أتر

 برادايس في عطبرة: مكتبة، مساحة للحلم 

من مبنى صغير في قلب مدينة عطبرة، شمال السوق الكبير، حيث تنشط الحياة التجارية والثقافية للمدينة العُمالية التي يُقال إنه يندر أن تجد فيها أميّاً واحداً، تطل لافتة من الطابق الأول والوحيد: مكتبة برادايس. وأسفلها بخط أصغر: مكتبة… مساحة للحلم. 

داليا صلاح ميرغني، شابة تهوى القراءة منذ طفولتها، وكم وجدَت بين صفحات الكتب الرفقة السعيدة والمعلومات الثرية عن العالم وعن وطنها السودان. بعد حصولها على بكالوريوس البنوك والتمويل من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا وعودتها إلى مدينتها الدامر، كان أول ما سعت إليه أن تنشئ مكتبة تكون لها بمثابة نافذة إلى عمل مستمر تحبه، ولعشاق وعاشقات القراءة في الدامر سبيلاً ميسوراً للحصول على الكتب بنظام الطلب والتوصيل، وقد وجدت بعد عودتها أن المدينة تفتقر إلى أماكن لبيع الكتب، وكانت أغلب المكتبات القديمة قد أغلقت، مثل مكتبة أبو طالب الثقافية التي توفي مؤسسها، والمكتبة الوطنية الرسمية التي لم تعد تعمل. 

فكرت داليا في اختيار اسم للمكتبة. تقول:جاء في خاطري اسم الفردوس، لأن القارئ عندما يغوص في عالم الكتاب، وخصوصاً كتب الأدب، فإنه يشعر فعلاً بأنه في جنة من ثمار شهية ومختلفة. في النهاية اخترت برادايس”. 

بدأت داليا العمل أولاً أونلاين في 2020، بعناوين من مكتبتها الخاصة، بعد أن صممت للمكتبة شعاراً خاصاً، وأعلنت عن بدء البيع عبر صفحتها الخاصة وعلى قروبات مدينة الدامر على فيسبوك، ووجدت متابعين وإقبالاً كبيراً من الجنسين، ومن فئات عمرية ومجتمعية مختلفة. ومع زيادة جمهور المكتبة من الأعضاء والمتابعين وطالبي الكتب، نظمت نادياً خاصاً بالقراءة، إذ يقترح الأعضاء عناوين مختلفة تخضع لتصويت عام لاختيار كتاب معين للاطلاع عليه أسبوعياً، ومن ثم الاجتماع لمناقشته، وكل قارئ يقدم ملخصاً ورؤية عن المحتوى والكتاب 

وظلت المكتبة تقدم خدماتها لجمهورها دون أن تُخمد الحرب التي اندلعت في منتصف أبريل 2023 نشاطها، بل زادتها حضوراً وإقبالاً على تقديم المزيد مع توافد الفارين من الحرب في الخرطوم إلى مدينتي الدامر وعطبرة المتجاورتين على نهر النيل. وقد شاركت بعرض الكتب في مختلف بازارات عطبرة والدامر التي تنعقد من حين إلى آخر في صالة إنفينيتي وغيرها. 

في 2021، نظمت مكتبة برادايس فعالية ثقافية استضافها كافيه السمندل بالدامر وشملت معرضاً للكتاب وليالى ثقافية وشعرية، وقدمت بعض الكتّاب الشباب من الولاية. وخلال تلك الفعالية أقيمت ورشة مناقشة لرواية “رامبو الحبشي” للكاتب الإريتري حجّى جابر. تقول داليا: “كان من نتائج هذه الفعالية أن أجرت معي فضائية ولاية نهر النيل حواراً عن المكتبة ونشاطها، وهي بادرة اهتمام طيبة بالعمل الثقافي في منطقة تشكو من الشحّ في هذا المجال”. 

بعدها بدأت داليا في العمل على إنشاء مشروع المكتبة على الأرض: “اخترت إنشاءها في عطبرة لأن بها كثافة سكانية أعلى من الدامر. في شارع السلك هذا، وبمساعدة إحدى الصديقات، عثرت على هذا المكان، وراق لي لأنه يقع في وسط المدينة ويسهل والوصول إليه. بعدها أجريت الخطوات الرسمية وحصلت على التصديق من إدارة المصنفات الأدبية والفنية بوزارة الثفافة والإعلام، بل ومن الجهات الأمنية أيضاً، لأن أي نشاط عام بعد الحرب مرتبط بموافقتهم. ولم تواجهني متاعب تذكر في ذلك الأمر“. 

