تضيق الأرض بالسودانيين في مختلف جهات السودان يوماً بعد يوم، فمع تحديات العيش والنزوح جراء الحرب المتسعة، تعرّضت ولايتا نهر النيل والشمالية إلى موجة عنيفة من السيول والفيضانات، عقب الهطول غير المسبوق للأمطار، لتُخلّف العديد من الضحايا، وآلاف البيوت المهدمة، وتُضيف تشريداً على تشريد. وبحسب آخر تحديث من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بالسودان، فقد تأثر نحو 167.613 أشخاص بموجة السيول والفيضانات في مختلف أنحاء البلاد، وتعرض 29.729 منزلاً للتدمير، ونزح 30.475 شخصاً، وقد صحب ذلك هلاكٌ للمحصولات، وتلفٌ للمساحات الزراعية وفقدانٌ للممتلكات، فضلاً عن الآثار الصحية والبيئية.
ولاية نهر النيل
شهدت مدينة أبو حمد، على الجزء الشمالي من ولاية نهر النيل، هطول مقادير غير مسبوقة من الأمطار، واندفاعاً للسيول من السهول الشرقية والغربية، ضربت المدينة وما حولها من قرى، بدءاً من مطلع أغسطس الجاري. وعلى الرغم من تحذيرات وحدة الإنذار المبكر التابعة للهيئة العامة للأرصاد الجوية السودانية، لم تحرك السلطات المحلية ساكناً باتخاذ التدابير اللازمة. وقد أحصت جمعية الهلال الأحمر السوداني 34 حالة وفاة، وانهيار 24.104 منزلاً انهياراً كلياً، و150 مرفقاً خدمياً.
يقول التاجر بسوق أبو حمد، محمد المنصوري، متحدثاً لـ «أتَـر»: «اندفعت المياه اندفاعاً قوياً، نتج عنه انهيار عدد كبير من المنازل، معظمها كلياً وبعضها جزئياً، ومنها ما هو آيل للسقوط في أية لحظة، كما غمرت السيول سوق أبو حمد الكبير، مما أدى إلى حدوث أضرار بالغة على المحلات التجارية التي حاصرتها المياه، وسط سوء التصريف وانعدامه، وتَلِفتْ كثيرٌ من البضائع، إضافة إلى تضرر شبكة الطرق الداخلية التي تربط بين أجزاء المدينة وأسواقها».
يصف المنصوري البنية التحتية للطرق في المدينة بالهشة، ويستشهد بانجراف الجسر الرابط بين سوق الطواحين للتعدين الأهلي وأحياء المدينة وسوقها، ما اضطر الناس إلى صعود الترعة الرئيسة للعبور، وانقطاع الطريق الرابط بين أبو حمد وعطبرة، الذي تُجلب عبره البضائع، في موضعين، لتضطر المركبات القادمة إلى أبو حمد لاتخاذ طريق ترابي صعبته السيول أيضاً، ما تسبب في زيادة السعار وفاقم الضائقة المعيشية على سكان المدينة وقراها المجاورة. أما في شرق أبو حمد فقد أغلق اندفاع المياه الكثيف مزلقان القرية 10.
وتضم مدينة أبو حمد «السوق التحت»، وهو من أقدم أسواق المدينة ويضم أكثر من ألف دكان للخضروات والمواد الغذائية ومختلف الاحتياجات. يقول محمد: «لقد انطرح السوق التحت مع الأرض وتلاشى».
في أبو حمد، يتركز السوق المواد الغذائية، وسوق الطواحين للتعدين الأهلي، في بقعة صغيرة، ويقطن معظم سكانها في القرى الجنوبية. يقول محمد دسوقي، وهو أحد سكان المدينة، لـ «أتَـر»: «هدمت السيول والأمطار معظم البيوت، وما تبقى من أحياء المدينة القديمة آيل للانهيار، كما حدثت وفيات أطفال بعد ارتفاع المياه مترين من سطح الأرض».
«لم يتوقع الناس هطول أمطار بتلك الغزارة لذا معظم المباني هشة، فطوال الأعوام العشرين الماضية كانت أمطار الخريف شحيحة، عكس هذا العام الذي شرد معظم السكان في الطرقات والمساجد والمستشفيات، إذ لا توجد مراكز إيواء مؤقتة، ولم تتحرك السلطات المحلية أو المنظمات لمعالجة الوضع، وحتى البيوت التي لم تتهدم بعد، فلن تصمد مع استمرار الأمطار، وقد تُمحى المدينة نهائياً».
