أتر

السودان وجنوب السودان خلال الحرب: أوجه التباعد ومسارات التقارب

عقب اندلاع الحرب في السودان منتصف أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع واستمرارها لأكثر من عام، واجهت علاقة السودان وجنوب السودان جملة من التحديات والضغوط. وانعكست تداعيات الحرب سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعياً على دولة جنوب السودان، مثل غيرها من دول الجوار؛ كما ظهرت بعض أوجه التوتر والتجاذب والتحفّظ، لا سيما في الجوانب السياسيّة والأمنية والاجتماعية، علاوةً على تأثّر اقتصاد جنوب السودان بالعمليات العسكريّة على نحو بالغ حسب تقارير مسؤولي الطاقة في الدولتين.

ولكن رغم ذلك، ظلت مساحات التواصل مفتوحةً بين بورتسودان وجوبا، بحكم حقائق الأمر الواقع التي تحتم عليهما التراجع والهدوء وتجاوز أي موجة توتر بينهما.

وسجل عضو مجلس السيادة الفريق أول شمس الدين الكباشي زيارة لجوبا مطلع مايو الماضي، أجرى خلالها محادثات مع كبار المسؤولين في نظام الرئيس سلفاكير؛ إضافة إلى محادثات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال بقيادة الحلو بشأن وصول المساعدات الإنسانيّة. سبقت زيارة الكباشي زيارات لنائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار إلى جوبا كان آخرها أبريل الماضي، بحث خلالها قضايا اللاجئين السودانيين في جنوب السودان، وقضية تصدير البترول، بجانب ملف أزمة السودان، والذي تُمثل فيه جوبا أحد الفاعلين الذين يحظون بتأثير واسع لدى الأطراف. لكن كان من اللافت أيضاً تسرّب نبأ زيارةٍ، عُدَّت سريَّة، لنائب قائد قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو برفقة قائد هيئة الأركان الإثيوبية إلى جوبا في منتصف يوليو المنصرم.

وشاركت جوبا في عدد من المبادرات الساعية لنزع فتيل الحرب بالسودان، إضافة إلى استضافة جنوب السودان اللاجئين السودانيين، واحتواء عناصر القوات المسلحة السودانيّة انسحبت من مقارها في نيالا والضعين والميرم.   

بالنسبة لجوبا، فإن استمرار الحرب في السودان، يعني بروز تحديات اقتصادية وأمنية وسياسية إضافة إلى التداعيات الكارثية على مستوى المعيشة، فضلاً عن تعطيل جهود الحوار بين البلدين لحسم القضايا العالقة بينهما، كما يعني أيضاً دخول جنوب السودان في توتر اجتماعي، وبروز محفزات الحساسية والصراع بين مكونات البلدين على الحدود خاصةً في منطقة أبيي، بحكم التشابك الاقتصادي والتداخل الاجتماعي بين البلدين.

 متحدثاً لـ «أتَـر»، يرى الصحافي باطومي ايول، أن دولة جنوب السودان، بقيت حبيسة تجاذبات سياسية وأمنية وتحديات اقتصادية واجتماعية، منذ اندلاع الحرب في الخرطوم، فالجيش يتهم عناصر في جوبا بمساندة الدعم السريع، بينما الأخيرة تتهم جوبا بوقوفها بجانب الجيش السودانيّ، مما دفع جنوب السودان إلى سياسة خارجية حذرة تجاه السودان، فضلاً عن أن تلك الاتهامات أثرت على جهود صنع السلام في السودان، فمحاولات جوبا التوسط لم تذهب بعيداً بسبب الشكوك من جانبي الحرب.

ويظل توطين وحركة المجموعات المسلحة والمُعارِضة لحكومة جوبا، من أكبر مخاوفها، خاصة أنها بدأت تأخذ مستوى تعاون بينها والمجموعات السودانية المسلحة، مما يمكن أن يشكل تهديداً أمنياً وسياسيّاً، مثل مجموعة «قارويج دويل»، ومجموعة «استيفين بوي»، كما يلفت أيول.

