أتر

في مروي: يُغيّرْن وجه المدينة ورائحتها

يُعد قطاع الخدمات من أهم القطاعات التي تمثل مصدر دخل لعدد من الأسر خصوصاً في ولاية الخرطوم. ومع اندلاع الحرب في الخرطوم وتمدّدها إلى ولايات آمنة، لم تجد بعض الأسر خياراً سوى الفرار مرة فأخرى إلى مدن لم تتوقع وجودها فيها يوماً. في هذه الملاذات الجديدة، لجأ كثيرٌ من الناس، بمختلف فئاتهم الاجتماعية، إلى مزاولة المهن الخدمية التي عملت على إعادة تشكيل المدينة وإعادة إنتاج فضائها الاجتماعي. يَصدق هذا بلا ريب على ستّات الشاي في مدينة مروي.  

نوتة

بدا خيار عمل النساء في صناعة الشاي وبيعه، مخرجاً لكثير من النساء السودانيات في التغلب على مصاعب الحياة، وشح خيارات العمل. أغلبهن دفعت بهن الحروب والكوارث الطبيعية للانتقال من الريف إلى المدن، ليشكلن جزءاً لا ينفصل عن فضاء المدينة السودانية وشوارعها، وملتقى حراً لمختلف فئات المجتمع، خاصة في العاصمة الخرطوم؛ التي كانت مقصداً لمن تأثرت حيواتهم في الريف، سواءٌ أكان ذلك بسبب اندلاع الحروب أو ما اعترى بعض أقاليم السودان من الجفاف والتصحر بداية ومنتصف الثمانينيات، ما جعل من بيع النساء الشاي مهنة هامشية سيطرت على مظهر الشوارع في قلب المدينة وأطرافها أيضاً. 

في مناخ يتسم بنوع من المحافظة، يكمن داخلها نوع من التوتر، حيث تكون الأعراف معطىً مسبقاً في المكان ولا يجوز أن يُكسر؛ تتداخل هذه العناصر الجديدة مع ما هو مستقر، وتنتج ملامح جديدة في اللغة والحركة وغيرهما. في بؤرة ذلك التجاذب، ظهرت قصص هؤلاء النساء وهنّ – كالنخل في صحراء بيوضة – يعملن على تحسين المزاج ليس للمارة فقط وإنما «للمناخ» أيضاً. 

«قررنا الخروج بسرعة. لم يكن في مقدورنا أن نحمل أي شيء، وأساساً لم يكن لدينا شيء لنحمله معنا»، تروي ثريا قصتها لمراسل «أتَـر» بابتسامة ساخرة، وكيف قدِمت إلى مدينة مروي في العاشر من أغسطس 2023م، بينما يتطاير من حولها شرر الكانون الذي أوقدته من بقايا كرتون البقالة المجاورة لها.  

«ثريا» أمّ لثلاثة أطفال، قادمة من ضاحية داردوق، بشمال الخرطوم بحري، عملت في مهنة الشاي والأطعمة بالسامراب شرق آخر محطة لمدة خمس سنوات، تُخبر «أتَـر» بأنها قد قدمت إلى الخرطوم في الأساس من ضواحي مدينة الأبيض، بعد أن أجبرتها الظروف المعيشية في العام 2019م على الهجرة نحو العاصمة مع زوجها، طلباً لسعة الرزق الذي وجدته بين إطارات السيارات وسائقي الركشات بآخر محطة. 

عند اندلاع المواجهات العسكرية في قلب الخرطوم، لم تكن ثريا تتخيل أن الحرب ستصل إلى آخر محطة أو حتى إلى داردوق، لكن مع مرور الأيام تمدَّد شبح المواجهات العسكرية إلى معسكر حطاب الذي تتمركز فيه قوات الجيش شمال الخرطوم بحري. لاحظت ثريا حينها أن الدعم السريع قد تسلل رويداً رويداً ليجد المواطنون أنفسهم وسط كتائب من الدعم السريع، تتجول في آخر محطة السامراب شرق 

«بعد المعركة الثانية، لم نستطع البقاء وقررنا المغادرة. كانت وجهة أغلب الناس هي مدينة ود مدني، لكن ابنة خالتي نصحتنا بالمجيء إلى مروي، وامتدحت لنا الأوضاع هنا بأنها طيبة، وأن زوجي سيعثر على شغل يوميات بسهولة، وأن شغل الشاي قد بدأ ينتعش» 