يضيف دسوقي: «منذ الاثنين الماضي انقطع التيار الكهربائي عن المدينة، ويوجد خط واحد يغذي المستشفى وما تبقى من مرافق حكومية، كما تعذر الحصول على مياه الشرب والاستخدام المنزلي. وقد جرفت السيول آبار الصرف الصحي ما تسبب في خطر بيئي وصحي»، ويمضي في تفصيل الكارثة: «تردنا أخبار بأن مياه السيول قد جرفت المواد الكيميائية المترسبة في مجمعات العمل الخاصة بكُبرى شركات التعدين وحملتها إلى نهر النيل».
نوتة
نظم أهالي محلية أبو حمد اعتصامات متكررة في السنوات الثلاث قبيل اندلاع الحرب، مُطالبين بخدمات الصحة والتنمية والتعليم، ورافضين أنشطة التعدين التي تسببت في نفوق عشرات الحيوانات وظهور حالات تشوّه للأجنة وزيادة حالات الإجهاض. وحمّلوا الحكومة مسؤولية سلامة الناس والأرض. ورغم اعتراف لجان الحكومة بجدوى الشكاوى، لكنها اكتفت ببث تطمينات مضللة دون خطوات عملية. وبعد اندلاع الحرب زادت أنشطة التعدين، وبالتالي كمية المخلفات «الكرتة» المعالجة بالزئبق أو السيانايد مع توقف رقابة الشركة السودانية للموارد المعدنية.
ويُعاني النظام الصحي في مدينة أبو حمد، ضعفاً هائلاً في الرعاية المقدمة للسكان، ونقصاً في الكادر الطبي، وتُجرى به العمليات الصغيرة فقط، ولا تتوفر به جميع الأدوية، ويضطر المواطنون للسفر إلى مدينة عطبرة لتلقي العلاج، وإجراء العمليات المعقدة. ويخشى المواطنون من تفاقم الآثار الصحية التي تخلفها السيول والمياه الراكدة، وانجراف المواد الضارة مثل الزئبق والسيانيد، والعقارب والحشرات الضارة.
صور توضح حجم الدمار الذي خلفته الأمطار والسيول في نهر النيل، أبو حمد، أغسطس 2024 المصدر: وسائط التواصل الاجتماعي
الولاية الشمالية
تعرضت مناطق عدة بالولاية الشمالية لسيول وفيضانات مدمرة للمأوى والزرع؛ فبحسب شهادات كثير من السكان، فاقت معدلات هطول الأمطار هذا العام تصوراتهم وتقديراتهم قياساً بالأعوام الماضية. وأعلنت وزارة الصحة بالولاية عن وفاة 29 شخصاً وإصابة 125 آخرين جراء الأمطار والسيول التي اجتاحت مناطق واسعة، كما أعلنت حكومة الولاية حالة الطوارئ، وأوصت باستمرار إغلاق المدارس.
من أب دوم الواقعة جنوب مروي، يروي منتصر لـ «أتَـر»: «عادة ما كانت تزورنا السيول في السنوات الماضية، لكنها لا تتجاوز مجرى خور أب دوم، وهو من أكبر خيران المنطقة، وعبره تصب المياه في النيل، مسببة أحياناً أضراراً طفيفة للمَـزارع، وقد لاحظنا في السنتين الأخيرتين أن فصل الخريف يطول، وكذلك كمية الأمطار».
ومن تتبع نشرات الأرصاد الجوية، خلص سكان المنطقة إلى وجود تغير في مناخ الولاية الشمالية، وما تبع ذلك من هطول الأمطار بكميات كبيرة جداً هذا العام. و«لأن أهل هذه المناطق لم يعتادوا على فترات وكميات أمطار كهذه، شُيّدوا معظم البيوت من مواد محلية غير مُهيّأة لاحتمال خريف كهذا».
نوتة
في محلية مروي، أثرت موجات السيول وشدة الرياح في منطقتي الكاسنجر ونوري على أشجار النخيل، كما أن الأمطار تفسد الرُّطب، وتُعرف لدى المزارعين بـ «البوّالة».