 عُدَّت عطبرة على الدوام مدينة عمّالية لارتباطها بالسكة الحديد، وعُرفت منذ عقود بالنشاط القويّ للحركة الوطنية ضد الاستعمار، ولمعت فيها أسماء لا تُحصى من مناضلين وكتاب وشعراء ومثقفين من الأطياف السياسة كافة. وظلّ وعي المدينة كبيراً بأهمية مصادر التعلم والمعرفة، ومنها المكتبات التي كان يصل إليها كل ما يُنشر في القاهرة وبيروت من مجلات وكتب فور صدوره. أقدم مكتبة أنشئت في عطبرة هي مكتبة دبورة الثقافية التي أنشأها الزعيم عوض الله محمود محمد دبورة (شيخ المراسلين الصحفيين السودانيين)، في عام 1928 وما زالت حاضرة إلى اليوم. 

في 9 ديسمبر 2023، في شارع السلك، وسط منطقة تزخر بالمرتادين من الجنسين، طلاب وموظفون وعمال وتجار: استقامت مكتبة بارادايس واقعاً على الأرض. 

خصّصت داليا صالة للبيع، وأخرى للقراءة بها خدمات بسيطة من المشروبات الساخنة، وتعمل الآن على توفير خدمة الإنترنت. كذلك قدمت المكتبة خدمة استعارة الكتب باشتراك شهري 10 آلاف جنيه سوداني، وفق شروط معينة للحفاظ على الكتب من التلف، ويمكن للمشترك أن يستعير ما يشاء من الكتب المتوفر في المكتبة، أو باشتراك يوميّ في الصالة للمطالعة لساعات معينة. وقد لاحظت داليا أن الكتب التي تحظى بإقبال مميز هي الروايات العربية والمترجمة وكتب تطوير الذات والتنمية البشرية وكتب الفلسفة، والكتب الدينية 

وعن مصادر الكتب، تخبر داليا “أتَـر”: “أستوردُ الكتب من مصر، لكن أجد بعض الصعوبات في مسألة الجمارك، وأتمنى أن يجري إعفاء الكتب أو تخفيض قيمة الرسوم الجمركية عليها، لأنها سلعة تقدم ما يدعم العلم والعلماء. كذلك هناك تأخير شديد في وصول شحنات الكتب من القاهرة إلى عطبرة. تعاونتُ أيضاً مع دُور نشر سودانية، مثل دار المصوَّرات ومكتبة الدار البيضاء بأم درمان، ووجدتُ من أصحابها كلّ اهتمام، وتستطرد قائلة: “لم تقدم لي أي جهة رسمية دعماً أو حتى زيارة للتشجيع“. 

تدرك داليا صلاح أن العمل في هذا المجال قد لا يحقق عائداً مادياً كبيراً، لكن الأهم بالنسبة لها كما ترى هو المساهمة في مجتمع المعرفة، وأن تصنع لها مكاناً في الحدث الثقافي بعطبرة برغم أجواء الحرب: “وتحقيق هوايتي، أكثر من أي شيء آخر“.  

وتقول بثقة إنها تستطيع المنافسة بالكتاب في جميع الأزمنة ووسط جميع الوسائط الحديثة المنتشرة في عالم اليوم من هواتف محمولة وتلفزيون. وخطّتها في ذلك تمضي نحو بدء العمل مع مديري المدارس الأساسية بالولاية لإنشاء مكتبات مدرسية صغيرة، وتقديم ورش قراءة للصغار في المدراس الخاصة والحكومية ورياض الأطفال، لإنشاء جيل قارئ ومحبّ للكتب مستقبلاً. 

وتمضي داليا نحو المستقبل مفعمة بالأمل والمعنى: “خطتي للسنوات الخمس القادمة، أن تحوي برادايس أقساماً مختلفة توفر كل ما يحتاج إليه طلاب الجامعات من مراجع عملية، وأن تكون نواة لأول دار نشر بولاية نهر النيل، وأن تغدو مساحة الحلم أكبر”. 

Scroll to Top