لم تكن مروي مقنعة لزوج ثريا الذي أبدى قلقه من المخاطرة بالذهاب إلى مدينةٍ كلُّ علاقته بها كانت رحلتين مُساعداً في باص سياحي من أم درمان إليها، لكنه أقر بحكم طبيعة عمله «يوميات البناء»، بأنها مدينة تشجع على القدوم إليها، خصوصاً وأن الحياة فيها ليست مُكلفة ويسهل العثور فيها على مسكن مُلائم 

يقول أحد التجار في شارع المستشفى – يعد شارع المستشفى من الشوارع الرئيسة في مروي لأن فيه مستشفيين رئيسَيْن – إنّ عدد ستات الشاي في شارع المستشفى لم يكن يتجاوز اثنتين فقط، وتعملان حتى وقت العصر؛ لكن بعد اندلاع الحرب بدأت أعداد الناس تزيد بشدة، خصوصاً مع اكتظاظ المستشفى بالمصابين القادمين من مناطق العمليات، إضافة إلى مرضى المستشفى العام والمرضى النازحين القادمين من الخرطوم.  

ثريا التي سكنت في حي الإنقاذ «الكَمبو»، بنَت عند مجيئها عِشـّـة صغيرة من جريد النخل، وكانت تتشارك الحمّام مع ابنة خالتها المتزوجة. أما الآن فهي أفضل من ذي قبل، إذ بنى زوجها غرفة من الطوب الجالوص وسوّر البيت وحفر حمّاماً بلدياً 

تجد ثريا أن مروي أفضل من الخرطوم من ناحية المعيشة، مع تغيير في نظامهم الغذائي، فالآن بات يخلو من الخبز والفول، وأصبحوا يتناولون القُرّاصة والكِسرة. يحصل زوجها أحياناً على دقيق الإغاثة الذي يمكن أن يكفيهم حوالي ثلاثة أسابيع، مع ذلك تستدرك ثريا قائلة: «لكن لا مكان يضاهي الخرطوم، رغم الكشة ومضايقات المحليات وقسوة الحياة، لكن حالنا كان أفضل».  

وتمضي في عقد المقارنات بين الزبائن وتكاليف العمل في المدينتين، مشيرةً إلى أنّ ثقافة ارتياد المقاهي في مروي ليست منتشرة، وعدد الزبائن قليل جداً مقارنة بالخرطوم، ما يُقلّل من مقدار الربح، «إلا أن تكاليف المياه والفحم هنا رخيصة».  

 ثريا ليست الوحيدة التي اتجهت إلى مروي من أجل لقمة العيش. تقول «صفاء» التي نزحت من مدني بعد دخول الدعم السريع إليها في ديسمبر الماضي: «الحياة في مدني رخية وطيبة. أثناء وجودنا فيها كنا نحسّ بأننا سنعود إلى الخرطوم قريباً. مثل جميع الناس، خرجنا من الخرطوم إيد ورا وإيد قدام، وقد بدأت في عمل اللقيمات والشاي والقهوة في موقف مدني».  

كانت مدني بالنسبة لصفاء محطة جديدة، حيث وفقت أوضاعها مع بعض الجيران والأقارب وبدأت تستعيد قدرتها على العمل بعد التوقف الذي حلّ بعملها مع اندلاع الحرب.  

عند دخول الدعم السريع إلى مدني، قررت صفاء أن تتجه إلى مصر، لكنها لا تمتلك تكاليف التأشيرة التي حصلت بعض صديقاتها عليها من السوق الأسود وبلغت حينها مليوناً وسبعمائة ألف جنيه سوداني؛ المبلغ الذي تقول صفاء إنها لو حصلت عليه فسوف تسافر إلى جوبا، كما فعلت بعض صديقاتها اللائي مررن بها في مدني، وفتحن محلات في جوبا لبيع الملبوسات أو الأطعمة أو فتحن صالونات تجميل. 