وفق منتصر، فإن جميع المستشفيات الكبيرة تتركز في مدينة مروي، ومنذ بدء الحرب استقبلت المدينة آلاف النازحين من جحيم الحرب، مما أدى إلى تزايد طالبي الخدمات العلاجية، الأمر الذي أثر على قاطني المناطق حول المدينة ممن كان اعتمادهم على مستشفيات مروي.
أما في بقية المناطق، فتوجد مراكز صحية صغيرة محدودة الخدمات ولا تــُلبي حاجة الناس، خصوصاً في مثل هذه الظروف الحرجة التي يمر بها السكان. وبانقطاع جسر أب دوم، بات الناس معزولين عن الوصول إلى الخدمات الصحية اللازمة، وخاصة أمصال العقارب التي تكثر في المنطقة نتيجة فصل الخريف، إضافة إلى انتشار التهابات العين، وتلوث مياه النيل.
«جرفت مياه السيول المندفعة أنابيب إمداد المياه مما خلق أزمة في مياه الشرب، ومحطة المياه الرئيسة ليس بها وحدة فلترة. من المفترض أن ينتهي الخريف في 15 سبتمبر، لكن نظراً للتغيرات التي نشهدها لا نعلم، فربما سيمتد، وربما تأتينا سيول أخرى»، يقول منتصر، ملاحظاً انخفاضاً في حركة السوق بعد موجة السيول، خاصة وأن أغلب المتسوقين والتجار في سوق مروي هم من جنوب المدينة.
أيضاً أدى سقوط أعمدة وأسلاك الكهرباء نتيجة الرياح القوية إلى انقطاع التيار لأيام عديدة، وجرفت المياه جزءاً من الطريق الرابط بين أب دوم ومروي. يقول منتصر: «حتى بعد حدوث الكارثة لا تقدم الجهات الحكومية ما هو مرجوّ منها تجاه المواطن الذي فقد كل شيء، والجميع يعلمون أن المحلية ليست لديها آليات ومعدات لتفعل اللازم، فيما لا تزال تحصل الجبايات والضرائب من السكان، وحتى الآن لم تقدم أي جهة دعماً، لا منظمات ولا حكومة، ورغم ما يعانيه الناس، لكنهم يتصدون بجهدهم الذاتي والأهلي لفتح الطرق وتصريف المياه».
نوتة
جسر أب دوم الذي انهار مع الموجة الثانية للسيول، هو الجسر الرابط بين أب دوم ومدينة مروي، وقد شيد منذ ثمانينيات القرن الماضي، ليربط مناطق جنوب مروي وهي أب دوم، الدبيبة، فتنة، تنقاسي، القرير، أوسْلي، الدبة. وقد انهار أيضاً الجسر الموازي له من الناحية الشرقية جزئياً. ويربط الجسر المنهار جميع أجزاء المناطق الجنوبية مع مدينة مروي، حيث البضائع والخدمات الصحية، وبانقطاعه باتت مناطق جنوب مروي معزولة تماماً وفي نقص من الغذاء والعلاج.
«قدَرُنا أن ننهض من مصاب إلى مصاب آخر، فمن مناهضة سد كجبار إلى شركات التعدين، ثم الآن كارثة السيول وما تحمله»، يقول أحمد فتحي من قرية جدي على الضفة الشرقية للنيل وتتبع لمحلية دلقو، ويخبر «أتَـر»، بأن الأمطار لم تهطل في المنطقة طوال السنوات الثلاث الماضية، أما أن تهطل بمثل هذه الغزارة فهو أمر لم يحدث منذ العام 1988.
ويضيف: «القرى حولنا تدمرت تماماً، نسبة للطبيعة الجغرافية لمنطقتنا والمناطق المحيطة، وتتمثل الخطورة في المياه المتجمعة في الوديان والسهول، والمتدفقة صوب مناطق محصولاتنا، وحائط الصد هو جداول المشاريع الزراعية التي دُمرت، فاتجهت المياه إلى المنازل الهشة، إذ لم يكن في حسباننا أن نشهد أمطاراً وسيولاً بتلك الغزارة، كما جرفت السيول الطريق من حلفا إلى دنقلا، وعبره تأتي البضائع إلى الولاية الشمالية، وكثير من المسافرين المتوجهين إلى حلفا تقطعت بهم السبل، فظلوا على الطريق الذي يبعد ثلاثة كيلومترات عن القرى».
