لم يكن إيقاع الحزن السوداني بحاجة إلى نغمة إضافية؛ غير أن موسم خريف هذا العام أصر على إغراق السودانيين في وابل أمطار زادت مرارة كأس يتجرعونها منذ أكثر من عام.
يشهد موسم الأمطار هذا العام معدلات هطول غير مسبوقة، مشابهة لما حدث في منطقتي القرن الأفريقي وشرق أفريقيا بشكل عام، في موسم وصفه المراقبون بالاستثنائي. فمنذ أبريل الماضي، اجتاحت الفيضانات كينيا وتنزانيا وبوروندي والصومال وإثيوبيا وغيرها من دول شرق أفريقيا، مخلفة دماراً هائلاً في البنية التحتية، ونزوح مئات الآلاف من السكان، وتشريد عدد كبير من اللاجئين، إضافة إلى مئات القتلى والمصابين.
وترتبط التقلبات المناخية، وما يترتب عليها من تعاقب لمواسم الجفاف والفيضانات، ارتباطاً وثيقاً بارتفاع درجات حرارة الكوكب. فقد أعلنت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) أن يوليو الماضي كان الأشد حرارة في العالم منذ بدء تسجيل درجات الحرارة في عام 1850؛ وأُعلن يوم 21 يوليو الأكثر سخونة على الإطلاق. ومن المتوقع أن يتجاوز عام 2024 الرقم القياسي لأكثر السنوات حرارة في التاريخ.
يوضح الشكل الارتفاع المستمر في متوسط درجات الحرارة للأرض (اليابسة والمحيطات) منذ ستينيات القرن الماضي. جرى تجميع بيانات متوسط درجات الحرارة العالمية من القياسات التي أجرتها محطات الأرصاد الجوية والسفن والطائرات والأقمار الصناعية: المصدر: NOAA
يرجع الارتفاع المستمر في درجات حرارة الأرض إلى ظاهرة الاحتباس الحراري، وهي ناتجة عن زيادة غازات الكربون في الغلاف الجوي، مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، أو ما يعرف بالغازات الدفيئة. تتراكم هذه الغازات في الطبقات العليا من الغلاف الجوي، مُكوّنة طبقة عازلة فوق سطح الأرض، تمنع تسرب الحرارة إلى الفضاء الخارجي، مما يؤدي إلى احتباس الحرارة داخل الأرض وارتفاع درجات الحرارة على اليابسة والبحار والمحيطات. يمكن تشبيه هذا الأمر بغطاء قِدْرِ الطّعام على الموقد، حيث يساعد الغطاء في تسخين الطعام من خلال حبس البخار.
أدى الانتعاش الاقتصادي الهائل عقب الحرب العالمية الثانية إلى توسعٍ كبير في الصناعات، مما قاد بدوره إلى طلب غير مسبوق على الطاقة، واستغلالٍ مُفرط للموارد الطبيعية عبر عمليات مكثفة لاستخراج الوقود الأحفوري كالنفط والفحم والغاز لتلبية احتياجات السوق العالمي. وأسفر عن ذلك تزايد مطرد في انبعاثات الغازات الكربونية الناتجة عن صناعات النفط والغاز.
لكن العامل الرئيسي وراء موسم الأمطار الغزير هذا العام في مناطق شرق أفريقيا، هو ظاهرة طبيعية تسمى «النينو». وأعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في يونيو 2023 عن بدء تشكل «النينو»، وهي كلمة إسبانية تعني «المولود الجديد»، أطلقها الصيادون في أمريكا الجنوبية على هذه الظاهرة، بعد ملاحظة أنها تبلغ ذروتها خلال أعياد الميلاد في ديسمبر.
تحدث ظاهرة «النينو» نتيجة تقلبات في الغلاف الجوي للمحيط الهادي عند خط الاستواء، مما يؤدي إلى تشكُّل تيارات مائية دافئة في الجهة الشرقية للمحيط الهادي قبالة سواحل قارة أمريكا الجنوبية، وتحديداً على شواطئ البيرو والإكوادور. في المقابل، تتشكل تيارات مائية باردة على الجهة الغربية من المحيط الهادي، تمتد حتى تتداخل مع المياه الدافئة للمحيط الهندي عند سواحل الجزر الإندونيسية.