نزحت صفاء من مدني يوم 18 ديسمبر عبر سنار، ومن ثم توجهت إلى عطبرة مباشرة هي وأسرتها المكونة من أبنائها الثلاثة وأمها وشقيقها، بينما فضّلت التزام الصمت بشأن الزوج. عندما وصلت إلى عطبرة أصيبت أمها بإعياء حاد أدى إلى تحويلهم إلى مروي لتلقي العلاج في المستشفى الصيني «مشفى الضمان» 

في مروي، وجدت صفاء وأسرتها أنفسهم في العراء، فبدأت في البحث عن معارف سابقين أو أقارب. بعد اتصالات عدة، وجدت بعض أقارب جيرانها في الخرطوم يعيشون في الكمبو، واتجهت إليهم. تقول صفاء: «مثلما يحدث في السودان بأسره، أحسنوا استقبالنا، والحياة في الكمبو ليست غريبة علينا، فهو يشبه المكان الذي عشنا ونشأنا فيه من قبل. وبلا تأخير بدأت أفحص أوضاع السوق، قليل من هنا وقليل من هناك بدأت في شغل الشاي، واكتسبت زبائن بسرعة وتطور العمل شيئاً فشيئاً، وأحوالنا الآن مستقرة وأمورنا طيبة» 

وعلى الرغم من أن مروي مدينة صغيرة ولا توجد بها حركة واسعة، إلا أنّ المعيشة فيها أيضاً ممكنة، كما تقول صفاء، وأهلها يمتازون بالبساطة وحياتهم غير معقدة، وهناك حرية في العمل ولا توجد مضايقات. أما ود مدني فقد كانت مدينة جيدة بالنسبة لصفاء من ناحية العمل والقدرة على أداء أعمال عدة، إذ يمكنها بجانب الشاي صنع الطعام البلدي، أما في مروي فإنها تقول إن تكلفة إعداده في السوق مرتفعة.  

وعن حال الخدمات في مروي، تقول صفاء إن الكهرباء مستقرة والماء وافر وفي متناول اليد، لذلك تعتبرها مدينة جيدة مقارنة بود مدني التي كانوا يعانون فيها من الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، وارتفاع أسعار المياه، بجانب عدم قدرتها هناك على تلبية احتياجات السكن وارتفاع أسعار الإيجارات بالمدينة. في مروي، تقول صفاء إن دخلها أقل لكن منصرفاتها أقل أيضاً، مع ذلك فإن ارتفاع تكاليف العلاج لوالدتها يؤثر عليها.  

يفضّل شقيق صفاء أن يهاجروا إلى مصر، لكنها تخشى المجهول، خصوصاً بعد أخبار الحوادث التي أصابت الذين عبروا الحدود بالتهريب، والمصاعب التي واجهها الناس بعد ترحيلهم عائدين إلى السودان، لذا فضلت من جانبها أن تستغل بقاءها في مروي لتطوير عملها وأنشطتها 

وتخشى صفاء أن تعيد ذاكرة مدني من جديد، إذا استهدفت قوات الدعم السريع مدينة مروي. تقول: «الدعّامة لو جوا إلا نقع البحر تاني».  

صفاء التي تحاول أن تعمل لعلاج والدتها تفكر في إدخال أطفالها إلى المدارس، خاصةً أنها لا ترى أي أمل في العودة الخرطوم، وقد طالت سلسلة النزوح المستمر وأفقدت أبناءها سنة دراسية كاملة. تقول إن مدارس أبنائها قد طلبت حوالي 15 ألف جنيه في العام الدراسي، وعندما استفسرت عن تلك المطالبة المالية، أخبرتها مديرة المدرسة بأنها تُدفع إلى الأساتذة النازحين الذين يتولون تدريس الطلاب، وجزء منها منصرفات دراسية كالطباشير، وغيره من الاحتياجات التي تعمل المدرسة على تصريفها.  

في السابق، كان المكان الذي بدأت منه صفاء عملها في مروي موقف سيارات، ليس به سوى مطعم صغير يقدم طلبات الفول ويُعِدُّ الشاي للسائقين؛ لكن مع مجيء صفاء اكتسب المكان بعداً جديداً، فقد ترك الجميع شرب الشاي داخل المطعم وتشكّلت جلسات صغيرة حول موقدها، تُعقد فيها المساومات، وتُحل المشكلات، وتتدخل صفاء لتفصل وتفاضل بين السائقين، بل وتحولت إلى مَعلم مهم للمارة أيضاً، فأصبحت مواصلات نوري تِحِت وكريمة تُعرف من خلالها. 