يلفت فتحي إلى أن معظم المناطق المتأثرة واقعة بين النيل والجبال، وليست بها خدمات صحية فعلية كحال جميع الخدمات الأخرى: «المراكز الصحية الموجودة صغيرة، ولا يوجد بها سوى صندوق للإسعافات الأولية، فمثلاً مستشفى فرّيق الريفي الذي يخدم 57 قرية، يعجز عن تقديم أية خدمات صحية فعلية، ورغم أنه تابع لوزارة الصحة، إلا أن الدعم المقدم منها للمستشفى لا يلبي احتياجاتنا، نظراً إلى أعداد النازحين التي وفدت للمنطقة، إذ شهدت كثافة سكانية لم تحدث من قبل».
«بعض القرى، وهي تجمعات صغيرة لا تتعدى المائتي منزل، سوّتها مياه الأمطار والسيول بالأرض، مثلاً قرية سركمتو وجزيرة صاي بمحلية عبري. وحاصرت مياه السيول والفيضانات البيوت وقد تهدمت تماماً، والطيور التي شربت من المياه نفقت جميعها بفعل التلوث الذي تسببت به مخلفات التعدين الناتجة عن عمل 190 شركة في المنطقة، وهي عدد الشركات المحصورة فقط، ومعظم القرى التي تعتمد على النيل في حاجة إلى المياه، لكن مع التلوث لا ندري ما العمل».
من منطقة جوقل بمحلية دلقو بالضفة الغربية للنيل، يقول محمد علاء متحدثاً لـ «أتَـر»: «نقطن جنوب المناطق التي حدثت فيها السيول، لكننا نعاني شأن جميع السودانيين، إذ سقطت أعمدة الكهرباء، مما أدى إلى انقطاع التيار وضعف شبكات الاتصالات، واحتياطاتنا ضعيفة جداً، فالبيوت غير مهيأة والتصريف معدوم، ولدينا مركز صحي صغير لا يلبي الحاجة المتزايدة بفعل تضاعف عدد السكان الذين استقبلتهم المنطقة جراء النزوح، وحصص الدعم التي ترسلها وزارة الصحة بالولاية قليلة جداً، إنما بجهدنا الذاتي ومساهمات أبناء المنطقة بالخارج، نوفر الإمداد الدوائي خصوصاً أمصال العقارب».
البحر الأحمر وكسلا
في ولاية البحر الأحمر والعاصمة الإدارية الجديدة بورتسودان، على غير العادة، تحول الصيف الساخن إلى خريف ماطر طوال أسبوع، إذ استمر هطول الأمطار في الفترة منذ 28 يوليو الماضي حتى السابع من أغسطس الجاري على نحو شبه يومي. نتج عنه انقطاع التيار الكهربائي عن أجزاء واسعة، إثر خروج ثلاث محطات تحويلية عن الخدمة. وطوال ثلاثة أيام لم يتمكن العاملون من إصلاح العطل بسبب الوضع المعقد؛ فقد خسرت بورتسودان قبل موجة الأمطار حوالي 70٪، من حجم الطاقة الكهربائية المغذي للمدينة نتيجة لتضرر أحد المحولات الرئيسة، بحسب حديث أحد مهندسي التوزيع – فضل حجب اسمه – لـ «أتـر».
امتد الدمار ليشمل منازل في أحياء شعبية مثل سلالاب ودار النعيم وولّع وديم كوريا، وفقد ستة أشخاص حياتهم، بحسب مصادر طبية بمستشفى بورتسودان التعليمي تحدثت إلى «أتـر»، نتيجة لسقوط أعمدة الكهرباء أو شرفات المنازل. وعلى هذا الحال يُحتمل تهدّم العديد من المباني القديمة، فبعضها غير صالح للاستخدام خاصةً في الأحياء القديمة التي يتجاوز عمر إنشاء بعضها 130 عاماً؛ كما يتوقع المهندس المدني علاء الدين أحمد، ويعمل في هيئة الموانئ البحرية، في حديثه لـ «أتـر»، إنْ تواصل هطول الأمطار، مع تقاعس الجهات المعنية في المحلية بأمر الإزالة، عن تقييم جودة المباني والمنشآت، ولذا قد تعيش المدينة كابوساً آخر بسبب تلك الانهيارات.
