أتر

دفتر أحوال السودان (40): من كادقلي وعطبرة وكسلا

وضع كارثي على المستوى الإنساني في مدينة كادقلي، أطفال يتسولون بحثاً عن الطعام في سوق المدينة قرب المخابز والمحلات التجارية. والبيوت خالية مما يسد الرمق.

وحدها القوات النظامية بمختلف تشكيلاتها، هي التي تنتظم رواتبها، بينما تتفاقم مأساة الأسر التي ليس من أفرادها من ينتمون إلى القوات النظامية، فلا دخل أو معيل.

كحال مثيلاتها من ولايات سودان الحرب، تعيش ولاية جنوب كردفان بمحلياتها التسع عشرة ظروفاً سيئة في ما يتعلق بمعاش الناس وأمنهم. وازدادت وتيرة النزاع بين أطراف الحرب، محيلة حياة السكان والنازحين إلى جحيم في الولاية قاطبة. ويسوء الوضع أكثر في مدينة كادقلي حاضرة الولاية خاصة، فمنذ يونيو من العام الماضي اندلعت المعارك في الريف الشرقي للولاية، وقد نزحت بسببها عديد من الأسر متخذة من المدينة وجهة آمنة. نتيجة لذلك افتُتح أحد عشر مركز إيواء، أكبرها من حيث عدد الأسر مركز الميناء البري  للإيواء، إضافة إلى النازحين الموجودين قبلاً بالمدينة نتيجة للصراع القبلي الذي اندلع في أكتوبر 2022 بمحلية لقاوة غرب كردفان، إذ اضطر حوالي 36 ألفاً للنزوح منها بحسب التحديث الإنساني للسودان الصادر حينها عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة.

في ظل عدم اهتمام حكومة الولاية بقضايا واحتياجات المواطنين، وصمت الجهات والمنظمات الدولية، جرى تفعيل غرفة طوارئ المدينة، بتكاتف أهلي وبمجهودات ذاتية ومن بعض أبناء مدينة بخارج البلاد، وأنشئ مطبخ في مستشفى كادقلي التعليمي، وآخر في مستشفى الأطفال.

 وبحسب غرفة طوارئ كادقلي، تعمل المستشفيات بنسبة 50%، ولا تُوفّر جميع الأدوية التي يحتاج إليها المرضى، خصوصاً أدوية الأمراض المزمنة، والأدوية المتوفرة في الصيدليات بالمدينة باهظة الثمن. ورغم عمل المستشفيات والتأمين الصحي بالمدينة، لكن لا يملك المواطنون ثمن الدواء نتيجة للضائقة الاقتصادية التي يُعانون منها بسبب عدم صرف الدولة رواتب العاملين لأكثر من ثلاثة عشر شهراً، وفقدان كثيرين وظائفهم والانحسار الكبير في المساحات الزراعية. ونتيجة لإغلاق الطريق الرابط بين مع ولاية شمال كردفان (طريق كادقلي ـ الأبيض) تدخل المساعدات الإنسانية والإمداد الدوائي عبر دولة جنوب السودان.

وتأتي جميع البضائع إلى المدينة عبر دولة جنوب السودان من سوق النعام، الذي تجري فيه المعاملات فيه بحسب التجار بالدولار الأمريكي، نتيجة لتغير سعر الصرف على نحو متسارع. أثر هذا بدوره على أوضاع السكان واحتياجاتهم، إذ تشهد أسواق المدينة ومحلاتها التجارية غلاءً شديداً، مما انعكس بطبيعة الحال القوة الشرائية، فبحسب عديد من التجار بالسوق فإن معدل الشراء منخفض جداً.

الصنف والكمية السعر بالجنيه السوداني
ملوه الذرة المطحونة 10,000
كيلو السكر 5,000
رطل الزيت 2,500
كيس الرغيف "10 أرغفة" 2,500
كيلو العدس 5,000
ملوة البصل 10,000
كيلو اللحم العجالي 4,000
ملوة الويكة 14,000
ملوة اللوبيا 16,000

توقفت جل العمليات الزراعية في المشاريع الكبيرة نتيجة العجز عن توفير الوقود اللازم والارتفاع الكبير في أسعاره، إذ بلغ سعر جركانة الجاز مائة ألف جنيه سوداني، وهو ما جعل إمكانية الزراعة تقتصر على المقتدرين مالياً فقط، واكتفى البقية بزراعة مساحات صغيرة “جبراكة” قرب منازلهم محاولين الاستفادة من فصل الخريف وهطول الأمطار. وعلى الرغم من إعلان حكومة الولاية عن مبادرة بتكوين لجنة تستهدف مساعدة السكان على الزراعة، إلا أنها بحسب مواطنين مجرد دعاية إعلانية فقط، لن يكتب لها الاستمرار والنجاح، إضافة إلى أن الأوضاع الأمنية بسبب الحرب لن تسمح بزراعة مساحات كبيرة، وسوف تكون الرقعة الزراعية محصورة في أماكن محددة.

