مرت ميم برحلة عصيبة مع أسرتها من السودان، تهريباً، إلى مصر بحثاً عن العلاج والأمان. تعرضت الأسرة إلى مخاطر عديدة على يد حرس الحدود المصري، بدءاً من مصادرة الهواتف إلى التهديد بالرصاص والمُعاملة القاسية في معسكرات الاحتجاز. تتكون أسرة ميم من أربعة أطفال، هم أبناء إخوتها، إضافة إلى والدها ووالدتها المريضين.
الأطفال الأربعة، تتراوح أعمارهم بين سنتين و11 عاماً، إضافة إلى والدتها المريضة بالسكري وارتخاء صمام القلب، ووالدها الذي يعاني من الحمى المالطية واضطرابات نفسية.
«كان مرض والديَّ هو الدافع الرئيس للهروب من السودان بحثاً عن العلاج»، تتحدث ميم إلى مراسل «أتَـر».
عانت الأسرة في طريقها من نقص الطعام والماء وسوء المعاملة في معسكرات احتجاز الفارين على حدود السودان ومصر، حيث يتحول الأمل في حياة أفضل إلى كابوس مستمر من المعاناة والحرمان.
مرت ميم بثلاثة معسكرات داخل مصر، وحاولت توثيق ما جرى معها وأسرتها في المعسكر الأول عن طريق الهاتف، لكنها تخلت عن ذلك بعد أن ضُبطت إحدى النساء السودانيات وهي تصور الأحداث داخل المعسكر، فصُودرت جميع الهواتف واتخذت إجراءات تعسفية، من بينها البحث في الأغراض الشخصية ومسح الصور من الهواتف ومصادرتها.
من عطبرة إلى الكسّارات
في عطبرة، نقطة انطلاق الأسرة إلى دروب اليأس، عرض عليهم سائق سوداني تكلفة للرحلة تبلغ 300,000 جنيه سوداني للراكب في مقدمة السيارة و250,000 جنيه سوداني للراكب في المؤخرة، لكنها قرَّرَت الانتظار حتى ما بعد عيد الأضحى لتنخفض الأسعار إلى 250,000 و170,000 جنيه سوداني على التوالي، خاصة أن جميع ما يدخرونه يشمل مصاريف الرحلة والسكن بعد الوصول.
بدأت الرحلة، واتجهت العربة إلى منطقة الكسارات، بالقرب من أسوان، حيث تعرضت لإطلاق نار من قبل الجيش المصري، مما أثار الرعب في قلوب الركاب. لحظات مرعبة، عاشتها ميم، وهي تحس بالرصاصة تمر بالقرب من أذنها. كانت تركب فوق جالون الوقود الذي انفتح أثناء المطاردة، مما جعلها تخشى انفجار السيارة. وأثناء ذلك شاهدت ميم سيارة أخرى تقل أسرة، أصاب الجيش المصري إطاراتها بالرصاص، فحاول سائقها الهرب بالإطار الداخلي الحديدي. لم تعرف ميم ما حدث لتلك السيارة، لكن سائق العربة التي يستقلونها نجح في الهرب، وقال إنهم يهربون من إحراق عرباتهم ومواجهة السجن لمدة 15 عاماً.
قضت ميم وأسرتها المرهقة الليلة في الخلاء، وكانوا محظوظين بأن سائقهم لم يُضِعْ طريقَه. تحركوا في الصباح التالي ووصلوا مرة أخرى إلى الكسارات، حيث كان من المفترض أن يلتقوا بابن خال السائق، ليواصل الرحلة، لكنه لم يأت. بدلاً من ذلك، ظهر سائق ميكروباص مصري عرض عليهم الركاب إيصالهم إلى أسوان، فوافقوا على مضض بسبب الإرهاق.
تقول ميم: «تظاهر السائق المصري بأنه ضل طريقه حتى سلّمنا لأقرب معسكر للجيش المصري».
