
ساقت حرب السودان غداة اندلاعها في ولاية الخرطوم، كثيراً من أسر العاصمة إلى أقربائهم في ولايات السودان المجاورة للخرطوم. وكان لولايات الجزيرة ونهر النيل نصيبُ الأسد من موجة النزوح الأولى، حينما حمل النازحون من الخرطوم ما خفّ وزنه ظناً منهم بأن الإقامة لن تطول، وهو الاعتقاد الذي استقبَلت به كثير من الأسر في ولايات السودان المختلفة القادمين من الخرطوم، على أساس أنهم سيقضون بضعة أسابيع فقط حتى تضع الحرب أوزارها، ويحسم الجيش المعركة ويعود الأقارب إلى الخرطوم؛ فأقيمت الذبائح وفتحت الديار وقسمت الغرف، وفضّلت النساء الجلوس مع رفيقاتهن من بنات الأسرة بدلاً عن قسمة المنزل مع أزواجهن، وكذلك فعل الرجال. فصارت كثيرٌ من المنازل مقسمة ديواناً للرجال وآخر للنساء في تنظيم مؤقت لإقامة قصيرة أشبه بإجازات الأعياد والمناسبات الاجتماعية.
لكن سرعان ما تبيّنَ أن سيناريوهات حرب السودان لن تسير كما كان متوقعاً لها؛ فمع تزايد المعارك وتعقيدات المشهد الحربي وطول أمَده، أخذ كل شيء بالتغيّر تدريجياً. فبدأ تململ الأسر المستضيفة من أقاربها الوافدين، لا سيما مع زيادة النفقات المالية والارتفاع الجنوني في أسعار المنتجات الاستهلاكية، في ظل الانقطاع عن العمل، وتوقف وسائل كسب العيش لغالبية أرباب الأسر.
رويداً رويداً ظهرت أشكال المساومات غير المعلنة، كأن يكتفي صاحب الدار بالاستضافة في مقابل ترك مسؤولية الإنفاق على الضيوف. تروي إحداهن لمراسل “أتَـر”، أن زوج شقيقتها “قرَّش” ركشته وجلس عاطلاً في المنزل بعد أن رأى زوجها ينفق بسخاء.
وفي الجانب الآخر من المنزل “حوش النسوان”، تستعر حروب شرسة حول إدارة شؤون المنزل أو ما يُسمّى في عرف السودانيات “الخدمة”. لقد أصاب النساء ضيق ناتج عن توزيع المهام المنزلية، في ظل تبايُنهن في الاستعداد النفسي والبدني لأداء تلك المهام، وما ينعكس عليه من توتر العلاقات في تفاعل اجتماعي قد يكون طبيعياً ومفهوماً في دُور محدودة المساحات لم تكن مخصصة بالأساس لتحتضن عشرات الأفراد دفعة واحدة ولمدة طويلة من الزمن، مع الأخذ في الاعتبار اختلاف الثقافات والطبيعة والسلوك لكثير من قاطنات العاصمة واللائي لم يزر كثير منهن ولايات السودان من قبل.
حينما اندلع الصراع في نهايات شهر رمضان من العام الماضي، لم يكن بوسع خديجة وأسرتها، وهي أم لولدين وبنتين، سوى التوجه إلى مدينة ود مدني، حيث تقيم أختها الصغرى مع زوجها وبناتها. تحكي متحدثةً لمُراسل “أتَـر”: “للحق فقد أحسنوا وفادتنا بادئ الأمر، إلا أن المعاملة تغيرت بعد حوالي شهرين، رغم مساهمتنا المادية في منصرفات المنزل وحرصي على المساعدة في الأعمال المنزلية. وذات مساء أخبرتني شقيقتي بأن بناتها يشعرن بالضيق وانعدام خصوصية في الغرف وفي استعمال الحمامات، وأن ضيق المنزل لا يحتمل وجود أسرتين لمدة طويلة”.
تصف خديجة ما شعرت به حينها: “كم ضاق صدري، لذلك كفكفت دمعي وشرعت في جمع أبنائي وحاجياتهم فوراً فلا مبيت لنا هنا“.
