أتر

بورتسودان: امتحان التكيف 

بعد مرور عام وأشهر على اندلاع الحرب، تشهد البلاد أوضاعاً اقتصادية كارثية يقع ضحيتها سودانيات وسودانيون، يعملون بلا هوادة، لتأمين معاشهم، وابتغاء حياة كريمة، يؤلفونها بابتداع طرق متباينة، تختلف باختلاف الأولويات والأوضاع البيئية والثقافية والاقتصادية، للتكيف مع الأزمة الاقتصادية الحالية. قبل اندلاع حرب 15 أبريل كانت البلاد تعاني سلفاً من مشكلات هيكلية في قطاعات الخدمات؛ وبسبب الحرب الحالية تشهد تلك القطاعات تدميراً ممنهجاً. في مدينة بورتسودان التي باتت عاصمة إدارية بعد اندلاع الحرب في الخرطوم وتوسعها إلى ولايات أخرى؛ تكمن مفارقة التكيف في ابتداع الأسر سياسة تقشفية، تُقلل أوجه صرف أساسية في الغذاء والصحة والتعليم، من أجل البقاء، فما الذي تبقى لهم؟ وما الذي تعنيه الحياة دون ذلك؟!

نوتة

وفقاً لشهادة الخبير الاقتصادي حسام الدين إسماعيل، فقد لحقت أضرارٌ جسيمة بالقطاع الخدمي الذي كان يمثل 53% من الناتج القومي الإجمالي. وبالنسبة للقطاع الزراعي، فقد السودان حوالي 70% من الأراضي الزراعية، وتراجعت زراعة القمح بنسبة 50%، و70% في الأراضي المزروعة بمحاصيل الدخن والسمسم. وفي ما يخص التضخّم تضاعف سعر الصرف حوالي أربع مرات منذ بداية الحرب وحتى الآن، إذ هبط سعر الجنيه أمام الدولار الواحد من 570 جنيهاً إلى ما يقارب 2000 جنيه. ويظهر أثر التضخم في أسعار السلع والمواصلات، وفي حال عدم ظهورها في الأسعار تظهر في حجم المنتج وجودته

فقر حضري في العاصمة الإدارية

نتيجة للتهاوي الاقتصادي، تشهد مدينة بورتسودان ارتفاعاً بالغاً في أسعار السلع الأساسية، وتردّياً ملحوظاً في الأوضاع الصحية، وانقطاعاً مستمراً للتيار الكهربائي. وفي مقابل ذلك، يشهد سوق بورتسودان الكبير ازدحاماً كبيراً، وزيادة ملحوظة في عدد الباعة، بحثاً عن مصادر دخل جديدة؛ فضلاً عن إحكام القبضة الأمنية؛ حيث يُغلَقُ السوق كلياً يوم السبت من كل أسبوع، وتتوقف جميع النشاطات، وتُمنع الحركة. وحسب المتداول في أحاديث المدينة، فإن الغرض من الإغلاق يتمثل في «تنظيف السوق». ويصادف المتجول في سوق بورتسودان عدداً كبيراً من النساء والرجال والأطفال من مختلف الأعمار يطلبون المساعدة المالية لكفالة أسرهم ودفع فواتير العلاج وغيرها من الاحتياجات. وبات التسول أحد مظاهر الفقر الحضري الشائعة، المنتشرة في العاصمة الإدارية الجديدة. 

في غمار الأزمات الاقتصادية، ومع غياب أجهزة الدولة وسياسات الحماية الاجتماعية، تعمل الأسر على ابتكار وسائل للتكيّف والنجاة، تختلف بحسب أوضاع الأسر الاقتصادية ومصادر دخلها. 

