أتر

الكِدّ: جغرافيا الغرق في السودان!  

نوتة

الكِدّ كلمة نوبية تعني الغرق، استُخدمت كثيراً في الشعر النوبي لوصف أحداث الغرق الكبرى، مثل أحداث غرق حلفا بعد بناء السد العالي، مثلما استخدم الشاعر النوبي مكي علي إدريس المفردة كثيراً في قصيدة السدّ، وهو يسرد ما قد يفعله سدّ كجبار من إغراق القرى النوبية المحيطة بالموقع. آي كِدّوسو تعني أنا أغرق. ربما كلّ سدّ هو كِدّ. 

في الثانية صباحاً من يوم 25 أغسطس، وبعد هطول أمطار غزيرة اليوم السابق، ازداد الضغط على جسم سدّ أربعات في ولاية البحر الأحمر، الذي يحتوي على أقل من 5 ملايين متر مكعب من المياه، وتبلغ سعته الكلية 16 مليون متر مكعب. وتسبب تراكم الأطماء طوال سنوات إنشائه قبل حوالي 20 عاماً، في زيادة معدلات الترسيب. وحسب المهندس الجيولوجي كرم الدين حسين، فإن إنهيار سد أربعات ليس أمراً مفاجئاً لمن يعلم حجمه وكمية الطمي التي يرسبها كل عام، خاصة مع صعوبة إصلاحه وتجريف الأطماء منه. 

ينحدر خور أربعات من الجبال الواقعة في اتجاه الشمال الغربي من مدينة بورتسودان، ويصب في شمالها مكوناً دلتا صغيرة. يُعرف عن هذا الخور أنه يتبوأ المرتبة الثانية بعد خور بركة من حيث الإيراد المائي. ندرك هذه الحقيقة، متى علمنا أن منابع هذا الخور العليا تنحدر من إحدى الكتل الجبلية التي يبلغ ارتفاعها  1500 متر فوق سطح البحر. تشمخ قمتان من هذه الكتلة وهما جبل باواتي Bawati وتصل قمته إلى 1726 متراً، وجبل أودا Oda وترتفع قمته إلى 2246 متراً. 

أدّت كارثة انهيار سد خور أربعات إلى انهيار 148 بئراً في منطقة “عدلاويب”، بينما تبقت في منطقة أربعات الزراعية بئر واحدة. وتنتج البئر حوالي  40 تنكر مياه في اليوم، أي ما يعادل 160 طناً. 

وقالت المسؤولة بوزارة الصحة الاتحادية ولجنة طوارئ الخريف، دكتورة أحلام عبد الرسول، لمراسل “أتَـر” بولاية البحر الأحمر، إن هنالك أربع حالات وفاة مؤكدة، بينما بلغ عدد المصابين الذين أسعِفوا 122 شخصاً. وأكد مصدر آخر من القيادات الأهلية، أنهم أسعفوا حوالي 235 شخصاً. وكان مركز صحي “تكويلي” قد استقبل 30 حالة كسور وجروح، مع العلم أن المركز يعاني من نقص في الخدمات. وبلغت خسائر الماشية  300 رأساً، إضافة إلى خسارات لأصحاب البساتين والمزارع. 

وحسب تحديث أعده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن السلطات المحلية، قالت إن عدد ضحايا انهيار السد قد  يتجاوز الثلاثين شخصاً، وإن حوالي 70 قرية حول سدّ أربعات تأثرت بالفيضانات المفاجئة، ودُمرت 20 قرية منها.  

ولم يتمكّن ممثلون لحكومة ولاية البحر الأحمر وإدارة الطوارئ بوزارة الصحة الاتحادية ومفوضية العون الإنساني التابعة للحكومة من الوصول إلى القرى الواقعة على الضفة الشرقية بسبب انقطاع الطرق. وقالت السلطات إنه من بين 13 ألف أسرة (حوالي 65 ألف شخص) تعيش إلى الغرب من سد أربعات، دُمرت أو تضررت منازل حوالي 10 آلاف أسرة (50 ألف شخص).

القرية عدد الوفيات عدد المفقودين
قرية كلسيب 3 وفيات مفقود واحد
قرية عدل أو يب 4 وفيات مفقودان
المهناب وتابو وأقويكان إصابات ومفقودون
منطقة ربعاييت وفيات 1 طفل عمر 9 سنوات
كيسبياي لم تُحصر لم تُحصر

في المجمل، تضررت أكثر من 40 قرية في منطقة أربعات، ويوضح الجدول أدناه ما رصده مراسل "أتـر" من الوفيات في القرى.