معسكر تلو الآخر
في معسكر حرس الحدود الأول، بدأت معاناة أخرى، حيث حُبسوا داخل عربة ذات نوافذ مفتوحة قليلاً. ووُزعت لهم مياه وقطع بسكويت، وبعدها سُلموا إلى كتيبة أخرى بنفس الميكروباص بصحبة ضابط آخر. وفي حدود الرابعة مساءً، وصلوا إلى المعسكر الثاني وجرى استقبالهم في فناء المعسكر حيث أعلمهم الضابط بأن المسجد هو المكان الوحيد المتاح للنوم، ومع ذلك فهو ممتلئ بالحشرات السامة. قضوا ساعتين يتعرضون لهجمات الناموس، ثم نُقلوا في عربة كبيرة لنقل البهائم.
دون تقديم وجبة الإفطار، نُقِلُوا منتصف نهار اليوم التالي، إلى معسكر آخر وجدوا فيه بائعاً يقدم سندوتشات ووجبات خفيفة بأسعار باهظة مقارنة بوضعهم المالي، واضطروا مع بكاء الأطفال الجائعين، إلى شراء الطعام والماء بمبالغ كبيرة. ويباع السندوتش داخل المعسكر بـ 15 جنيهاً مصرياً وكيس الشيبس بـ 6 جنيهات مصرية، بينما يبلغ سعر زجاجة الماء الصغيرة 15 جنيهاً مصرياً. كانت الوجبة اليومية عبارة عن قطعة جبن صغيرة ورغيف مصري واحد.
تقول ميم: «بدا الضباط وكأنهم يتلذذون بمعاناة الأسر السودانية، ويبدو أن بعضهم يتأثرون بحملات السوشيال ميديا المعادية للاجئين السودانيين»، وتروي أن أحد الضباط منع والدها من الصلاة بعد نصف ساعة من الأذان، ومنعه من دخول الحمام، مما زاد من تدهور حالته النفسية. تدخلت والدتها لتتحدث مع الضابط، لكن أغمي عليها بسبب انخفاض سكر الدم وإصابتها بذبحة صدرية، نُقلت على إثرها إلى مستشفى في أسوان.
«الأبواب تظل مفتوحة، والضباط يدخلون صالة الاحتجاز دون سابق إنذار، ولا يوجد ماء كافٍ للاستحمام»، تقول ميم، لكن بعد احتجاج الأسر، حُسنت آخر وجبة عشاء في الكتيبة 44 دبابات. بعد قضاء 18 يوماً في المعسكرات المصرية، نُقلوا أخيراً إلى أبو سمبل، حيث طُلب منهم دفع 200 جنيه مصري للفرد الواحد، مما اضطر ميم إلى دفع 1200 جنيه مصري، عن جميع أفراد أسرتها، أي ما يعادل 48 ألف جنيه سوداني، ليجري ترحيلها مع أسرتها إلى السودان.
تؤكد ميم أن أعداد المحتجزين كبيرة جداً، ولا يوجد إشراف مباشر عليهم، مما يترك الأسر تحت رحمة الضباط. وصلت ميم وأسرتها إلى حلفا، لكنها ما تزال تتساءل عن أحوال الطريق وتأمل في العبور.
إهمال رسمي
لم تواجه أم أحمد المعاناة ذاتها، لكنها اضطرت لدفع رشاوى للجيش السوداني مقابل مرور عربتهم إلى أسوان. أما ابنة خالتها، فقد تعرضت لحادث مروري مروع، أثناء رحلة التهريب، أدى إلى إصابات بليغة تستدعي أكثر من أربع عمليات جراحية، ويعاني ابنها أيضاً من كسر في يده، واحتجزا في غرفة ضيقة في العناية المركزة، بأسوان.
ولإجلاء المصابين، لجأت أخت المصابة، وقد سبقتها إلى القاهرة، إلى مفوضية شؤون اللاجئين في القاهرة، ثم إلى السفارة السودانية، لكن دون جدوى. لم تستطع المفوضية القومية تقديم أي دور للحماية يذكر؛ وفي المقابل، قدمت موعداً بعيداً لإتمام إجراءات التسجيل. وأخبرت إحدى قريبات أسرة المصابة «أتر»، أن السفارة السودانية ممثلة في السفير ونائبه، لم تولِ القضية أيَّ نوع من الاهتمام رغم الطلبات المتكررة. وما زالت الأسرة تحاول غارقة في هذه القضية، متفرغة بالكامل للمحاولات التي تخرج أفرادها المحتجزين من هذه الورطة.