فيما يقول الناشط المدني، ابراهام مكواج، متحدثاً لـ «أتَـر»، إن حالة اللادولة التي يمر بها السودان نتيجة للحرب الدائرة، أثرت على الاستقرار السياسي بجنوب السودان تأثيراً مباشراً، فالحكومة السودانية أحد الضامنين لاتفاقية السلام المنشطة التي جرى توقيعها في عام 2018 في الجنوب، فضلاً عن توقف الدعم والغطاء السياسي والأمني الذي كانت توفره حكومة السودان لبعض الجماعات المعارضة في جنوب السودان، وإن كانت أسباب استمرارية تلك الجماعات مرتبطة بشكل السلطة في جوبا.

سؤال النفط

منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، ظلَّ ملفُّ النفط وتأثير سير العمليات العسكريّة عليه بين طرفي الحرب في السودان، من بين جملة أسئلة حرجة فرضت نفسها على دفاتر السلطات في جنوب السودان، وذلك لمركزيّة ووزن عائدات البترول في المخطط الاقتصادي والموارد المالية لدولة الجنوب، إذ تعتمد على اقتصاديات النفط بنسبة تفوق 90%، بحسب تقارير للبنك الدولي، وبالتالي فإن أي توقف لضخه سيدخلها في أزمة اقتصادية طاحنة.

وحسب وزير الطاقة السوداني؛ فقد تعطلت أكثر من ثلاث محطات نقل في النيل الأبيض وغرب وجنوب كردفان. ونقلت مصادر إعلامية في منتصف مايو صوراً جوية ومشاهد أظهرت تسرب كميات كبيرة من خام نفط جنوب السودان شرقي ولاية الخرطوم؛ حيث الطريق الدائري القريب من منطقة حطاب.

وفي أواخر مايو المنصرم، كلَّف الرئيس سلفا كير، مستشاره لشؤون الأمن القومي، توت قالواك بمهمة التواصل مع طرفي الحرب في السودان بشأن الدفع بجهود إصلاح المحطات المتضررة قُدماً ومناقشة سُبل تأمينها وتعزيز فرص نقل النفط بأسرع ما يمكن. وكان وليم أنياك دينق، وكيل وزارة البترول قد صرَّح للصحفيين، بعد اجتماع بين سفير الصين لدى جنوب السودان وشركات النفط ومستشار الأمن القومي توت قاتلواك، بأن تصدير نفط جنوب السودان إلى الأسواق العالمية عبر ميناء بورتسودان توقَّف بالفعل في السادس من فبراير، بعد تضرر الخط الناقل وعدم تمكّن المهندسين من إصلاحها، وإزالة بقية الأضرار مثل إزالة الشمع، بسبب استمرار العمليات العسكريّة واشتدادها في مناطق خط الأنابيب الذي يبلغ طوله 1400 كيلومتر، ويبدأ من منطقة الجبلين حتى المحطة البحرية، وتوجد على طوله أكثر من ستّ محطات ضخ تبعد كل محطة من الأخرى ما يقارب 200 كيلومتر.

تسبب توقف ضخ النفط الجنوبسوداني إلى بورتسودان، في ارتفاع معدل التضخم بشكل جنونيّ وتذبذب سعر صرف عملة جنوب السودان مقابل العملات الأجنبية أسبوعياً، مما انعكس على نحو كارثيّ سواء على المواطن أو اللاجئين السودانيين بحكم وجود أعداد كبيرة منهم حالياً في جنوب السودان.

ومنذ استقلال جنوب السودان، مثل السودان الظهير الاقتصادي للدولة الوليدة، خاصةً في ما يتعلَّق بمورد النفط الذي تعتمد عليه خزانة جنوب السودان، والذي يمر عبر الأراضي السودانية ويُصدّر للأسواق العالمية عبر ميناء بورتسودان، كما أنها تعتمد على السودان في تزويدها بمشتقات النفط لتشغيل مناطق الإنتاج، علاوة على أن معظم المواد والمنتجات الكيميائية تأتي عبر ميناء بورتسودان.

حاولت جوبا التواصل مع طرفي الحرب في السودان، للتوّصل إلى تفاهمات خاصة بشأن معالجة الأمر، لكن تعقيدات الحرب وتأثيراتها كانت أكبر وأعقد من قدرة الجيش والدعم السريع على الإصغاء إلى صوت جوبا بضرورة تأمين الخطوط الناقلة للمورد الأسود، مما دفع بأصوات للمطالبة بإيقاف تصدير النفط بالكامل عبر السودان.