عطبرة: بضائع أصحاب الأكشاك تضيع تحت عجلات اللودَرات ولا تعويض

لم يكن لدى الباعة الجائلين وأصحاب الأكشاك أو (الفرّيشة)، وبائعات الشاي والقهوة، بالخرطوم والمدن التي وصلت إليها الحرب نصيب من الاطمئنان، لا في أيام السلم ولا في أزمنة الحرب، وقد انتقل أغلبهم إلى ولايات آمنة لمواصلة الكفاح من أجل لقمة العيش ومقاومة الظروف المعيشية الصعبة في عموم السودان.

وبعد سقوط ولاية الجزيرة في أيدي الدعم السريع، بدأت تنتشر روايات على وسائل التواصل الاجتماعي، عن أن أغلب الباعة وأصحاب الدرداقات لم يكونوا سوى أحصنة طروادة وخلايا نائمة للدعم السريع داخل مدينة عطبرة، كانت بانتظار ساعة الصفر.

في عطبرة، لا توجد أي أدلة على صدق هذه الروايات، ولم يصدر عن جهة رسمية ما يشير إلى أنه قد جرى القبض على بائع متجول وبحوزته سلاح  أو وجود قنابل داخل السوق. ومع ذلك ترضخ الجهات الأمنية إلى تلك الضغوط والقصص المزيفة على وسائل التواصل، وتقوم بحملات ضخمة لإزالة أكشاك العماري والوجبات الخفيفة وصوالين الحلاقة الصغيرة، وجميعها نشأت أساساً قبل اندلاع الحرب.

أجرت السلطات في مدينة عطبرة خلال الأسبوع الماضي، حملة حطّمت فيها جميع الأكشاك، خاصة بموقف مواصلات الدامر. وقادت تلك الحملات جهات أمنية مختلفة من الشرطة والأمن والجيش، ولم يسلم من الهدم حتى المصلى الخاص الذي يستخدمه سائقو الحافلات والمواطنون لأداء الصلاة والوقاية من أشعة الشمس الحارقة.

أحد المتضررين من الإزالة يدعى “حامد”، وقد وصل إلى عطبرة من أم درمان في شهر أغسطس 2023، وأنشأ كشكاً صغيراً لبيع المواد الاستهلاكية البسيطة مثل الصابون والسكر والشاي، تحدث إلى “أتـر” قائلاً: “حين لم أجد موقعاً للإيجار داخل السوق قررت الذهاب إلى المحلية واستخرجت تصديقاً بمبلغ 175 ألف جنيه لكشك صغير في موقف مواصلات الدامر”.

بدأ العمل يمضي على ما يرام من غير أي مضايقات، مع الانتظام في دفع الرسوم المختلفة لهيئة الصحة والنفايات والعوائد، لكن ذلك لم يدم طويلاً. يقول حامد: “فوجئنا بإنذار الجميع شفهياً بالإزالة ولم نُمنح سوى نصف ساعة فقط لكي يحمل كل صاحب كشك جميع معروضاته”.

يشير “حامد” إلى أن ذلك قد حدث أيضاً في ميناء عطبرة البري ومناطق سيدون وأبو حمد من قبل. “شعر أغلب الباعة بالخوف، ولم يكن هنالك إمكان للتفاوض معهم، ولو حاول أي صاحب كشك التحدث أو الاعتراض يجري التعامل معه بعنف قد يصل إلى الضرب”.

 “ح. ص” يعمل بائعاً للثلج قبل أن يمتلئ المكان بالباعة، فقد انتقل في العام 2004 من الفاو شرق ولاية سنار إلى مدينة عطبرة. يقول: “وصلت القوة وطالبتنا بإغلاق المحلات فقط ولم يسمح لنا بنقل أي متعلقات”.

يروي “ح. ص” أن بداخل الكشك الخاص به أكثر من 60 لوح ثلج جرى تحطيمها تماماً، وسعر اللوح منها يعادل 6.500 جنيه.

صان “ح. ص” الكشك من جديد بمبلغ 400 ألف جنيه وعاد إلى العمل مرة أخرى في المكان ذاته، لكنه فقد أغلب زبائنه وأضحى معدل البيع أقل مما كان.

