في منتصف أغسطس الجاري، ذكرت لجان مقاومة شمبات الأراضي، في بيان، أن أفراداً مسلحين يتبعون لقوات الدعم السريع التي تسيطر على منطقة بحري منذ اندلاع الحرب، قد نهبوا مواد تموينية مخصصة لعمل المطابخ الجماعية في منطقة شمبات، وتعدوا على المتطوعين في المطابخ بالضرب والرصاص الحي المباشر وسرقة الهواتف الخاصة، مما أدى إلى توقف التكايا عن تقديم الوجبات. ونفت وجود أي قوات تقوم بحماية المدنيين وعمل التكايا كما يشاع. وتقدم التكايا وجباتها في شكل حساء في الأغلب، وبعضها يضيف الخبز إذا توفر، وتتألف من الفول والعدس والمكرونة والفاصوليا وأحياناً الرجلة أو الخدرة أو البامية.
"شي من لا شي"
بعد أسابيع من اندلاع حرب 15 أبريل بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم، ابتكر أهل السودان المطابخ الجماعية والتكايا لسد فراغ مؤسسات الدولة في تأمين حياة الناس من الجوع. وحتى حينما لم يكن ثمة من مال، كان بمقدور هياكل التضامن الشعبي هذه خلق “شي من لا شي”، وإنقاذ حياة الناس من غائلة الجوع. لكن كيف لهذه الهياكل الداعمة أن تصمد في وجه “حالة الطوارئ” التي ما عادت طارئة؟
تواجه المطابخ الجماعية، في مناطق عديدة من السودان، تهديدات بتوقف عملها بين حين وآخر، وبات من المعتاد أن يرسل أحد المطابخ من شرق النيل أو جنوب الحزام أو مدينة بحري مناشدة عاجلة للدعم. وعلى النحو ذاته تعاني المطابخ الجماعية التي أنشئت في دور الإيواء بولايات الجزيرة وسنار والقضارف وكسلا، وبات عملها مهدداً أيضاً بسبب شح المواد الغذائية وامتناع الجانب الحكومي عن دعم المطابخ التي تقع تحت سيطرته، بل وأحياناً إعاقة عملها، بينما يتفاقم الوضع في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع بولايات الخرطوم ودارفور وكردفان بسبب اشتداد الحرب وانقطاع الطرق.
صمود رغم الصعوبات
في بحري تزايد عدد المستفيدين من المطابخ الجماعية، بسبب ندرة المواد الغذائية، أو فقدان الدخل، إضافة إلى أن غياب وضعف شبكات الاتصالات منذ فبراير الماضي، حدّ من القدرة على استلام الأموال عن طريق التطبيقات البنكية، خاصة بالنسبة للأسر التي تستقبل المساعدات المالية من ذويها خارج البلاد.
متحدثاً لـ “أتَـر”، يذكر عبد الغفار عمر، وهو أحد الناشطين الطوعيين في تمويل المطابخ الجماعية ببحري، أن بعض التكايا تعرضت لعمليات نهب ومضايقات للمتطوعين في هياكلها، مما دفعهم لشراء كميات أقل من المواد الغذائية، على الرغم من أن ركود مياه الأمطار قد تسبب في قطع الطرق بين بحري وأسواق شرق النيل، المصدر الرئيس، الذي يستجلبون منه الغذاء؛ فضلاً عن الصعوبات التي يواجهونها في الحصول على الأذونات من طرفي الحرب في الطريق إلى الأسواق ومن ثم العودة. وأشار عمر إلى عمليات نهب للمواد التموينية قد حدثت بجنوب بحري والدروشاب والسامراب.
