في ظروف بالغة التعقيد، خرج الآلاف من أهل السودان، نساءً ورجالاً، وشيباً وشباباً وأطفالاً، نحو جمهورية مصر هرباً من الحرب، وحملوا معهم ما تيسّر من الأموال، ولم تكن لدى الأغلبية منهم رواتب أو مصادر دخل ثابتة، ومن كانت لديهم أموال في المصارف لم يتمكنوا من سحبها، وقد أغلق معظمها مع اندلاع الحرب. دخل الفارّون إلى مصر عبر مطار القاهرة والمعابر البرية وعبر التهريب أيضاً، ومنهم من سكنوا مستأجرين شققاً، ومنهم من نزلوا ضيوفاً عند الأصدقاء والأقارب الذين كانوا يملكون شققاً. وتواجههم جميعاً التحديات النفسية والاقتصادية والاجتماعية ذاتها، حيث يعيشون مع أطفالهم وكبار السن والمرضى.
بعد مرور سنة وثلاثة أشهر، ما زالت الحرب مستمرة، والأمل في العودة إلى السودان يتلاشى. وبينما تتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فإن الأمل الوحيد هو تمديد الإقامة، لكن حتى هذا بدأ يتراجع تدريجياً، فمن دخلوا مصر خلال الأسابيع الأولى، من بدء الحرب حصلوا على إقامة مجانية لمدة ستة أشهر، ومن دخلوا بعد ذلك تدرّجت مدة إقامتهم من أربعة أشهر إلى ثلاثة وإلى شهر واحد.
تحديات تجديد الإقامة
كثافة في عدد السودانيين والسودانيات في مجمع العباسية بمصر لاستكمال إجراءات تجديد الإقامة
حاتم، الموجود حالياً في مصر مع زوجته وطفلهما، وكان مِن قَبل في السعودية، يقول إنه انتقل إلى السودان لإكمال الدراسة الجامعية، وبعدها بدأ حياته العملية، وأسس شركة ناجحة لتنظيم الحفلات والفعاليات الجامعية بالخرطوم. بعد أسبوع واحد من اندلاع الحرب، وصلوا إلى مصر، ولم تكن أوراقهم الثبوتية بحوزتهم، لكنهم أصروا على البقاء والبدء من جديد، فقرّروا تأسيس مشروع للأعمال اليدوية وتنظيم البازارات كوسيلة مؤقتة للعيش.
يخبر حاتم «أتَـر” بأن أولى صعوبات تجديد الإقامة في مصر تكمن في رسومها، إذ ينبغي دفع مبلغ 25 دولاراً عن كل جواز سفر، ومعظم الأسر ليس لديها مصدر دخل ثابت، إنما تعتمد على التحويلات المالية من أقاربهم؛ لكن لتلقّي التحويل المالي عبر ويسترن يونيون، يجب أن يكون لدى المستلم عقد إيجار باسمه وإقامة سارية، أما التحويل عبر تطبيق بنكك، فإنه يُعرّض المستلم للوقوع فريسة لجشع سماسرة التحويل، إذ يتغيّر سعر الصرف يومياً، إضافة إلى المخاطر الأمنية، فالتحويل عبر تطبيق بنكك قد يُعدّ جريمة تُعاقب عليها السلطات المصرية، باعتبارها تجارة عملة، في حال فتّشوا الهاتف ووجدوا فيه كثيراً من إشعارات التحويل، رغم أنه لم يصدر أي إعلان أو ثيقة رسمية بشأن الأمر.
إبراهيم، الذي فقد جميع ممتلكاته في الحرب، يعيش الآن في القاهرة مع زوجته وأطفالهما الخمسة ووالدته. تعرّض منزله ومحلاته في سوق السجّانة للنهب، ويُعاني من صعوبة في تجديد إقامته، إذ يحتاج إلى 240 دولاراً، ويجب تجديدها كلّ شهرين أو ثلاثة أشهر بالمبلغ ذاته.
كذلك يشكل تسجيل أطفاله في المدارس تحدياً، إذ تبلغ رسوم التعليم حوالي 67 ألف جنيه مصري. بحثاً عن حل لهذه المعضلة، قرر إبراهيم التقديم للمفوضية السامية للاجئين، إذ يمكن أن تمنحه إقامة لمدة عام ونصف العام مجاناً، وتُسهم في تغطية مصاريف تعليم أطفاله.