لم يجد الباعة في المحلية إجابة على الأمر، وكان ردها أن أمر الإزالة لم يصدر منها ونفت علاقتها بالأمر، ولم يكن هناك أمر قضائي ولا حضور من أية جهة سوى قوات من الجيش والشرطة والأمن. وحتى اللحظة لا يعرف حامد ومجموعة من زملائه أصحاب الأكشاك من سيعوضهم عن ما فقدوه مع وعد من المحلية بذلك، مع أنه لم يُسجلوا أو يُحصَروا ويبدو واضحاً أن أملاكهم وبضائعهم البسيطة ضاعت تحت عجلات اللودر الضخمة.

يقول “حامد” إن غالبية المتضررين من أبناء دارفور مع وجود قلة من عطبرة وقرى متاخمة لها.

لم يتوقف أثر حملة الإزالة هذه على الباعة، بل امتد إلى جزء من المصلى الذي يتكون من مساحة صغيرة، ويستخدمه السائقون في الخط وأصحاب الدكاكين الثابتة المجاورة للموقف ومعهم الركاب لأداء الفرائض.

“علي”، وهو سائق مركبة عامة، يقول إن السائقين تضرروا أيضاً من إزالة الأكشاك، لأنها كانت تقدم لهم خدمات تحويل الرصيد أو شحن الهواتف المحمولة، إضافة إلى بعض المطاعم الصغيرة التي يتناولون فيها وجباتهم الخفيفة من سندوتشات وعصائر. وجرى أيضاً هدم استراحة السائقين وبها بعض أزيار الماء تسقي عطش العابرين بلا استثناء.

كسلا: أمطار غزيرة تزيد طين النزوح بللاً

هرباً من جحيم الحرب ووعثائها تتكالب على وافدي مراكز الإيواء في ولاية كسلا شرقي السودان مختلف صنوف المحن، إذ يواجهون تهديداً إنسانياً بلغ بهم حد فقدان الخيام التي تأويهم ومعظم الاحتياجات اليومية اللازمة للحد الأدنى للعيش. ومنذ مطلع فصل الخريف تشهد الولاية ازدياداً ملحوظاً نتيجة للتغيرات المناخية.

في صبيحة الجمعة، 26 يوليو، بدأ هطول الأمطار بغزارة وصفها السكان المحليون بأنها الأشد منذ أعوام مضت بالمدينة، وهي التي تشهد عاماً تلو الآخر فيضان النهر الأشهر القاش الذي ينتصف المدينة، وينبع من أواسط المرتفعات الإرترية.

وناشدت غرفة طوارئ شباب كسلا عبر منصاتها الرسمية يوم الجمعة الماضي المواطنين والمتطوعين والجهات الرسمية والمنظمات، الإسراع بمد مراكز الإيواء بمعدات شفط المياه، وشهدت ازدحاماً مؤخراً بعد موجة النزوح الثالثة جراء الأحداث الأخيرة في ولاية سنار بكل من سنجة والدندر والسوكي. وبلغ عدد الأسر الوافدة إلى مركز ايواء المدرسة الصناعية كسلا وحدها زهاء الـ 300 أسرة .

ورغم تزايد أعداد الوافدين ما زالت المراكز تستقبل مزيداً منهم، إلا أن المنظمات العاملة تحاول توفير الحد الأدنى من الإعانات، وتصل من جمعية الهلال الأحمر والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وكذلك من المنظمات السودانية، مثل منظمة صدقات، والمبادرات الطوعية المحلية، مثل لجنة طوارئ شباب كسلا، وتجمع شباب الثانويات وعدد من المتطوعين.

وألقت الفيضانات والسيول بآثارها على المدينة قاطبة، حيث تأثرت 1.708 منازل، مما أثر على 9.106 شخصاً. أما في ريف غرب كسلا، فقد تضررت 192 منزلاً وأثر ذلك على 1.072 شخصاً. وفي ريف أروما، تعرض 135 منزلاً للدمار، مما أثر على 690 شخصاً وأسفر عن إصابة 7 أشخاص ووفاة 3 آخرين. بينما في ريف كسلا، تضرر 62 منزلاً، مما أثر على 325 شخصاً وأسفر عن وفاة 5 أشخاص. وفقاً لدائرة الأرصاد الجوية في كسلا، سجلت المدينة 118 ملم من الأمطار، و74 ملم في محلية غرب كسلا، و95 ملم في مستوطنة ود شريفي، وهي من بين أعلى كميات الأمطار المسجلة منذ سنوات عديدة. هذه الفيضانات تشكل تحدياً كبيراً لسكان المنطقة وتستدعي تدخلاً عاجلاً من الجهات المعنية.

Scroll to Top