 وفي منتصف يوليو الماضي، التقى نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي مالك عقار، وزير الطاقة محيي الدين نعيم، وناقشا مسألة ضخ خام بترول دولة جنوب السودان وآخر تطورات سيره الذي وصل إلى محطة مسمار استعداداً لنقله إلى المحطة النهائيّة ومن ثم إلى ميناء التصدير في بورتسودان. وفي أواخر يونيو الماضي أكد وزير الطاقة والنفط السوداني، د. محيي الدين نعيم محمد سعيد، قرب اكتمال أعمال إعادة ضخ بترول جنوب السودان، إذ بلغت نسبة إصلاح الأعطال أكثر من 80% خلال زيارة قام بها للمحطة الخامسة للضخ في «جبل أم علي» بولاية نهر النيل، وأشار إلى عودة ضخ بترول جنوب السودان في القريب العاجل، ليُسهم في تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي، وتحقيق الاستقرار المالي، وتقوية العلاقات بين الدولتين.

مسألة الحدود

يشكل الأمن الحدودي لجنوب السودان مع السودان تحدياً حقيقياً منذ بدايات استقلال الجنوب، ذلك لارتباطه بالقضايا العالقة بين البلدين، ولا سيما مسائل ترسيم الحدود والنفط والتوازنات الإثنية وحركة المواطنين. ومع اندلاع الحرب في السودان واستمرارها وتوسعها جغرافياً نحو الجنوب، ازدادت مخاوف جوبا حيال التداعيات المُحتمَلة التي قد تنجم بفعل العمليات العسكريّة وانعكاساتها على جنوب السودان، مثل تهريب البضائع والأسلحة وانتشارها، والهجرة غير المشروعة، وحركة وتوطين الجماعات المسلحة والمعارضة على المناطق الحدوديّة من كلا البلدين.

وفي نوفمبر الماضي، حذرت الأمم المتحدة بلسان مبعوثتها إلى القرن الأفريقي «هانا تيتيه»، من أن تصل خارطة العمليات العسكريّة بين الجيش والدعم السريع إلى تخوم منطقة أبيي وما لذلك من عواقب على وضعيّتها الخاصة اقتصاديّاً وأمنياً وسياسيًّا وإثنياً؛ حيث انعكست المعارك على التوازنات القبليّة الهشة في المنطقة، ولا سيما بين قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك والنزاعات التي تقع في قضايا الرعي والزراعة والموارد الغابية والمائية والمعادن. وقد تفاقمت تلك المخاوف لدى السلطات في جوبا مؤخراً، بعد هجوم وسيطرة قوات الدعم السريع على مناطق عديدة في ولاية غرب وجنوب كردفان، مثل الفولة وحقل بليلة النفطي والميرم، وبعض المناطق في النيل الأزرق.

 وفي أواخر يوليو المنصرم، شدّدت السلطات السودانية الإجراءات الأمنيّة على معبر جودة الحدودي مع جنوب السودان، بحسب وسائط إعلامية، مانعةً مرور أي مواد غذائية بواسطة المعبر في إجراء مفاجئ قبل أن تعيد فتحه في اليوم التالي. وفي أواخر يونيو كانت قد وقعت اشتباكات عسكريّة بين مسلحين ينتمون للجيش الأبيض في مناطق فنجاك نحو فارينق من جنوب السودان وقوات الجيش السوداني في منطقة كرندي في الليري بجنوب كردفان، أسفرت عن وقوع قتلى وجرحى من قِبَل المجموعة المسلحة، ولاحقاً تبين أن الحادث يتعلق بطبيعة الوجود النشط للمجموعات المسلحة ذات الطابع الإثني على حدود البلدين، وما ينشب بينها من احتكاكات بين فينة وأخرى، وما تشكله من مخاطر على طول الطرق وحركة الأشخاص والأنشطة التجارية.

نوتة

عقب استقلال جنوب السودان عن السودان، واجهت العلاقة بين البلدين تحديات في قضايا ترسيم الحدود، والنفط، والمواطنة، والملفات الأمنية والإثنية على الحدود بين البلدين، وقادت إلى توتر العلاقة وتراوحها بين الشدّ والجذبّ. وتنخرط الدولتان بين فترة وأخرى في عمليات حوار ومفاوضات مطولة للتوصل إلى تفاهمات تحسم القضايا العالقة بينهما.

