استهداف للمدنيين وممتلكاتهم وأعراضهم في الولايات التي دارت فيها الحرب – لكنها تصبح وسيلة خطيرة في حال استخدامها لأغراض التقوّي أو التعدّي أو فرض الرؤى السياسية أو فرض السيطرة بقوة السلاح”، منبهاً إلى أهمية مراجعة حجم وتسليح وتأثير التشكيلات المسلحة المتعددة والمختلفة في شرق السودان، وهي نحو 18 فصيلاً حتى الآن، الأغلبية منها موالية للقوات المسلحة أو هكذا أعلنت حتى الآن.
في ذات الوقت يقول الناشط السياسي بشرق السودان، خالد محمد نور، إن الحراك المسلح في شرق السودان هو نتيجة حتمية لما يدور الآن، فمعلوم للجميع تعدّد الحركات المسلحة بشرق السودان خلال الحرب، وافتتحت أغلبها معسكرات تجنيد وخرّجت مقاتلين.
واستدرك نور: «لكن بالنظرة الفاحصة، فإن الحركة التي تتمتّع بقبول جيد وقدرة على خلق تغيير هي «حركة تحرير شرق السودان» التي نظّمت مؤتمرها الأول»، واعتبر أن توصيف الحركة لإفرازات حرب 15 أبريل مدخل جيد للتعامل معها، وقال إن ما ينقصها هو صياغة مشروع سياسي متكامل تبني عليه تحالفاتها وتعديل الحال المقلوب بأسبقية البندقية على المشروع.
وأضاف أن ما يميز هذه الحركة أن القائمين عليها من خارج سياق النادي السياسي القديم الذي تدور في فلكه بقية الحركات الجديدة والقديمة في شرق السودان وأبرز مثال لهم موسى محمد أحمد والأمين داؤود. وأكد على ضرورة العمل السياسي المدني السلمي، مُحذراً من تجاهل السياق الحالي وحالة العسكرة الشاملة التي تضرب البلاد.
لكن جمال همد اعتبر ما يجري نتاجاً لما حدث في دارفور «حيث كانت المطالب شرعية، إلا أن اللاعبين السياسيين والحركات المسلحة انحرفوا بتلك المطالب نحو مصالح لا علاقة لها بشعوب وإثنيات دارفور التي تدفع الثمن غالباً».
وقال إن وجود تلك الحركات سيزيد طين مشكلات الشرق بلة، كما أنها براميل بارود الصراعات القبلية والإثنية التي شهدها شرق السودان، وأضاف أن هذه الحركات تمثل انقسامات داخل المكون الواحد، وتحمل جينات اصطراعات قبلية ذات طابع عشائري وهذا ما يغذيه إسياس أفورقي.
وفي ذات الاتجاه، حذر خالد طه من أن مسألة سباق التسلح لن توصل إلا لمزيدٍ من السباقات والتناحر مهما بدا موقف تلك التشكيلات موحداً الآن، وقال إن هنالك ضرورة للتسليح لكن ليس على أساس اصطفافات إثنية ومناطقية، بل الضرورة تقتضي الاشتغال الجاد على إيقاف الحرب والعمل على التوصل إلى مشروع وطني سوداني جامع، وحل جميع المشكلات المتصلة بحقوق المواطنة المتساوية، وشأن تداول السلطة، وبناء مؤسسات سلطة الشعب، ووضع أسس عادلة لعقد اجتماعي تحت مظلة دستور ديمقراطي دائم.