خريف مغاير وكوارث مختلفة

شهدت ولاية البحر الأحمر، خلال شهري يوليو وأغسطس، أمطاراً عديدة ومتباينة. ففي هذا الوقت من العام يبلغ الصيف ذروته، وتزيد درجات الحرارة والرطوبة معاً. وبالنظر إلى تضاريس البحر الأحمر، فإن الخيران تتجه من أعلى التل إلى السهل الساحلي، حيث تتشكل دلتاوات عند السهل. وأغلب تلك الخيران يندفع ماؤها خلال فصل الشتاء، وتتساقط المياه في أعالي التلال، وبعضها يبلغ البحر، والآخر يشكل دلتا في مناطق منخفضة. 

يقول المهندس الجيولوجي حسين: “لا يمكن فصل أزمة أربعات عن خور بركة. ومتى علمنا أن السبب من قيام السد هو توفير المياه، سنعلم أن هنالك ضرورة لإعادة التفكير في كارثة أربعات وطوكر، كحلٍّ لمعضلةٍ تغيب عن نظر حكومات السودان منذ السبعينيات. فحصيلة خور بركة من المياه في العام الواحد حوالي 48 مليون متر مكعب؛ أي أن حصاد المياه التي تهطل على الكتلة الجبلية بشمال غرب بورتسودان يتقاسمه خور أوكو Oku مع خور أربعات، وكما ذكر آنفاً ينحدر خور أوكو شمالاً في اتجاه مثلث حلايب“. 

ويعدد المهندس أيمن البشرى لشبكة “أتَـر”، مشكلات أخرى في خور أربعات غير الأطماء، أحدها قيام السد في منطقة شديدة الانحدار، ما يتسبب في ترسيب كميات كبيرة من الطمي؛ كما أن قربه من البحر يزيد من سرعة وقوة اكتساحه المزارع والقرى خاصة مع وجود مياه مخزنة بحجم (5 ملايين متر مكعب). هذا الوضع أشبه بوضع قنبلة زنة 5 أطنان من المتفجرات، ودفعها للسهل الساحلي. 

صورة تظهر سد أربعات قبل الإنهيار

صور تظهر سد أربعات بعد الإنهيار

بركة: نقمة طوكر السنوية

في كل عام يأتي خور بركة حاملاً معه الطمي الخصيب من “لعلو” إلى “كبسا”، جاعلاً من طوكر أرض ميعاد لم تكتشف بعد. وبسبب سياسات التنمية غير المتوازنة والفساد الحكومي، صارت شجرة المسكيت بديلاً للوز القطن، ولم تبق سوى أرض تزرع سنوياً بمحصول الطماطم الذي ينتهي به الحال إلى حظائر الأنعام. 

تحولت طوكر إلى مدينة منسية، بعد أن كانت أسعار القطن تحدَّد منها عبر الهاتف إلى لندن. حسب حديث هداب، وهو أحد الباحثين في إرث شرق السودان، فإن طوكر رمز لزراعة القطن والتنمية، كما أنها دالة على بؤس ما انتهت إليه مؤسسات الدولة السودانية. 

يجري خور بركة في المدة من يوليو إلى سبتمبر، في سيول متقطعة قد تتراوح فترة جريانها من يوم إلى يومين، ويمكن أن يصل عدد السيول فيه إلى عشرين سيلاً. ويبلغ  حجم إيراد خور بركة السنوي بين  200 مليون متر مكعب ومليار متر مكعب، أما متوسط الإيراد فيُقدّر بحوالي نصف مليار متر مكعب سنوياً. 

بلغ عدد ضحايا فيضان 2024 حوالي 14 شخصاً، قد يزيدون حسب حديث  صالح حسن وهو طبيب مساعد في مدينة طوكر. ويقول أحمد إبراهيم، متطوع من سكان مدينة طوكر، إن الضرر في المدينة بنسبة 100% من الحي الأول وحتى الحي العاشر. المنازل المتضررة كثيرة جداً ولا تُحصى، تقريباً 95% منها انهارت”. 

وعن وضع السوق يقول أحمد إبراهيم، إنه تضرَّر لكن ليس بشدة المنازل والأحياء. وإضافة إلى الوفيات، يقول إن المفقودين كُثر لكن لم يجرِ حصرهم بعد. 