في عام 2012 بعد نقاشات طويلة توصّلا إلى اتفاق مبدئي بشأن البترول، لكن النزاعات على الأراضي الحدودية، أدت إلى تعكير الأجواء واستمرت في خلق التوترات بين جوبا والخرطوم. بينما في السنوات الأخيرة وصلت الجهود المبذولة لتحسين العلاقات بين البلدين إلى مستويات مشجعة. فعقب سقوط نظام البشير عام 2019 استضافت جوبا مفاوضات الحكومة الانتقالية مع حركات دارفور، وتمخض عنها التوقيع على اتفاق جوبا لسلام السودان في الثالث من أكتوبر 2020. كما ساهمت حكومة السودان في عقد مفاوضات بين جوبا والحركات المسلحة المُعارِضة.

تحسن العلاقة بين السودان وجنوب السودان أدى إلى استقرار نسبي قاد إلى إحراز تقدم لافت في  القضايا العالقة بين البلدين، ونجم عن ذلك توقيع اتفاق لتمديد الفترة الانتقالية لمنطقة أبيي المتنازع عليها عام 2020، بجانب تنظيم دوريات مشتركة لمكافحة الجرائم العابرة للحدود.

اللاجئون في البلدين

الاستضافة الطيبة لدولة جنوب السودان للاجئين السودانيين في بداية الحرب شابتها العديد من الإجراءات التي وصفها كثيرٌ من السودانيين بالقاسية، ولكن مع استمرار الحرب والتطورات السياسية والعسكرية التي صاحبتها وانعكاساتها الاجتماعيّة والاقتصادية على البلدين، انخفضت شدة تلك الإجراءات. وناشد الرئيس سلفا كير سلطات بلاده ضرورة معاملة السُودانيين معاملة استثنائية خلال فترة الحرب.

يقول اللاجئ السودانيّ بمخيم قوروم، وأحد قادة الإدارة الأهليّة السُودانيّة بالجنوب، مهدي حسن، في مقابلة مع «أتَـر»، إن اللاجئين السودانيين في جنوب السودان واجهوا إجراءات عديدة بعد اندلاع الحرب في السودان، منها ما يتعلق بقانونيّة الإقامة والحركة والعمل وفرص التجارة والتراخيص، ومنها ما يتصل بتعقيدات اجتماعية واقتصادية، لكن مؤخراً تيسرت تلك الإجراءات كثيراً، الأمر الذي ساهم في خلق مناخ صديق في مخيمات اللجوء والمدن والأرياف، خاصة فيما يخص الانخراط في التجارة والاستثمار.      

وأسهم تدفق المتأثرين بالحرب في السودان إلى جنوب السودان في تفاقم الأوضاع الإنسانية، علماً أن معظم مناطق جنوب السودان تفتقر للخدمات الأساسية، ولا توجد أبسط مقومات الحياة فيها، مما أسهم في تردي الوضع المعيشي وارتفاع نسبة المحتاجين للمساعدات الإنسانية العاجلة.

 في المقابل، يواجه اللاجئون الجنوبسودانيون في السودان، والذين فروا جراء اندلاع الحرب في الجنوب 2013، ويبلغ عددهم نحو 800 ألف لاجئ، العديد من المضايقات التي بلغت مستوى «الانتهاكات الجسيمة»، بحسب مرصد حقوق اللاجئين (WRR). وحسب بيانات الأمم المتحدة فإن أكثر من 500 ألف شخص هم جملة العائدين لجنوب السودان بعد اندلاع حرب السودان.

ونقل مرصد حقوق اللاجئين، في بيان في منتصف يوليو المنصرم مضايقات عديدة وقعت بحق اللاجئين من جنوب السودان في مخيمات علقاية؛ رديس (1) ورديس (2)، ومخيم خور بولاية النيل الأبيض؛ تمثلت في تقييد حركة الشباب واحتجازهم بذريعة انتمائهم إلى الدعم السريع، هذا إضافة إلى مضايقات في حق النساء تشمل التحرش الجنسي. وفي أواخر يونيو الماضي، نقلت مصادر إعلامية أن السلطات السودانية في ولاية سنار قد احتجزت  ورحلت 14 امرأة وأطفالهن قسرياً إلى منطقة جودة الحدودية، كما شهدت ولاية النيل الأبيض حملة اعتقالات واسعة للاجئين الجنوبسودانيين بطرق عنيفة من أماكن متفرقة بالولاية، ولاحقاً رُحلوا إلى منطقة جودة الحدودية.

Scroll to Top