داخل سوق مروي تعمل بائعة شاي قديمة ظلت تزاول مهنتها في مكانها المعلوم أكثر من خمس سنوات، يعرفها الجميع ويتعاملون معها، بصفتها معلماً بارزاً في السوق. تقول عوضية إن مهنة «ستات الشاي» لم تكن منتشرة في مروي قبل الحرب، وذلك لطبيعة الأنشطة الاقتصادية التي يمكن أن تقوم بها النساء، إضافة إلى طبيعة السوق المركزي نفسه، فلا يمكن أن تبذل سيدة مجهوداً كبيراً جداً في العمل ببيع الشاي والقهوة في بيئة مثل بيئة مروي أو أي سوق آخر ضمن نطاق محلية مروي عامة، حيث لا يبقى الناس في السوق لساعات طويلة، كما أن عدد الناس القليل يجعل من بيع الشاي مهنة غير رائجة. هذا فضلاً عن طبيعة رؤية الناس لمسألة بيع الشاي، فهو منتشر على نحو واسع بشتى الطرق غير التجارية، ولا يمكن أن يأخذ شخص شاياً ليبيعه في السوق.  

أما بعد الحرب، فقد شهدت عوضية تغيّراً كبيراً في هذا الجانب، فهناك انتشار واسع لشتات الشاي خصوصاً في المناطق المحيطة بمشفى الضمان، إضافة إلى شارع المستشفى العسكري. ونتيجة لتوسع السوق، فهناك عدد من ستات الشاي في السوق الفوق، ففي الميناء البري وحده زاد عدد ستات الشاي من ثلاث إلى خمس عشرة، وجميعهن قادمات من الخرطوم 

المكان العدد قبل الحرب العدد بعد الحرب
شارع المستشفى 3 21
السوق التحت 4 34
السوق الفوق 9 19
شارع الدكاترة 13 45
المستشفى الصيني 2 13

حتى الآن لم تواجه ستات الشاي أي مضايقات من المحلية أو من الوحدة الإدارية المسؤولة عن السوق، سوى حالة واحدة فقط، إذ عمدت إدارة المستشفى العسكري إلى إبعاد ستات الشاي عن محيط المشفى، وبررت ذلك، حسب قولها، بأن هنالك صعوبة في حركة سير الإسعاف ودخوله إلى المشفى، بجانب تكدس المواطنين في محيطه، مما يضايق المرضى.  

ووفقاً لتصريح أحد المسؤولين، فضّل حجب اسمه، فإن محلية مروي لم تحدد بعد صيغة التعامل مع ستات الشاي، ولم ترَ ضرورةً في التعامل معهن ما دام هناك حفظ للضوابط المتعلقة بالنظام والحركة، ويواصل قائلاً:ما تقوم به الجهات الأمنية المختصة ما هو إلا إجراءات أمنية تستهدف الأشخاص الذين لا توجد لديهم أي أوراق ثبوتية ولا تستهدف فئات معينة“.  

وحول مستقبل ستات الشاي وزيادة أعدادهن في المدينة، يضيف المسؤول قائلاً: “متى رأت المحلية ضرورة إعمال النظام، فستعمل على إصدار التوجيهات اللازمة والمُلزمة والتي لا تهضم حقوق الناس“.  

هكذا، تسللن خلسة من الحرب، هكذا من غير أي مقدمات أو إذن، توترن مع المدينة قبل أن يعرفنها، لكن بمزاج الشاي الثقيل الذي يشتهر به أهل المنطقة وما حولها، أعدن تكييف الطرقات والمواقف بحنكة عالية. وفي لحظة ما، يتداخل حضورهن خِفْيةً مع روح المكان فتشم رائحة الطين الذي يَنتج من رشهن الأرض بالماء في مواقع عملهن ورائحة البخور العَطِر أيضاً. تخيل أن هناك 50 مبخراً يرسل أنسام الصندل واللبان في مدينة مثل مروي بدلاً عن الغبار الذي يعفر الجلاليب البيضاء. 

Scroll to Top