أتر

لعنة الموقع والموارد: السودان في عمق التنافس بين روسيا وأمريكا

روسيا تضع ذهب السودان نصب أعينها

من المعلوم أن الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا في مطلع العام 2022 قد ألَّبت ضدها دول الغرب وأمريكا، وعلى إثر ذلك فرضت عقوبات اقتصادية على روسيا؛ لكن يبدو أنها كانت تعد العدة سلفاً لمثل تلك الخطوة، فقد عملت روسيا على كنز الذهب، باعتباره مخزوناً استراتيجياً، لمواجهة أزمتها الاقتصادية في ظل العقوبات المفروضة عليها. ففي العام 2017، دخلت شركات تعدين للعمل في ولايات نهر النيل والبحر الأحمر والشمالية، مثل شركة “مروي غولد” التي يشاع أنها تابعة لشركة إم-إنفست (M-Invest) لمالكها رئيس مجموعة “فاغنر” الذي قُتل مؤخراً، يفغيني بريغوزين؛ والتي بدورها طالتها العقوبات الغربية. ففي بيان للمملكة المتحدة، صدر في يوليو 2023، قالت فيه إنها فرضت عقوبات على شركة مروي غولد لتهديدها السلام والاستقرار والأمن في السودان. وأضاف البيان: “لقد استوردت شركة مروي غولد معدات إلى السودان، من بينها أسلحة وطائرات مروحية وشاحنات عسكرية”. وقد كان بريغوزين مقرباً جداً من الرئيس بوتين، إلى الحد الذي يقال فيه إن فاغنر ما هي إلا واجهة غير رسمية للحكومة الروسية.

وقد أشارت تقارير كثيرة إلى أن ذهب السودان يُنقل بطريقة غير رسمية وغير مسجلة عبر طائرات خاصة، وأكدت صحيفة “تيلقراف” الإنقليزية أن ذهب السودان ساعد في تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا. كما أفاد تقرير للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، صدر نهاية العام 2023، بأن هنالك أفراداً يتبعون لمجموعة فاغنر موزعون في مواقع التنقيب عن الذهب، وخاصة منطقة العبيدية بشمال السودان. كما كشف تحقيق نشرته قناة “سي إن إن” في يوليو 2022 عن أن روسيا تنهب ذهب السودان بكميات هائلة، بما يعادل في كشف واحد 32.7 طن، أي ما قيمته 1.9 مليار دولار في ذلك الوقت. وأفاد التحقيق ذاته بأن 16 رحلة جوية جرت من الخرطوم وبورتسودان إلى اللاذقية في سوريا، حيث تمتلك روسيا قاعدة جوية. جدير بالذكر أن السودان يعد من أهم الدول المنتجة للذهب في القارة، ويصنف الثالث عشر عالمياً.

في الوقت الذي تستغل فيه روسيا الفراغ الدستوري، الذي من شأنه أن يضبط ويراقب حركة وعمل مؤسسات الدولة، وتستغل هشاشة الحكم في بعض الدول الأفريقية، تمد يدها في هذا المنحى للسيطرة على قطاع التعدين في تلك الدول عبر شركات تخضع لها. فقد أظهرت دراسة أجراها الاتحاد الأوربي مؤخراً، كشفت أن روسيا قد أمنت قدرة الوصول لمناجم الذهب والماس في أفريقيا الوسطى، والكوبالت في الكنغو، والذهب والبترول في السودان، والكروم في مدغشقر، والبلاتينيوم والماس في زيمبابوي، واليورانيوم في ناميبيا.

ليس الذهب فحسب!