ونظراً لأن المحيط الهندي يمتد من جنوب آسيا، وتحديداً من الجزر الإندونيسية شرقاً، وحتى منطقة القرن الأفريقي غرباً، تدفع المياه الباردة القادمة من المحيط الهادي المياه الدافئة على امتداد المحيط الهندي من الجزر الإندونيسية غرباً حتى قبالة منطقة القرن الأفريقي عند سواحل شرق أفريقيا. ويتسبب التباين في درجات حرارة المياه بين الشرق والغرب في تشكُّل ظاهرة تُعرف باسم «ثنائي القطب الموجب للمحيط الهندي»، وهي علاقة عكسية بين جانبي المحيط الهندي؛ حيث تُسهم المياه الباردة في الجزر الإندونيسية ومناطق شمال أستراليا في تقليل هطول الأمطار، مما يسبب جفافاً في تلك المناطق.
في المقابل، تؤدي تيارات المياه الدافئة في غرب المحيط الهندي إلى ارتفاع درجات الحرارة فوق سطح المياه، مما يزيد من معدلات التبخر ونسب الرطوبة في الهواء، وبالتالي تشكُّل سحباً ركامية رعدية ممطرة، ترفع من معدلات هطول الأمطار في منطقة شرق أفريقيا.
صورة توضح ظهور التيارات المائية الدافئة شرق المحيط الهادي بمحاذاة السواحل الغربية لقارة أمريكا الجنوبية قبالة البيرو والإكوادور، في حين تبرد المياه في غرب المحيط الهادي قبالة السواحل الشرقية لأستراليا. المصدر: NOAA/JPL
صورة للمحيط الهندي توضح التأثير الموجب لظاهرة ثنائي القطب للمحيط الهندي، حيث تبرد المياه في شرق المحيط الهندي في مناطق جنوب آسيا، وبالمقابل تسخن المياه غرب المحيط الهندي قبالة سواحل شرق أفريقيا مما يقود إلى معدلات تبخير أعلى تقود لتكوين السحب الممطرة شرق أفريقيا. المصدر: المكتب الأسترالي للأرصاد الجوية.
وترتبط ظاهرة هطول الأمطار في منطقة الشرق أفريقيا بظاهرة ثنائي القطب الموجب للمحيط الهندي، أو ما يُعرف أيضاً بـ«النينو الهندي»، والمُتداخلة بدورها مع ظاهرة النينيو الأساسية في مناطق المحيط الهادي بأمريكا الجنوبية، مما يجعل تأثير «النينو» متبايناً حول العالم؛ فبينما تهطل الأمطار في مكان، يحل الجفاف في مناطق أخرى.
ورغم إعلان المنظمة العالمية للأرصاد الجوية انتهاء ظاهرة النينو في مايو الماضي، إلا أن آثارها ما زالت مستمرة في المحيط الهندي، مما يُعزز ما يُعرف مجازاً بـ «أثر جناح الفراشة»، وهو مفهوم يشير إلى نظرية الفوضى والارتباط الوثيق بين مكونات النظم البيئية للكوكب، إذ يُمكن لرفرفة جناح فراشة في أقصى الشرق أن تُحدث تأثيراً مدمراً في أقصى الغرب.
صورة توضح مؤشر ظاهرة ثنائي القطب للمحيط الهندي، خلال 20 عاماً، ويمثل اللون الأحمر المرحلة الموجبة من الظاهرة وهي التي تتكون فيها الأمطار في مناطق شبه الجزيرة الهندية وشرق أفريقيا المصدر: مصدر البيانات: ملاحظات الأقمار الصناعية لمستوى سطح البحر. NASA MEaSUREs/PO.DAAC
توقعات احتمالية هطول الامطار في الفترة من 6 – 13 لشهر أغسطس الجاري (غزارة الأمطار تتدرج من الأزرق الداكن إلى الأزرق الفاتح، حيث يشير الأزرق الداكن إلى أمطار غزيرة جدا، ويشير اللون الأزرق إلى أمطار غزيرة، بينما يشير اللون الأزرق الفاتح إلى أمطار أقل غزارة) المصدر : مركز التنبؤ بالمناخ و تطبيقاته التابع للهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (ICPAC)
ظاهرة «النينو»، المعروفة أيضاً بالتذبذب الجنوبي للنينو، هي ظاهرة طبيعية تتكرر على نحو دوري كل عامين إلى سبعة أعوام. وكان آخر ظهور لها في عام 2016، وهو نفس العام الذي شهدت فيه مناطق شرق السودان هطول أمطار غزيرة أدت إلى فيضانات واسعة النطاق. ولكن، تأثيرات النينو باتت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، إذ يُعزز كل منهما الآخر في علاقة طردية ومتداخلة. وقد توقع العلماء أن تزداد وتيرة وشدة النينو في السنوات المقبلة.