محليات ولاية البحر الأحمر هي الأخرى، شهدت موجة سيول واسعة على طول طريق (هيا – عطبرة)، فعلى بعد 15 كيلومتراً من مدينة هيا، تكدست الشاحنات نتيجة لانقطاع الطريق. وأضرت الأمطار بجزء من الطريق الرابط بين هيا وعطبرة، بحسب مشاهدات مراسل «أتـر»، وهو جزء تحت الصيانة بسبب أمطار الخريف الماضي. وهو الطريق الذي يعد شريان السودان الوحيد الذي يعتمد عليه اقتصاد السودان، إضافة إلى أنه مهم لملايين المواطنين الذي يستغلونه للسفر.
تعطل الباصات السفرية وشاحنات نقل البضائع على الطريق القومي – هيا/ عطبرة. المصدر: مشاهدات مراسل أتَـر، 6 أغسطس / 2024م
أما ولاية كسلا فلم يسلم النازحون إليها من الحرب، ليأتي القاش بما لا تشتهيه خيام النزوح، إذ غمرت المياه جميع الخيام التي نُصبت في مراكز الإيواء.
متحدثاً لـ «أتـر» قال الناشط الطوعي، علي عبد الله، إنهم في غرف طوارئ كسلا، ظلوا يحذرون من نصب الخيام دون مراعاة لظروف الطقس والمناخ، لكن لم تكترث حكومة ولاية كسلا لمطالبهم بضرورة مراعاة قدوم فصل الخريف، خاصة مع ازدياد تدفق المياه عبر القاش هذا العام.
وتقول إحدى الطبيبات المتطوعات في غرف طوارئ كسلا – فضلت حجب اسمها – إن دخول المياه لدور الايواء تسبب في طفح الحمامات واختلاط مياه الأمطار مع مياه المراحيض، مما ينذر بكارثة على قاطني الدور، وتضيف أن موجة الأمطار تسببت في انتشار موجات البرد وسط النازحين خاصة لدى الأطفال والنساء الحوامل، وزادت معدلات الإصابة بالالتهابات التنفسية بشكل عام.
وتأثرت أيضاً دور الايواء في مدينة حلفا الجديدة، وتسببت الأمطار في غرق معظم دور الإيواء. وكان والي ولاية كسلا الصادق محمد أزرق قد زار الدور المتأثرة بالسيول والأمطار، وقرر نقل معظمها من المدارس إلى غرب المطار، كمنطقة بديلة للنازحين؛ لكن يساور الشك النازحين بأن قرار الوالي ليس انحيازاً لهم بل محاولة منه لاستئناف الدراسة بالولاية.
الخطر البيئي
حذر التجمّع المدني بولاية نهر النيل من كارثة إنسانية وبيئية غير مسبوقة تهدّد الإنسان والنبات والحيوان، جراء السيول والفيضانات بمحلية أبو حمد والقرى التي حولها، بسبب التدمير الكامل لمناطق معالجة الذهب وفقدان جميع المعدات؛ لكن سيول هذا العام لم تكن الأولى، فقد حدثت أيضاً في العام 2022، وجرفت المياه في ولايات نهر النيل والشمالية والبحر الأحمر وجنوب كردفان، موادَّ في غاية الخطورة.
يؤكد الباحث البيئي محمد صلاح في حديثه لـ «أتَـر»، أن معظم مواقع الشركات تقع على مجاري السيول، ولم تجرِ دراسات أثر بيئي لتأثير هذه الحوادث، وحتى إن جرت، فإنها لم تُراجع بطريقة صحيحة. ويؤكد أنه لا توجد محددات وضوابط حكومية لمواقع الشركات، من حيث بُعدها عن مجاري السيول والنيل والمواقع السكنية والزراعية ومسارات الرعي وغيرها.
ويعزو صلاح زيادة معدلات السيول والفيضانات في الآونة الأخيرة، إلى حدوث عمليات تخريب لسطح الأرض، نتيجة للتعدين غير المدروس، مما يعزز حدوث تغيّرات طبوغرافية، حيث تُترك آلاف الأطنان من مخلفات عمليات التنقيب في مجاري السيول، مما يدفع إلى تغيير مساراتها، ما يُسهم في سرعة انحدار المياه المتدفقة، ويزيد من احتمالات اندفاع السيول العنيفة إلى مناطق جديدة.