تقليل الغذاء

أوكير الذي يُقيم في مدينة بورتسودان، ويعمل في فرن الثورة مربع 15، يشكو من صعوبة الأوضاع وغلاء الأسعار، مما انعكس مباشرةً على النظام الغذائي في المنزل، فقد ارتفع سعر قطعة الخبز من 75 جنيهاً إلى 125 جنيهاً، مما دفع أسرته لاستهلاك خبز أقل من ذي قبل. يقول أوكير متحدثاً لـ «أتَـر»: «نستهلك نصف كمية الخبز التي كنا نستهلكها من قبل». ويضطرون أحياناً لتقليل عدد الوجبات وإطالة الزمن بين كل وجبة وأخرى، فـ «إذا تعشيت لا بد من تأخير الفطور إلى الظهيرة، ولا بد أن تُلغي إحدى الوجبات وتكتفي بأقل القليل في الوجبات المتاحة». 

 تتبع حاجّة بتول، بائعة الشاي بالقرب من كلية الشرق، أسلوباً مختلفاً للتكيف في ما يخص الغذاء، إذ اضطرت أسرتها، بسبب ارتفاع الأسعار، إلى إلغاء بعض السلع ذات السعر المرتفع، مثل اللحوم التي ارتفع سعرها من 7 آلاف جنيه للكيلو إلى 14 ألف جنيه.  

نوتة

يصف الخبير الاقتصادي حسام الدين التكيف بأنه «محاولة لزيادة الإيرادات وإجبار على تقليل المنصرفات،  ويبدو أثره جلياً في جودة الحياة والطعام، إذ يلوذ الناس هذه الأيام، بالعدس والكسرة و«أم رِقَيْقة» والطعمية وأنواع أخرى رديئة من الطعام»، ويواصل: «مع أنهم، بالطبع، لم يكونوا مِن قَبل يأكلون على نحو جيد، إلا أن الوضع مقارنة بما قبل الحرب، يُشير إلى انخفاض في مقدار الطعام وجودته. ووفقاً لتصنيف منظمة الأغذية والزراعة العالمية للغذاء وماهيته، فهناك غذاء خشن، ينتشر في مناطق الحروب، ومثال ذلك أم رقيقة المكونة من  الماء مع قليل من الويكة، طعام بلا لحوم ولا خضروات أو فواكه، ولا سبيل إلى بروتين جيد في أيٍّ من أشكاله». 

تقليل الإنفاق على الصحة والتعليم

ارتفعت أسعار الأدوية ارتفاعاً حاداً في المدينة، وكذا أسعار تذاكر المقابلات الطبية؛ ففي مستوصف «أنصار السنة» بحي الثورة مربع 15، مثلاً، ارتفعت تذكرة الطبيب العمومي من ألفَي جنيه إلى خمسة آلاف جنيه، وارتفعت أسعار المحاليل الوريدية، التي تعد من الأدوية المنقذة للحياة بسبب انتشار الحُميات في المدينة. تقف جميع تلك الزيادات وغيرها حاجزاً أمام الأسر منخفضة الدخل وتحد من فرص حصولها على الخدمات الصحية. يقول أوكير: «ارتفع سعر الأدوية للغاية، ولا نذهب للطبيب إلا مضطرين تحت ضغط مرض خطير، أما إن كان الشخص مريضاً بالملاريا أو الالتهابات فنتخلى مُجبَرين عن الذهاب إلى الأطباء، ومن الممكن أن تذهب بمريضك إلى المستشفى وتعود به من دون علاج». 

فتحت المدارس أبوابها في شهر فبراير الماضي، وسط تردد أولياء الأمور حول إرسال أطفالهم إلى المدارس. السبب الرئيس خلف ترددهم، خوفهم من عدم استقرار العام الدراسي وعدم ثقتهم في قرار الحكومة بإكمال العام الدراسي في الظروف التي تشهدها البلاد عامة، وتشهدها المدارس على وجه الخصوص. بعد صدور القرار فوجئ الأهالي بالرسوم الدراسية الباهظة المفروضة عليهم، سواءٌ أكان ذلك في المدارس الحكومية أم الخاصة، إضافة إلى الاحتياجات الأخرى، كالزي المدرسي والكتب والمصاريف اليومية. عرقلت تلك المنصرفات دخول كثيرٍ من أطفال الأسر ذات الدخل المنخفض إلى المدارس. يقول أوكير وهو أبٌ لطفلين عبد الرحمن البالغ من العمر 7 سنوات وعثمان البالغ 3 سنوات: «لم أرسل ابنَيّ إلى المدرسة، وبإمكانك أن ترى بوضوح كيف ارتفعت أسعار الملابس والكراسات، فهل أطعمهما أم أدخلهما المدارس؟!».  