بأم درمان، في حي ود البنا، ظل مسيد شيخ الأمين، يعمل رغم الصعوبات. متحدثاً لـ “أتَـر”، يؤكد شيخ الأمين إنهم يواجهون صعوبات كبيرة في إطعام الأعداد المتزايدة للمحتاجين في مناطق الحرب، وأنهم رغم ما ظلوا يقدمونه ويبذلونه من جهد لكنهم لم يستطيعوا تغطية جميع المحتاجين للإطعام. ويروي حوادثَ مأساوية مرت بهم خلال شهور الحرب: “بلغنا أن هناك أسرة تحتاج إلى الغذاء ولا تستطيع الوصول إلى المسيد، وحينما ذهب المتطوعون إلى البيت وجدوا جميع أفراد الأسرة قد قضوا جوعاً”.
وتدير الناشطة الطوعية سوهندا عبد الوهاب مطبخ الجمعة بشارع الوادي بأم درمان، لكنه توقف حيناً من الوقت قبل أن يستعيد نشاطه مرة أخرى. وتمتد صفوف طالبي الطعام خارجه لأكثر من كيلو متر. ويقدم المطبخ وجبة أسبوعية للأسر.
الخطة "ب"
تصف وئام الطيب الفاضل من لجنة طوارئ كسلا، الأوضاع بالولاية بأنها باتت في غاية البؤس عقب نزوح أعداد جديدة من ولاية سنار، خصوصاً أن حكومة الولاية لا تقدم أي دعم للمطابخ، بل إنها كثيراً ما فكرت بإغلاق دور الإيواء، التي تعتمد على نحو أساسي على مجهودات الخيرين ولجان الطوارئ والمنظمات الطوعية.
متحدثاً لـ “أتَـر”، قال الماحي عبد الله أحمد مدير مكتب الخدمات في غرفة طوارئ كسلا، إن النشاط الحالي لمكتب طوارئ كسلا، يتمثل في توزيع معينات على النازحين بدور الإيواء، إضافة لعمل المطبخ المركزي.
وتدير غرفة طوارئ كسلا مطبخين بشرق وغرب القاش، يغطي كل منها عدداً من المراكز بواقع 7 دور إيواء. وتقع المطابخ المركزية بالمدرسة الأهلية واتحاد الصم بمنطقة الحلنقة شمال.
وحول طريقة العمل يوضح الماحي، أن لدى المطابخ المركزية جداول للوجبات يجري تغييرها يومياً. أما المشكلات التي تواجههم فتتعلق بندرة المواد الغذائية وتذبذب أسعارها، خاصةً مع تدفق أعداد النازحين من ولايتي سنار والجزيرة بعد وصول الحرب والموت مدنها وقراها.
هذا المزيج المرعب، زيادة أعداد النازحين، وشحّ الموارد، وانغلاق الطرق تسبب في توقف المطابخ في كثير من الأحيان. يقول الماحي: “إنه أمر اعتدنا على حدوثه بانقطاع المواد والأموال في ذات التوقيت، لذلك لدينا دائماً الخطة (ب)، إذ نناشد الخيرين بصفحة غرفة طوارئ كسلا بالوسائط، إضافة إلى الاتصال بالشركاء من الفاعلين والتجار الذين نتعامل معهم بالسوق، حتى نعيد تشغيل المطبخ. أيضاً نسعى إلى الدعم الشعبي من المواطنين وهم رصيد جيد لنا، وكثيراً ما يستجيبون، وكثيراً ما نلجأ إليهم في أوقات الطوارئ القصوى، فيمدوننا بالمواد التموينية“.
المواطن شرف الدين المقيم بدار إيواء مدرسة حي العرب الابتدائية مربع 12، بكسلا يصف الوضع الغذائي بمراكز الإيواء بالجيد، لكن يحدث شحٌّ في بعض الأحيان، خاصة مع زيادة عدد النازحين من ولاية سنار، وتعمل غرفة طوارئ كسلا على تلافيه بتقليل ما تقدمه للأفراد، لكن حتى ذلك لا يكفي، إذ ينقطع التوريد لأيام قليلة أخرى. ويضيف في حديثه لـ “أتَـر”، أنهم ليس لديهم مصادر دخل، لذا يعتمدون في حال توقف المطابخ على الأهل والمعارف المغتربين عادةً.