في إطار سعيها لتوسيع نفوذها، وبناء تحالفات استراتيجية ضد حلف أمريكا ودول الغرب، تسعى موسكو حثيثاً لإيجاد موطئ قدم لها في القارة الأفريقية. وقد أثمرت جهودها في هذا المنحى بالفعل، إذ إنها نجحت في كسب ميل بعض الدول الغربأفريقية، خاصةً مالي والنيجر، التي لديها ارتباطات عسكرية واقتصادية كبيرة، خاصةً في مجال التعدين. لا يقف السودان بمعزل عن المساعي الروسية وحرب الأقطاب الدائرة حالياً. وبالرجوع إلى تصريحات مسؤولين سودانيين وروسيين، يلوح في الأفق وشيكاً عقد اتفاق تعاون بين الجانبين، يتركز على نحو كبير على التعاون العسكري والأمني. لقد أبدت موسكو اهتماماً بإنشاء قاعدة بحرية على سواحل البحر الأحمر، وبالفعل رست مؤخراً السفينة الروسية الحربية المعروفة بـ “أدميرال غريغوروفيتش” على شاطئ البحر الأحمر، وشرعت في إنزال المعدات لإقامة منشأة عسكرية في قاعدة “فلامنغو” البحرية؛ إلا أن الحكومة السودانية أبلغت الروس بأنها علقت الاتفاق إلى حين تكوين حكومة مدنية وبرلمان ليجيزها. جاءت هذه الخطوة بناءً على اتفاق كان قد شرع فيه الرئيس السابق عمر البشير مع نظيره الروسي بوتين في مؤتمر سوتشي في موسكو عام 2017. أحيت الحرب الدائرة في السودان حالياً ذلك الاتفاق، إذ أن القوات المسلحة في حاجة ماسة إلى الدعم العسكري الروسي، الذي وافقت عليه روسيا مقابل إنشاء قاعدة تموين وصيانة للبحرية الروسية على ساحل البحر الأحمر.

نصت الاتفاقية على جملة بنود، من بينها، ألا يمنح السودان أي قوة أو دولة أخرى مركزاً مماثلاً على البحر الأحمر، وألا تكون للسودان أية سلطة قانونية داخل منطقة القاعدة، إضافة إلى أن القاعدة من شأنها تقديم الخدمات لسفن ذات طبيعة نووية، ونصب هوائيات وأجهزة تنصت، بطاقةٍ استيعابية لـ300 فرد (عسكري ومدني) وأربعة سفن روسية حربية، مع العلم بأن مدة الاتفاقية ستكون 25 عاماً قابلة للتجديد التلقائي إلى عشر سنوات إضافية؛ في حال لم يمتنع أحد الطرفين. ويحق لروسيا أيضاً أن تنقل عبر البحر الأحمر والمطارات السودانية أسلحة وذخائر ومعدات لتشغيل تلك القاعدة. مقابل ذلك، سيتحصل السودان على الدعم العسكري والأمني، فقد صرح ياسر العطا: “لدينا بالفعل تعاون مع أوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة ضمن دول أخرى، ونتعاون معهم من أجل المصالح”، مضيفاً أن القوة اليوم تكمن في القدرة الاقتصادية والمالية، أما القيم والأخلاق فما هي إلا سلع؛ لذا يرى حسب تصريحه أنهم عازمون على اتخاذ خطوة ضرورية لتحقيق أهدافهم العسكرية والاقتصادية.

ربما يوقع الطرفان على الاتفاقية، بقيادة البرهان ممثلاً عن الجانب السوداني، حسب ما أكد العطا. لكن ما هي مآلات اتفاق كهذا؟ تثير التحركات الروسية في أفريقيا حفيظة الغرب، وأمريكا خاصةً، إذ أنها لن تسمح بتمدد روسيا في القارة البكر، ولن تقبل بأن يقع السودان، بموقعه المميز استراتيجياً، وعلى نحو خاص، موقع البحر الأحمر، تحت مظلة الحلف الأفريقي الروسي. كما أن السودان ليس لديه القدرة على اتخاذ قرار حيال أي من الطرفين أصلح له، خاصةً إذا ما وضعنا في الاعتبار المحاولات المفترضة من أمريكا والغرب حول إنهاء الصراع وإيقاف الحرب في السودان، والتي سيترتب عليها دعم خاص بتوصيل المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار البلاد.