إن ارتفاع درجة حرارة المحيطات على نطاق عالمي جعلها أكثر تأثراً بالنينو. وتؤدي المحيطات، التي تغطي أكثر من 70% من سطح الأرض، دوراً حاسماً في تنظيم مناخ الكوكب. بالتالي، فإن أي تغيّر في درجات حرارة المحيطات يفاقم بدوره الظواهر المناخية، ويجعلها أكثر تطرفاً في مختلف مناطق العالم.
ورغم أن النينو تؤثر على مناطق شاسعة من الكرة الأرضية، إلا أن مستويات التأثر بها تختلف على نحو ملحوظ، فيكون الضرر الأكبر من نصيب البلدان الفقيرة والأقل قدرة على التكيف مع التغيرات المناخية. ويُعد السودان من بين أكثر 10 دول في العالم تأثراً بالتغير المناخي، ويحتل المرتبة السادسة عالمياً وفقاً لمركز الأبحاث في جامعة نوتردام.
تسببت هذه الهشاشة المناخية في خسائر فادحة على السودان على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية؛ بل وأدت إلى نشوب ما يعتبره البعض أول حرب مناخية في القرن الحادي والعشرين، وذلك في عام 2003 في دارفور، نتيجة للصراع السياسي الناتج عن النزاع على الموارد الطبيعية التي باتت محدودة بفعل التغيرات المناخية.
وفي هذا السياق، تبرز قضية العدالة المناخية؛ إذ لم يكن السودان يوماً من الأيام مسؤولاً عن تلويث الهواء أو إطلاق الغازات الدفيئة التي تسبب الاحتباس الحراري. بل هو ضحية لدول صناعية كبرى بنت حضارتها ورفاهيتها الاقتصادية على حساب تلويث الكوكب ونهب ثرواته الطبيعية دون اعتبار لتبعات ذلك على سكان البلدان الأكثر فقراً وهشاشةً، والذين يعانون من تداعيات تغير المناخ من جفاف وتصحر أحياناً، وفيضانات وانهيارات أرضية أحياناً أخرى.
تزامنُ ظاهرة النينو مع النزاع المستمر في السودان، عمَّق معاناة السودانيين إلى مستويات غير مسبوقة. فوفقاً لتقارير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فإن أعداد النازحين تتزايد بوتيرة مقلقة نتيجة للصراع المستمر، وتشهد ولايات السودان اكتظاظاً بالهاربين من النزاعات. تستضيف ولاية كسلا وحدها أكثر من 253,000 نازح، إضافة إلى أكثر من 10 آلاف نزحوا مؤخراً جراء دخول قوات الدعم السريع إلى عدد من مدن ولاية سنار، إلى جانب 755,500 نازح استقروا في ولاية القضارف. هذا إلى جانب أكثر من نصف مليون لاجئ في معسكرات الإيواء بشمال دارفور، مثل معسكر زمزم.
بعد أمطار يوليو الغزيرة، وجدت هذه المجموعات نفسها فجأة بلا مأوى، متكبدة المعاناة والعوز على جوانب الطرقات. وقد تحقق ما تنبأت به الهيئة العامة للأرصاد الجوية السودانية والمرصد الكيني من احتمالية هطول أمطار غزيرة على شمال السودان في أغسطس. وحتى لحظة كتابة هذه السطور، ما تزال مناطق أبو حمد ودنقلا وتنقاسي وحلفا، وغيرها من مناطق ولاية نهر النيل والشمالية، تعاني من معدلات أمطار غير مسبوقة في مناطق لا تشهد عادة هطولات مطرية. وقد أسفرت الفيضانات والسيول في شمال السودان عن عشرات القتلى ومئات المصابين وآلاف المنازل المدمرة.
تتمتع محلية أبو حمد بخصوصية في هذا السياق، حيث شهدت المنطقة خلال العقد الأخير توسعاً هائلاً في عمليات تنقيب الذهب، وكثير منها بطرق عشوائية وبدائية، نتج عنها مئات الأطنان من المخلفات الكيميائية، أبرزها عنصر الزئبق السام والمضر. تؤدي الفيضانات والسيول إلى جرف تلك المخلفات إلى الأراضي الزراعية والقنوات المائية، مما يشكل تهديداً مباشراً للبيئة والصحة العامة، من حيث تلوث المياه السطحية والجوفية وامتزاجها بالتربة، مما يدخلها في السلسلة الغذائية.
سوق مدينة أبو حمد. المصدر: أحد سكان المدينة
ظلّ «النينو» عبر تاريخه الحديث مرتبطاً بشكل وثيق بالأمن الغذائي العالمي والمحلي، بتأثيره المباشر على ارتفاع أسعار الغذاء حول العالم. وتتسبب الفيضانات في تدمير المحاصيل الزراعية والبستانية في السودان وشبه الجزيرة الهندية، بينما يعاني وسط وجنوب أفريقيا إضافة إلى مناطق جنوب آسيا وأستراليا من جفاف شديد. هذا التباين في المناخ يؤدي إلى تعثر إمدادات الغذاء حول العالم وارتفاع تكلفتها.
