أتر

المُويه ياها المُويه، والأودية لم تتغيّر

منذ يناير بداية العام، حذرت منظمة الإيقاد من أن فصل الخريف سيكون استثنائياً، مع هطول كميات كبيرة من الأمطار على مساحات واسعة من القرن الأفريقي، وبالتحديد في السودان، ومن أن الفاصل المداري سيبلغ مناطق حلفا القديمة. 

بالنظر إلى طبيعة الظاهرة، فإنها تأتي كل أربع سنوات إلى ست، وتزيد معدلات هطول الأمطار، إضافة إلى زيادة رقعة المساحة التي تغطيها. ومع تفشي خطاب التغيّر المناخي باتت كل الظواهر الطبيعية التي تحدث على سطح كوكب الأرض، تُفسر وفقاً له، حتى وإن كانت في بعض الأحيان بعيدة عن نتائجه؛ لكن تظل خطابات وإشكالات البيئة المطروحة في النصف الشمالي من الكوكب هي المهيمنة. 

هناك مستويان للنقاش هنا، الأول أن التحولات المناخية في السودان لا يمكن فصلها بأي حال عن حيوات المواطنين وسبل عيشهم وسياساتها؛ والثاني أن العقد الأخير قد فجر مسألة التعدين الأهلي الذي اتجهت إليه فئات مختلفة – حتى من خارج السودان – وبات من المصادر التي تَعِدُ الناس بالغنى السريع.  ويأتي ذكر التعدين الأهلي هنا دالاً على تغيّر معالم سطح الأرض، إذ يغير التعدين عامة، والأهلي بوجه خاص، تضاريس الأرض ومنها الجبال والأودية، مما يحرف مجاري المياه عن مكانها الطبيعي، فضلاً عن تغييره أماكن تجمع المياه. 

شمّاعة التغيّر المناخي

 يعلم الجميع أن هنالك تغيرات جذرية في المناخ تتسبب في الكوارث الطبيعية، وقد يرى البعض أنها فكرةٌ بدَهية. حقاً تحدث الكوارث الطبيعية بوصفها مسألةً خارجة عن يد الإنسان لتلقي بظلالها على حياته. وينطلق الرأي الذي يضع جلّ اللوم على التغير المناخي من فرضية ضمنية، مفادها أن الإنسان قادر على التحكم في الطبيعة، وليس جزءاً منها ومن صيرورة حياة الكوكب، وأن التغير المناخي حدثٌ منفصل عن الإنسان، وهو الرأي الذي تأسست عليه الحداثة الأوروبية، فالإنسان ليس جزءاً من الطبيعة، بل متحكم فيها ومسيطر عليها. 

لن يجادل أحد في أن التغيّر المناخي له يد في الكوارث الطبيعية التي تنوء بحملها على إنسان السودان، لكن علينا النظر دائماً إلى ما فعلت يد الإنسان نفسه، وفي قلبها سياسات وإجراءات الحكومات، كمحدد فاعل وذي أثر كبير فيما يعيشه إنسان السودان من مآسٍ طبيعية. 

في العام الماضي، تعرضت قرية في ريف مدينة مروي – تحفَّظ أهالي القرية على إيراد اسمها – إلى كارثة إنسانية بسبب اقتحام السيول للقرية. وبالنظر إلى مستويات الأمطار التي هطلت، فقد كان حجم المياه الذي حملته مياه السيول أكبر بكثير. يقول «عبد الله علي»، أحد مواطني القرية، إن الدمار الذي سببه سيل سبتمبر من العام الماضي 2023، لم يُشهد مثيله حتى في فيضانات 88؛ ومع ذلك، كان بالإمكان تفادي أو  على الأقل تحجيم الدمار الذي سببه السيل. يقول عبد الله: «المويه ياها المويه، كان صبّت كتير ولا بسيط والخيران أصلاً ما بتودّر دربها!». ويشير عبد الله إلى أن زراعة مناطق في مصب الخيران الخصبة قد تسببت في ردم قنوات تصريف المياه إلى النيل، ونتج عن ذلك تدفق المياه على طول مجرى الخور، ومع استمرار تدفق المياه وجد السيل طريقه إلى القرى ومزارع البصل. 