أنواع الإقامات
يُواجه من يرغب في تجديد الإقامة في مصر صعوبات متعدّدة، أحدها هو طلب تقديم عقد إيجار موثق من الشهر العقاري، وأن لا تقل قيمة الإيجار عن ألف جنيه. وغالباً ما يواجه المستأجرون رفضاً من قِبل مُلاك العقارات لتوثيق العقود، خوفاً من الضرائب، لذا يكتب بعضهم عقوداً بمبلغ الإيجار الأدنى، مثل ألف جنيه مصري أو أقل، في حين يكون الإيجار الفعلي أعلى بكثير، مثلاً 15 ألفاً أو 20 ألف جنيه مصري، كأدنى سعر إيجار.
تتنوع أنواع الإقامات في مصر، فهنالك الإقامة السياحية، التي تُمنح للعرب والأجانب القادمين إلى مصر بتأشيرة سياحة صادرة عن السفارة المصرية في الخارج أو منافذ الحدود الجوية أو البرية أو البحرية، وتتراوح مدتها من شهر إلى سنة.
«قبل الذهاب إلى جوازات العباسية، حولتُ مبلغ 25 دولاراً عن كل جواز لي ولزوجتي، في البنك، فالرضيع لا يحتاج إلى إقامة، واستلمنا المبلغ المُعادِل بالجنيه المصري مع إيصال توريد باسم صاحب الجواز؛ وفي اليوم التالي، ذهبنا إلى مكاتب جوازات العباسية في الساعة السادسة صباحاً، واستلمنا رقماً للدخول ونموذجاً ملأناه ببياناتنا، ثم ذهبنا لتوريد المبلغ (760 جنيهاً مصرياً) في نافذة البنك بالطابق الثاني، وسُلمنا إيصال توريد الدولار. بعد ذلك، حانت مرحلة التصوير والبصمة، سَلّمْنا صورتين من كل جواز وصورتين من عقد الإيجار وصورتين من إفادة السكن من السفارة وصورتين من إيصال توريد الدولار، واحتاجت زوجتي أيضاً إلى صورة من قسيمة الزواج لإثبات الصلة. وبعد 40 يوماً، استلمنا إيصالاً لاستلام الإقامة، وتواصلنا مع المسؤول حوالي الساعة الواحدة ظهراً“، يروي أحمد، لمراسل «أتَـر» التفاصيل المعقدة التي يجب أن يتّبعها للحصول على الإقامة في مصر.
نوع آخر من الإقامة، هي الإقامة العقارية، وتُمنح لمن يمتلك عقاراً بمصر بلغت قيمته 100 ألف دولار، أي ما يعادل مليوناً و60 ألف جنيه تقريباً، وتُمنح على أساس هذا العقار إقامة سنوية قابلة للتجديد ما دام العقار مسجّلاً باسم مالكه؛ كما يُمنح السودانيون المقيمون في مصر قبل تاريخ 8 أبريل 1995م، الإقامة الدائمة.
تجديد الإقامة
بعد اندلاع الحرب، قررت أسرة «رزان» الهجرة إلى مصر، وشجعهم على ذلك أنهم يمتلكون شقة منذ العام 2005م، وعندما وصلوا إلى مصر، ختموا الإقامة المجانية لمدة ستة أشهر، وبعد انتهاء الفترة، قرروا الاستفادة من ملكيتهم للعقار والحصول على إقامة عقارية لمدة عام، لكن عندما ذهبت والدة رزان إلى مبنى جوازات العباسية لتجديد الإقامة، اكتشفت أن الإقامة العقارية لم يعد مُعترفاً بها، وأنه يجب عليهم الحصول على إقامة سياحية مثل بقية السودانيين الذين دخلوا بعد الحرب.
بدأت والدة رزان الإجراءات بتحويل الأموال المحلية إلى دولار – يُشترط أن يكون التحويل بنكياً عبر البنك الأهلي المصري أو بنك مصر – ثم جمعت الأوراق المطلوبة (إيصال التحويل البنكي، عقد الإيجار، شهادة الميلاد، الرقم الوطني «إذا كان باسم والدتها»، صورتان من جواز السفر، صورتان من ختم دخول مصر، وخطاب إفادة من السفارة السودانية)، وتوجهت إلى مبنى الجوازات بالعباسية.