“بعد أن تركنا ديارنا وأموالنا هرباً من الحرب لا ملجأ لنا غيرهم”، يقول شرف الدين.
نوتة
في منتصف أغسطس الجاري، أعلنت غرف طوارئ مدينة بحري عن توقف 67 من أصل 81 مطبخاً جماعياً تديره الغرفة عن العمل، بسبب العجز المالي وتوقف التبرعات والمنح، لكنها عادت وقالت إنه بتاريخ 18 أغسطس عادت 75 تكية في قطاعات مدينة بحري الأربعة للعمل، لتقديم وجبات الفطور أو الغداء أو الاثنين معاً أحياناً لـ ٣٥ ألف مستفيد يومياً.
لا بدّ من حلّ
قد يصل الأمر إلى أن تعلن عديد من المطابخ إغلاقها لانعدام التمويل وانقطاع المواد الغذائية من أسواق الخرطوم وشحها بالولايات الأخرى، كما بلغ الحال بالبعض إلى مرحلة طهي أوراق الشجر واستخدامها كطعام مثل ما حدث بجنوب كردفان، بل وصل الأمر لأن يموت الأطفال جوعاً أمام ذويهم دون أن يستطيعوا تدبير الطعام لهم؛ ومع ذلك ما زالت حكومة بورتسودان تنكر المجاعة.
وألقت الدكتورة هادية حسب الله مديرة منظمة الحارسات التي أطلقت مبادرة للتنبيه للجوع بالسودان، باللوم على العالم الخارجي، وقالت إنه لم يقدم إلا 20% من التزامه بإغاثة المتأثرين بالحرب، على حد قولها، رغم علمه أن طرفيها لا يهتمان بالمواطن السوداني، وقالت في حديثها لـ “أتَـر”، إنه لا مجال للمباصرة والتلتيق من بعد، ولا بد من حل الأمر جذرياً.
نبهت إلى الأمر عدد من المنظمات مثل منظمة الهجرة الدولية، ومنظمة اليونسيف التي قالت في تقرير إن قرابة 4 ملايين طفل دون سن الخامسة بالسودان يعانون من الجوع الحاد، بينما قالت منظمة أطباء بلا حدود فى تقرير لها من معسكر زمزم منشور على منصاتها، إن حوالي 30% من الأطفال الذين جرى فحصهم، يعانون من سوء التغذية الحاد، وهي نسب كبيرة لكنها أقل مما هو موجود في الواقع بحسب ناشطين يعملون على الأرض.
نوتة
قال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان، إن الأوضاع صارت كارثية عقب مرور 500 يوم على الحرب بالسودان، وإن حوالي 25.6 مليون شخص يواجهون الجوع الحاد، كما أكد المجاعة في مخيم زمزم للنازحين بشمال دارفور، وأن 755 ألف شخص في (مستويات كارثية) من الجوع. كما أصبح السودان يمثل أكبر أزمة نزوح بالعالم، فحوالي 9.7 مليون شخص نازحون داخل السودان، وحوالي 2.2 مليون شخص عبروا الحدود إلى البلدان المجاورة.
ورغم الأرقام المزعجة المنتشرة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ونداءات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بفتح مسارات إنسانية لإنقاذ المواطن السوداني من كارثة الجوع، إلا أن حكومة بورتسودان تنكر الأمر جملة وتفصيلاً. ورفض وزير الزراعة السوداني أبو بكر البشري في مؤتمر صحفي بالبحر الأحمر، البيانات الصادرة من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التي أكدت وجود 755 ألف شخص في مرحلة الجوع الكارثي، وقال إنه لن يُعلَن عن مجاعة حتى يجوع 20% من السكان، بينما لا تزال منصات الطرف الآخر قوات الدعم السريع تتهم القوات المسلحة بعرقلة وصول المساعدات الإنسانية لمناطق النزاع، في تبادل للاتهامات بين طرفي النزاع منذ اشتعال نيران الحرب.