وفي الوقت ذاته، تسعى روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع دول أفريقيا، وطبع صورة أنها دولة حليفة وليس لديها ماضٍ استعماري في أفريقيا. ولكسب وُد السودان، قد تلجأ روسيا للدبلوماسية الناعمة من خلال مواصلة دعمها للجيش، وهي أكبر مصدر للسلاح السوداني، أو عكس ذلك، قد تُوقف دعمها له، في حال لم يتخذ السودان قراراً حيال تنفيذ الاتفاقية. بالمقابل، لن تقف أمريكا والغرب مكتوفي الأيدي، ومن باب الزعم بأن مدّ روسيا للسودان بالسلاح قد يزعزع استقرار المنطقة والإقليم، ستدين أمريكا والغرب ذلك التعاون، وقد يضطرهما لفرض عقوبات على الطرفين، والسودان في هذه الحال (لا تسرّ عدواً ولا حبيباً)، سيكون بين المطرقة والسندان، في حال وقّع على الاتفاقية أم لم يوقع. يأتي ذلك مقروناً بتزايد الضغط الدبلوماسي عبر الأمم المتحدة التي تحدث مسؤولون فيها عن تدخل روسيا في السودان في مجال التعدين. أما وأن أمريكا ما فتئت تلوّح بكروت ضغط فرض العقوبات الاقتصادية، فإن إصرار قادة الجيش سيضطرها إلى اتخاذ خطوة فرض عقوبات على أفراد ومؤسسات لها علاقة بالمؤسسة العسكرية؛ بهدف إضعاف التحالف ولجم روسيا بالتالي من التمدد في أفريقيا. عقوبات قد تمتد لتشمل التحويلات المالية الدولية، ما يعني عدم قدرة الجيش على شراء مزيد من الأسلحة، ومعلوم أن خزانة بنك السودان المركزي قد فرغت من العملة الصعبة حين فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على منظومة الصناعات الدفاعية التابعة للجيش.

ونظراً لأهمية الموقع الجيوسياسي للبحر الأحمر، فإنه من المتوقع أيضاً أن تُعزز أمريكا وحلفاؤها وجودهم العسكري في دول الجوار أو أن تدعم مقدراتها العسكرية البحرية القائمة أصلاً في الإقليم، بهدف خلق توازن ضد التأثير الروسي وحماية ممرات السفن الدولية. وقد يتبادر للذهن لأول وهلة أن الاتفاقية مجرد صفقة تبادل منافع، لكنها من جانب آخر ليست كذلك فحسب. إن تمكن روسيا من الحصول على قاعدة عسكرية قد يعزز من تأثيرها في إقليم يعتبر حيوياً ومُهمَّاً لحركة الطاقة والتجارة البحرية العالمية، الأمر الذي لن تقبل به أمريكا. أضف إلى ذلك، أن حصول الجيش على السلاح الروسي يعني تطاول أمد الحرب وتدمير البلاد أكثر مما هي عليه؛ كما أن قوات الدعم السريع بدورها لن تتحلى بالصمت تجاه ما يمكن أن يجري، وستحاول أن تتحصل على دعم عسكري مماثل من حلفائها في الإقليم والعالم.

على وجه العموم، يمكننا أن نخلص إلى أنه مهما كانت نتائج هذا الاتفاق، فإن الخاسر الأكبر هو الشعب السوداني والسودان، بسبب ما يمكن أن نطلق عليه “لعنة الموقع المميز والموارد الضخمة”، التي لن تقبل القوى الدولية، خاصةً (أمريكا، وروسيا، والصين) بالتفريط فيها عفو الخاطر. ففي الوقت الذي تملأ فيه الحيرة عقولنا، نقف ترقباً في ما الذي سيفعله “المجانين الجدد” في السودان!

Scroll to Top