تترافق هذه الأوضاع مع تصاعد التحذيرات من مجاعة وشيكة في السودان، وخاصة مع تفاقم القيود المفروضة على إيصال المساعدات والإمدادات الغذائية بسبب الصراع المسلح. وقد أفادت منظمة الفاو أن نحو 25.6 مليون شخص معرضون للمجاعة، بينما يعاني 775,000 شخص من مستويات كارثية للجوع الحاد.
أما بالنسبة للنظم الصحية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فإن آثار النينو تتعاظم بشكل خاص في الدول الأكثر هشاشة، وعلى رأسها السودان. ومع اكتظاظ دور الإيواء بالنازحين في مدن وقرى تعاني بالأصل من ضعف البنية التحتية والخدمات الأساسية كأنظمة الصرف الصحي وإمكانية الوصول إلى مياه الشرب والطهي والتخزين، فإن النينو يضيف معاناة جديدة لضحايا الحرب. ويخلق سوء تصريف المياه الراكدة بؤراً للتلوث، ويُعزّز نمو نواقل الأمراض مثل البعوض، مما يزيد من احتمالات تفشي أمراض الكوليرا والملاريا وحمى الضنك وحمى الوادي المتصدع. كما قد تساهم الظروف المناخية في تكاثر الجراد الصحراوي، الذي سيقضي بدوره على ما تبقى من المحاصيل الزراعية.
تتجلى الآثار الاجتماعية الناجمة عن انهيار المباني ومعسكرات الإيواء في تفشي الأوضاع الصحية السيئة، بما في ذلك انعدام وقلة المراحيض الصحية، مما يجبر الناس على التبول والتبرز في العراء. إضافة إلى ذلك، فإن الاضطرابات الأمنية والاجتماعية تفضح انتهاك الخصوصية وتعرض الفئات الأضعف في المجتمع، مثل النساء والأطفال، لمختلف الانتهاكات المبنية على أساس النوع، مما يحرمهم من حقوقهم الأساسية ويهدد إنسانيتهم. هذا قد يدفعهم إلى موجات نزوح جديدة استجابة لتداعيات التغير المناخي.
لقطة من الأقمار الصناعية لمعسكر زمزم جنوبي الفاشر بتاريخ 26 مايو 2024، قبل موسم سقوط الأمطار، تظهر هذه اللقطة نقطتَي توزيع المياه في معسكر زمزم للنازحين، كما تبين اللقطة طابورين لصف من سكان المخيم
هذه اللقطة بتاريخ 26 يوليو 2024، لنفس الموقع، وذلك بعد سقوط الأمطار، وتظهر نقاط توزيع المياه مغمورة كلياً بمياه الفيضان، بينما لا يوجد أي صف أو طابور لسكان المعسكر
وفيما يلي بيان ببعض الخسائر جراء الفيضانات في الفترة من يوليو إلى أوائل أغسطس 2024
المصدر: المفوضية السامية لشؤون اللاجئين
في ظل التقارير الاقتصادية الدولية التي تشير إلى أن البلدان النامية بحاجة ماسة إلى حوالي 2.4 تريليون دولار سنوياً لتمويل مشاريع تنموية، يضحي السودان في أمسّ الحاجة لتفعيل آليات التظلم المناخي. يتطلب ذلك اتخاذ خطوات قانونية قوية، بما في ذلك تقديم دعاوى قضائية إلى محكمة العدل الدولية، مستندين إلى جميع الأدلة والبيانات المتاحة، ومستفيدين من إقرار الدول الكبرى بمسؤوليتها التاريخية وما اعترفت به من حق الدول الفقيرة في التعويضات خلال مؤتمر الأطرافCOP27 في شرم الشيخ وCOP28 في دبي.
إن توثيق ما يمر به السودان من كوارث طبيعية وصراعات في العام الحالي يعدُّ نتيجة حتمية لتداعيات التغير المناخي. ومع تزايد وتيرة ظاهرتي «النينو» و«اللانينيا» المتعاقبة، وما يصاحبها من فيضانات وجفاف، من المؤكد أن السودان سيحقق تقدماً كبيراً على الصعيد العالمي، متقدماً خمسة مراكز ليحتل المرتبة الأولى بين الدول المتضررة من التغير المناخي والأكثر استحقاقاً للتعويضات المناخية.