ووفقاً لصلاح، تنتج عن عمليات التنقيب مواد كيميائية تدخل في عملية المعالجة مثل الزئبق والسيانيد، ومواد أخرى مشعة وكيميائية تخرج من باطن الأرض، مثل الرصاص والكادميوم والنحاس والكوبالت والزرنيخ والمعادن الثقيلة المختلفة ومركبات الكبريت والأحماض، وجميعها ضار بالبيئة، وتوضع في العراء حيث تجرفها المياه.
نوتة
تعتمد شركات التعدين على مواد كيميائية مثل الزئبق والسيوريا والسيانيد في طحن الحجر لاستخلاص الذهب، وتقع مجمعات عملها وأماكن معالجة مخلفاتها من قبل المعدنين الأهليين في أسواق معروفة وقريبة من المناطق السكنية والزراعية في جميع أنحاء البلاد، إذ يبعد أقرب تجمع لها مسافة 7 كلم من مدينة أبو حمد.
وكان السودان قد وقع على اتفاقية ميناماتا في 24 سبتمبر 2014، وهي معاهدة دولية تهدف إلى حماية صحة الإنسان والبيئة من انبعاثات الزئبق ومركباته وإطلاقاته بشرية المنشأ. وتشمل النقاط الرئيسة البارزة في الاتفاقية، حظر إنشاء مناجم جديدة للزئبق، والتخلص التدريجي من المناجم القائمة، ومن استخدام الزئبق في عدد من المنتجات والعمليات، والاهتمام بتدابير التحكم في الانبعاثات في الهواء والإطلاقات في الأرض والمياه، وتنظيم القطاع غير الرسمي لتعدين الذهب الحرفي والصغير النطاق.
أما المخلفات الناتجة عن عملية المعالجة التي تُجرى في الأسواق ومواقع الشركات، وتستخدم فيها مختلف المواد الكيميائية، فإنها تتجه إلى النيل وتلحق أضراراً بالغة بالبيئة. ويضرب صلاح مثلاً بالتجارب المدمرة حول العالم في تركيا ورومانيا، حيث تسببت ظاهرة جرف السيول لآثار التعدين في أكبر كارثة بيئية، سميت في رومانيا «تشيرنوبل2»، وتطلبت معالجتها عشرات السنين، وهنالك تجارب أخرى في نيجيريا وتنزانيا.
يقول صلاح: «ينبغي الاعتراف بالخطأ والكارثة الحادثة وإعلان مناطق الكوارث، وحشد الطاقات الشعبية والمجتمع الدولي للتعامل مع هذا الوضع، خصوصاً أن السبب في السيول والفيضانات ليس فقط الحكومة السودانية أو الشركات الباحثة عن الثراء، بل للأمر ارتباط وثيق أيضاً بالتغيرات المناخية على مستوى العالم، والأكثر تضرراً منها هي الدول الأكثر هشاشة، ما يعني أن المسؤولية مشتركة على الصعيد العالمي، ويتطلب مشاركة الدول الصناعية والشركات الملوثة للبيئة».
المهندس بهيئة الأبحاث الجيولوجية صلاح الدين مدثر، يقول إن مناطق نهر النيل هي أكثر المناطق تضرراً ومن ثم مناطق الشمالية والسبب هو تغيير مجاري الخيران والأودية نتيجة للتعدين الأهلي، وتحويلها أيضاً إلى مناطق لمعالجة «الكرتة»، مما يتسبب في تلوث المياه بنسبة عالية.
حتى هذه اللحظة لم تعلق حكومتا الولايتين على تلوث المياه، إلا أن مسؤولاً بوزارة الصحة بالولاية الشمالية – فضل حجب اسمه – رجح تلوث مياه الشرب والاستخدام بمخلفات التعدين الأهلي، وأخبر «أتـر»، بوجود معالجات تقوم بها الولاية حالياً من أجل إيصال المياه النقية للناس، ولكن في ظل ضعف الإمكانيات فإن أغلب المواطنين لن يحصلوا على مياه نقية.