مع ذلك، تُظهر الحياة كرمها ورحابتها بطرق غير متوقعة، تروي خديجة: “حينما رآنا جيران أختي نخرج ليلاً، عرضوا علينا الاستضافة في منزلهم حتى الصباح ريثما نرتب أمورنا“.
غير أن أحد أهم عوامل القلق والتوتر داخل البيوت السودانية في ظل الحرب، هو ما أصاب الأزواج من حرمان وبرود. إن غالبية الأزواج النازحين داخلياً وربما خارجياً لم يتيسر لهم أن يلتقوا اللقاء الحميم بسبب تعقيدات المسافة الاجتماعية التي فرضتها الحرب على من يعيشون تحت سقف واحد. ويقول الأطباء إن التوتر والقلق وثورات الغضب من أبرز التأثيرات السالبة للتوقف الطويل عن ممارسة العلاقة الحميمة بين الأزواج.
يقول عبد الواحد، متحدثاً لـ “أتَـر”: “انتقلتُ وزوجتي وأطفالي الثلاثة من حي الملازمين بأم درمان إلى منزل والد زوجتي بمدينة الدامر، وعند وصولنا إلى المدينة وجدنا أن شقيقها وأسرته قد وصلوا بدَورهم من الخرطوم هروباً من المعارك؛ فاقتسمنا المنزل ديواناً للرجال أقمت فيه مع شقيق زوجتي وابنه، بينما جلست زوجتي مع والدتها وشقيقتها وخالتهم المعلمة التي أتت هي أيضاً من منطقة حجر العسل. ومنذ ذلك الحين لم يتسن لي لقاء زوجتي اللقاء الشرعي سوى مرة واحدة بعد أن تبرع أحد الأقارب بمفتاح داره ذات نهار، في لقاء لم يتكرر بعد أن أحسّت فيه زوجتي بالحرج“.
قبل أقل من عامين، كان مهند عبد الله يسكن في حي المعمورة، يرتب لحياته شأنه شأن معظم الحي. كان في خضم التحضير لحفل زفافه في عيد العام 2023.
عقد مهند قرانه بدايات العام الماضي، وكان من المخطط أن يُتِمَّ مراسم زفافه في عيد رمضان. يخبر مراسل “أتَـر”: “أنا وزوجتي جيران في حي المعمورة بالخرطوم، وقبل أسبوعين فقط من موعد الزفاف اندلعت الحرب، فذهبت زوجتي مع أسرتها إلى القضارف وذهبت أنا مع أهلي إلى ود مدني، حينها اتفقت معها على أن لا نؤجل زفافنا، وأن نقيم دعوة مختصرة التكاليف ببيت أسرتهم في القضارف، ثم نرجع معاً إلى مدني”. يضيف: “قبل أن نُتمَّ ما اتفقنا عليه، اجتاحت قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة واضطررت للهروب مع أسرتي إلى بورتسودان، حيث استنزفت الإيجارات المرتفعة كل ما تبقى من مدخراتي. ولم يعد بإمكاني سوى أن أطلب من عروسي صرف طقم الذهب لأتمكن من السفر إلى إحدى دول الخليج طلباً للرزق”. يضيف مهند: “لولا الحرب اللعينة لكان لدينا طفل الآن. نحن أزواج، لكن مع وقف التنفيذ“.
ومن مكان آخر في دول الخليج، تحكي “نازك” المُقيمة مع زوجها وطفلتهما في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، أن علاقتها قد ساءت مع زوجها، بعد قدوم شقيقاته من السودان للإقامة معهم هروباً الحرب. تروي نازك أن أخوات زوجها يُرينها فنوناً وأصنافاً مما سمّته “شغل النسابة” على حد تعبيرها، وأن زوجها صار يختلق “المشاوير” للهروب من المنزل بعيداً عن أجواء التوتر والمشاحنات. وتضيف نازك: “من حق زوجي أن يعيل شقيقاته، لكن في الوقت ذاته، فإن منزلي ليس فندقاً خمسة نجوم، وعليهن أن يتقاسمن معي الواجبات المنزلية خاصة أن لدي طفلة أرعاها“.