وشأنهم شأن عبد الرحمن وعثمان، لم يتمكن كثيرٌ من الأطفال والطفلات من الالتحاق بالمدرسة، هذا العام؛ وانعكس الأمر على مظهر شوارع المدينة التي تعج بالأطفال والطفلات ممن يعملون باعةً جائلين، ومنهم من يتسولون، بالتزامن مع ساعات الدوام المدرسي. 

بيع الممتلكات وصرف المدخرات

تأثرت مصادر دخل أغلبية النازحات والنازحين على نحو مباشر جراء الحرب. وبطبيعة الحال تتبع الأسر النازحة أساليب التكيّف السابقة الذكر، لكنها إضافة إلى ذلك تواجه تحدياً آخرَ يتمثل في غلاء ومحدودية المساكن المستأجرة. استجابة لذلك التحدي باعت كثيرٌ من الأسر ممتلكاتها وصرفت مدخراتها في سبيل التكيف مع الأزمة وتأمين السكن.   

تُنفق الأسر النازحة متوسطة الدخل قدراً كبيراً من دخلها على السكن، فالإيجار الشهري يترواح بين 950 ألفاً وثلاثة مليارات جنيه سوداني. ونتيجة لذلك يشكل عبء الإيجار جزءاً كبيراً من ميزانية الأسر النازحة متوسطة ومرتفعة الدخل. أما بالنسبة للأسر منخفضة الدخل، من التي لا طاقة لها بدفع الإيجار، فإنها تلجأ للأقارب إن وُجِدوا، أو إلى مراكز الإيواء التي يواجه فيها النازحون مشكلات عدة. 

وقد ابتكرت كثيرٌ من الأسر أعمالاً لزيادة الدخل بوصف ذاك أسلوباً للتكيّفقد تكون إضافية في بعض الأحيان أو أساسية. وراجت بين النساء النازحات صناعة الآيسكريم المُحلى وبيعه لأطفال الحي، وبيع المقرمشات وغيرها، وأخريات يعملن في بيع العطور والمأكولات. ونتيجة لغياب عدد من المصانع في البلاد جراء التدمير الذي شهده القطاع، لجأت كثيرٌ من الأسر إلى تصنيع بعض المنتجات منزلياً وبيعها لزيادة دخلها، وأبرزها منتجات الألبان. أحد الأشكال الشائعة مؤخراً لتعظيم الدخل، عمل جميع أفراد الأسرة القادرين على العمل، وقد يصل الأمر أحياناً، إلى عمل الأطفال أيضاً.     

لكن رغم ذلك كله، وفي صميم الضائقة الحالية، التي يمكن أن ينتج عنها اتجاه عام نحو الخلاص الفردي، تعتمد كثيرٌ من الأسر في دخلها على مساعدات أقاربهم وأصدقائهم خاصة القاطنين، في دول المهجر خارج السودان؛ وتتجلى في المدينة أشكال الكرم والتضامن بين أهل المدينة والنازحين، إذ يقدم فاعلون خيرون باستمرار، مساعدات مختلفة إلى مراكز الإيواء، التي باتت وجهة أساسية بالنسبة إلى الأهالي لتوزيع الكرامات والصدقات للمساعدة وسد الحاجات. ففي الأوضاع بالغة التعقيد التي تمر بها البلاد أضحى التضامن الاجتماعي إحدى الآليات الاستمرار والنجاة، وبات من الضروري إعلاء فنون التضامن. 

Scroll to Top