في 9 أغسطس الماضي، هطلت أمطار مصحوبة بعواصف رعدية على مناطق متفرقة من محلية مروي، شملت جميع مناطق جنوب المحلية، وكانت أكثر المناطق تضرراً هي منطقة تنقاسي السوق، وتنقاسي سمعريت، وتنقاسي الرويس، على عكس مدينة مروي والمناطق القريبة منها التي لم تشهد ضرراً كبيراً، مثل القرير. 

تلقي كارثة تنقاسي بأسئلةً عديدة على سكان المنطقة، لكن لماذا تنقاسي دون بقية القرى؟ يرى موظف الصحة «سيد أحمد الحاج»، أن الأودية والخيران تفصل القرى عن بعضها البعض، كما تفصل خشوم البيوت داخل القرية الواحدة، فلا يوجد تخطيط يتحكم في مجاورة الناس أو حتى السوق، وإنما المتحكم الوحيد هو الطبيعة. ويشير سيد أحمد إلى أن فيضان 1988م غيّر من معالم الأحياء نتيجة غمره مناطق واسعة من الولاية الشمالية، مضيفاً أن هذا الفيضان كان سبباً مركزياً في نزوح الأهالي إلى مناطق أعلى، وبكل تأكيد باتت مجاري المياه هي العنصر المهم في حيواتهم. 

يضيف سيد أحمد أنه ما بين تنقاسي السوق وتنقاسي الرويس يوجد مجرى مائي قديم جداً، لم يلحظه إلا القليل من الأهالي، وبسبب شحّ الأمطار وتمدّد السكان والمساكن، أنشئت بعض المنازل على طول مجرى المياه، لذا كان أكثر المتضررين هم الذين بنوا على طول المنطقة، إضافة إلى السكان حول منطقة المجرى بسبب التغيير الذي حدث له. 

أودية لم تغير مجراها

إذا ما نظرنا إلى الصورة الجوية الملتقطة لمناطق تنقاسي ومروي، سنرى خطاً تقسيماً المياه باللون الأزرق، ويمضي هذا التقسيم إلى أن يتجه للنيل في منطقة «أب دوم»، أما الخطوط الحمراء والخضراء فهي تفرعات من خط تقسيم المياه، حيث تتشكل منطقة أشبه بالدلتا. 

سيلحظ المشاهد أن هنالك أحياء قد بُنيت على طول هذه الدلتا، مما يعني أن تركيز المياه يتجه إلى نقطة واحدة. وتبعاً لذلك التركيز، ستتجه المياه إلى نقطة الضعف على طول هذه المنطقة. السيناريو الأفضل أن يكون المجرى المائي القديم مفتوحاً، ولكن بسبب الأبنية اتجهت المياه إلى الأحياء. 

صورة جوية لمنطقة تنقاسي مع خط تقسيم المياه

التعدين الأهلي آفة الأرض

في العام 2010، انطلقت حمّى التعدين الأهلي في ولايتَي نهر النيل والشمالية. ومن المعروف أن التعدين قد بدأ في تلك المناطق منذ القدم، وبالتحديد على مجاري الخيران نتيجة لكشف المياه عن عروق الذهب. وبسبب انعدام إمكانيات التعدين فقد اقتصر النشاط على مناطق محددة في الولايات الشمالية. 

تغير الحال بعدما اعتمد النظام السابق على الذهب كعنصر رئيس في ميزانية حكومة ما قبل ثورة ديسمبر، فانفجرت أودية نهر النيل والشمالية بمئات الجرارات والآليات الثقيلة، وتسببت في تغيير طبوغرافيا المنطقة بشكل عام في المناطق المحيطة بعدد من المدن، كما تسببت في تغيير كلي لمجاري السيول والأودية. 