حضرت مبكراً، وانتظرت إلى حين توزيع الاستمارات ثم ملأت بياناتها، وانتظرت مرة أخرى لتحصل على إيصال الدفع والرقم المتسلسل، ومن ثم توجهت إلى داخل المبنى في الطابق الثاني ودفعت بموجب إذن الدفع. بعدها توجّهت إلى صف التصوير وبحوزتها جميع الأوراق والمستندات وصورها (مع التأكد من وجود النسخ الأصلية). وبعد التقاط الصورة – آخر الإجراءات – حدّد لها موظف الجوازات موعداً للحضور لاستلام بطاقة الإقامة بعد 50 يوماً.
الإقامة المدرسية
تُسجّل كثيرٌ من الأسر أبناءها بالمدارس المصرية، بغية الحصول على إقامة تمتدّ لسنة دراسية، مع تسهيلات أخرى تتمثل في القدرة على الدخول والخروج من مصر بسهولة أكبر، لكن ذلك يقتضي عدة إجراءات كالتي قامت بها «تماضر»، وهي أم لأطفال يدرسون بإحدى المدارس المصرية. بدءاً يُجرى امتحان تقييمي للأطفال المقبولين، وبعدها يُقبَل التلميذ وفق النتيجة، ومن ثم يُسجّل ويُدفع قسط أول للرسوم، وعليه تبدأ إجراءات عمل الإقامة المدرسية. أما في حالة عدم النجاح في الامتحان، فإن بعض المدارس تعطي فرصة أخرى لإعادة الامتحان وبعض المدارس لا تفعل.
تعطي المدرسة المصرية خطاب الترشح وهو دلالة على وجود خانة في المدرسة، ثم يُختم الخطاب من القسم المعنيّ سواءٌ أكان ابتدائياً أم إعدادياً أم ثانوياً، بالإدارة التعليمية بالمنطقة، ومن ثم التوجه إلى السفارة السودانية والحصول على خطاب الإقامة وخطاب عدم الممانعة.
يذهب طالب الإقامة إلى مجمع مصلحة الجوازات لاستخراج الإقامة، وبحوزة الأسرة النسخ الأصلية إضافة إلى الصور: صور من جوازات الأب والأم والطفل، شهادة الميلاد، عقد الإيجار، وإيصال البنك النقدي. وتُودَع جميع المستندات، ومن ثم تُستَلمُ الإقامة ومدتها شهران فقط. وبعد انتهاء مدتها، تَستخرج مدرسة الطفل شهادة قيد لاستخراج الإقامة المدرسية كاملة لفترة 10 أشهر، إضافة إلى الشهرين السابقين، مع جميع الأوراق القديمة أيضاً.
بين القانون والتفسير
وتواجه السودانيين الذين يعيشون في مصر تحديات عدة في ما يتعلق بالحصول على إقامات قانونية، أولها غياب موجِّه واضح للخطوات، فالقوانين موجودة، لكنها تتباين في التفسيرات والشروح، مما يُصعّب على الأفراد الوصول إلى المعلومات بسهولة. ويضطر السودانيون للتردد على المجمعات والإدارات على نحو متكرر لإكمال الإجراءات اللازمة، ويجري إرجاع كثير منهم بحجة نقص الأوراق والمستندات المطلوبة. ومن لا ينجح في تقديم طلب الإقامة قبل الموعد النهائي، سيفقد الوصول إلى الخدمات التي تقدمها المؤسسات الحكومية للأجانب المقيمين.
كذلك يواجه السودانيون في مصر صعوبة توفير الأموال المطلوبة لتقديم طلبات الإقامة وتجديدها، فعلى سبيل المثال، يتعيّن على الأفراد الذين دخلوا رسمياً دفع 25 دولاراً أمريكياً كلّ 3 أشهر، إضافة إلى ذلك، يجب دفع مبلغ ألف دولار أمريكي لتقنين أوضاع الداخلين من دون تأشيرة رسمية للحصول على إقامة. وهذا يشكل تحدياً حقيقياً لكثير من السودانيين الذين لا يستطيعون تحمل تلك التكاليف، كما يُعاني العديد منهم من تأخير في التسجيل، مما يعرضهم لحملات الإبعاد ويحرمهم من الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم ووسائل الاتصال والنقل.
فضلاً عن ذلك، فإن الفترة الزمنية المطلوبة لاستكمال الإجراءات في مجمع الجوازات للحصول على إقامة تستغرق وقتاً طويلاً، وكذلك الفترة الزمنية لحين استلام بطاقة الإقامة؛ وهذا يسبب توتراً وقلقاً بشأن الإبعاد أو عدم الاستفادة من الخدمات داخل مصر.