يضرب غسان يداً بيدٍ وهو يحكي أَسِفَاً، كيف أن إقامتهم في بيت جده بعد اندلاع الحرب صارت وبالاً عليه هو وزوجته. يقول “غسان” متحدثاً لـ “أتَـر”: “بعد دخول قوات الدعم السريع إلى مدينة أم روابة، انتقلتُ أنا وزوجتي وعدد من أقاربنا للعيش في منزل جدنا في مدينة “ربَك”، وقد كانت فرصة جيدة للقاء وللأنس مع أفراد أسرتي الممتدة، إلا أن استعراض ذكريات الماضي بما فيها من قصص طريفة ومضحكة، قد أثار حفيظة زوجتي التي لم يطفئ نار غيرتها سوى رحولنا من دار جدي إلى منزل مجاور؛ رحول سبب شرخاً في علاقتي ببعض أفراد أسرتي“.
ويعتقد “علي عمر” أن عودته إلى “القولد” شمالي البلاد، لم ترُق لشقيقه الوحيد الذي انفرد بمنزل الأسرة بعد وفاة والديهما. يقول “علي عمر” متحدثاً لـ “أتَـر”: “منذ أن وصلنا إلى القولد أنا وأسرتي، رحَّبَ بي شقيقي ودونما مناسبة قال لي: صحيح هذا منزلك قانوناً مثلما هو منزلي، لكن عليك أن تعلم أنني أنفقت كثيراً من الأموال على إصلاحه وترميم أجزائه”. يقول “علي عمر”: “إننا لم نكن في حاجة لهذه الكلمات، فلم نأت لاسترداد حق مشروع، لكنها أيام من حقّنا أن نقضيَها في منزل والدنا إلى أن تنكشف هذه الغمة“.
ولم يسلم الحال أيضاً من بعض الظواهر السالبة، ففي كسلا، يحكي “حاج أحمد” مسؤول اللجنة الشعبية بأحد الأحياء، عن بعض حالات للتحرّش الجنسي ضد الأطفال داخل أسوار بيوت الأسر الممتدة، وكيف أن ظروف الحرب قد جمعت بعض الأقارب من الدرجة الثانية في منزل واحد مع أطفال قُصَّر؛ اجتماعاً ما كان له أن يحدث لولا الظروف التي تمر بها البلاد.
لكن دكتور “وليد الطيب”، أستاذ علم الاجتماع بجامعة أفريقيا العالمية، يذكّر بالوجوه الأخرى لهذا الواقع عند تحليله الارتدادات الاجتماعية لاستضافة الأسر السودانية لأقاربهم من النازحين. يقول متحدثاً لـ “أتر”، إنه من الضروري النظر في حالة المجتمع بعين العدل والإنصاف أولاً، لأن الظواهر السالبة عادة تحظى باهتمام المجال العام باعتبارها خروجاً عن المألوف والغالب، وهو كذلك في مجتمعنا السوداني، فمئات الآلاف من الأسر السودانية عادت إلى المدن الإقليمية وإلى القرى ووجدوا ترحاباً وعوناً حقيقياً في ترتيب أوضاعهم والاستقرار، سواءٌ أكان ذلك بتخصيص جزء من منزل الأسرة للأسر الوافدة أم بإحياء بيوت آبائهم وأجدادهم التي هجروها لعقود. وقد امتد خير المجتمع المستضيف إلى دُور الإيواء توفيراً لبعض مقومات الحياة. كذلك أفسحت الأسواق مجالاً للوافدين لدخول دائرة عمل جديد حتى ولو عبر مهن هامشية دون تضجر. يضيف الطيب: “رأينا زيجات عديدة بين المجتمع الوافد والمجتمع المستضيف، فكأنما كانت العودة إلى الديار فرصة للتعارف واكتشاف الحياة والإنسان في الأقاليم“.