بالنظر إلى خارطة «أبو حمد»، نلحظ أن مناطق التعدين تقع قبل خطوط توزيع المياه، أي أن التغيرات الرئيسة تكمن في خط تقسيم المياه، مما يُشير بالضرورة إلى تغير المجاري المتفرعة من خط تقسيم المياه. ومع نشوء الطواحين وتوسع المدينة ونشوء أحياء جديدة، فإن المياه التي تتجه إلى النهر قد تغير مجراها، إضافة إلى تخزينها بسبب نشوء المناطق الحاجزة، فتندفع جارفةً وسريعة. فلو كانت هذه المنازل حسب إفادة «حسب الله معروف»، أحد مواطني أبو حمد، في غير موضعها الحالي، فإن المياه لن تجرف شيئاً بل ستتمدد خارج مجرى الوادي الرئيس، ولن تهدم المنازل بسرعة، بل ستتخذ استراتيجية النهر في زحفها نحو المدن، لأن المنازل تكسرت على نحو عمودي باتجاه جريان المياه، أما النهر فيفيض ببطء ويغطي لكنه لا يجرف. 

بالنظر إلى خريطة «أبو حمد»، نلحظ أن مناطق التعدين تقع قبل خطوط توزيع المياه، في مستوى مرتفع عن المدينة، مما يؤثر على شكل مجاري المياه ونقاط توجهها، ويتسبب في تغيّرات في المجاري الرئيسة. ومع نشوء الطواحين، وتوسع المدينة ونشوء أحياء جديدة، باتت تلك المواقع الجديدة بمثابة حاجز لجيران المياه، فغيرت المياه التي كانت تتجه إلى النهر مجراها، كما صار بعضها يُختزن في عدة مناطق. وانعكس ذلك على قوة دفع المياه، وبدت تظهر كأنها جارفة وسريعة. يتجلى ذلك في حجم دمار المنازل الناتج من تدفق المياه، فلو كانت المنازل مبنية خارج مجرى المياه، أو في مستوى أعلى بقليل، فلن تجرفها المياه، التي كانت ستمدد خارج مجرى الوادي الرئيس، ولن تهدم المنازل بل ستكون مثل فيضان النهر في زحفه نحو المدينة. ولكن هذا لم يحدث بسبب تحول المجرى وتجمع المياه في مناطق مختلفة عن المناطق الطبيعية، إضافة إلى توزيع المنازل  عشوائياً في المجرى.

صورة أقمار صناعية توضح اتجاه جريان المياه نحو النيل في أبو أحمد من واقع طبوغرافيا المنطقة

لماذا تصمد خطوط السكة الحديد؟

من الملحوظ في بورتسودان، أن خط السكة الحديد لا يلتقي على نحوٍ متوازٍ مع الطريق القومي، إلا في نقاط محددة، وتقريباً في المسافة بين بورتسودان وسواكن، كما أن خطوط السكة الحديد تتعارض ويقطعها الطريق القومي في عدة نقاط. 

خطط الاستعمار الإنقليزي السكة الحديد بوصفها مشروعاً استراتيجياً يُلبّي طموحات التاج البريطاني في ربط مستعمرة القطن بالبحر الأحمر والموانئ المهمة، لذا بُنيت خطوط السكة الحديد بمنأى عن المناطق المأهولة، وأقرب للجبال من السهل أو المناطق المنبسطة، ولذلك تقاوم خطوط السكة الحديد اندفاع المياه، مما يجعلها أقل عرضة لخطر الانهيار. 

كذلك، بُنيت جسور السكة حديد والكباري من مواد البيئة المحيطة، ما يعني أنها تقاوم خطر التعرية والعوامل المناخية التي تقلل من كفاءتها، والأهم من ذلك أنها بُنيت مع الوضع في الاعتبار الأودية والخيران، أي أنه لم يجرِ تغيير تلك المجاري. وعلى العكس، فكثيراً ما نشاهد على الطرق القومية عمليات ردم ومن ثم بناء بالحجر على عرض مجرى الخور، يتبعه بناء كوبري، مما يتسبب لاحقاً في تآكل الردمية وانهيار الطريق وجرفه كاملاً، ثم انهيار الكوبري الموضوع على عرض الوادي. 

تقول الحكمة التي يُطلقها المزارعون والرعاة في السودان، إن الماء لا يُغيِّر مجراه طال الزمن أم قصر. كان يمكن لتلك الحكمة الشعبية المتوارثة، وليدة الخبرات والتجارب الطويلة أن تنقذ الإنسان من مهاوي الطبيعة، مثل أن تُحدّدَ زراعة «البامية» في اليوم الخامس من الشهر العربي، أو أن تُفهم مواقع النجوم لمعرفة قوة الأمطار من ضعفها. 

Scroll to Top