ويقول إبراهيم مصطفى، ناشط سياسي في المدينة، إنه في الساعة العاشرة من ليلة الأحد 25 أغسطس، اقتحمت المياه المدينة من ثلاثة اتجاهات على مستوى بالغ الارتفاع، يفوق فيضان عام 2020، مضيفاً أن “أكثر من 20 ألف منزل انهار كلياً، كما انهارت مجموعة من المتاجر والأفران جزئياً. أما المواطنون، فهم عالقون فوق الجسور، ولا توجد مياه صالحة للشرب، وأغلقت جميع المستشفيات. بينما بلغت حالات الوفاة 13 حالة، وهناك مفقودون لم يجرِ حصرهم”. 

يقول أمين الشيخ، المدير التنفيذي لمحلية طوكر، إن الوضع الإنساني في المدينة كارثي. وأخبر “أتَـر” بأن “الوضع بالغ الخطورة بعد اجتياح فيضان نهر بركة مدينة طوكر من كل اتجاه، مما أدى إلى تدمير كامل البنية التحتية للمؤسسات الخدمية وخروجها عن الخدمة، وانهيار جزء كبير من المدينة، وعزلها كلياً عن الطرق التي تربطها بما حولها“. 

ومع انعدام المخزون الاستراتيجي للسلع الغذائية، وتوقف الخدمات العلاجية، تتفاقم معاناة المواطنين العالقين داخل طوكر. ويحتاج سكانها إلى تدخل عاجل، لإيصال الأغذية والمؤن الإيوائية لآلاف العالقين الذين يصعب الوصول إليهم بسبب قطع الطريق الرئيسي الداخل للمدينة. 

بالعودة إلى العلاقة بين فيضان نهر بركة وانهيار سد خور أربعات، فإنه يتعين إعادة التفكير في الضروريات التي قام على أساسها سدّ أربعات الذي انتهى عمره الافتراضي بالفعل. وبكل تأكيد، لا يوجد سد صخري في العالم يمكن أن يصمد لأكثر من نصف قرن. 

في جلسة حوار عقدتها مجلة “أتَـر” عبر Google meet، ضمّت سبعة من الجيولوجيين من جامعات سودانية مختلفة، قال الجيوفيزيائي أحمد محمد: “إذا نظرنا إلى وضعية السدود عموماً في ولاية البحر الأحمر، سنجد أعمارها الافتراضية تتراوح بين 15 إلى 20 عاماً، ولا يمكن لأي سدّ، حتى تلك التي لا تعاني مشكلات ترسب كبير للطمي، أن يصمد أكثر من هذا الوقت“. 

طرحت “أتَـر” سؤالاً على المشاركين في الجلسة، عن الكيفية التي يمكن أن نجعل بها من انهيار سد أربعات فرصة لإيقاف فيضان خور بركة؛ فاتجهت جُلّ الآراء حول إمكانية إعادة التفكير في الضروريات التي أقيم على أساسها سد أربعات، وكيف يمكن أن تستغل فرصة انهياره لتعزيز التنمية في المنطقة، خاصة وأنها أراضٍ زراعية خصبة ويمكن أن توفر سبل عمل لكثيرين، إضافة إلى إنعاش السوق المحلي للمدينة. وأشاروا إلى ما تقدمت به الدراسة التي أجرتها “Rhine Ruhr” في العام 1988، وهدفت إلى  نقل المياه من حوض بركة.

ديل راحو!

يجعل منخفض الهند الموسمي السحاب ذا مقدرة على عبور التلال والاتجاه إلى اليابسة. وقد تأثرت ولايتا الشمالية ونهر النيل بموجات من السيول والأمطار في الفترة الأخيرة. وبالنظر إلى خارطة توزيع الأمطار والسحب التي عبرت بعض مناطق نهر النيل، فإن الأجزاء الجنوبية الغربية من الولاية تأثرت على نحو أكبر من شمالها. وقد أعادت الخيران التي اختفت منذ عشرات السنين، جريانها مجدداً، وتهدم معظم أجزاء حي الإنقاذ، بجانب السكة حديد والحظيرة، بمدينة كريمة نتيجة للسيول التي اجتاحتها. 

عند الثانية من صباح يوم 25 أغسطس، وصلت العاصفة إلى قمتها فوق سماء مروي في بعض أجزاء المحلية. لم تكن الأمطار بذات المقادير التي هطلت في مناطق مثل تنقاسي والقرير وكورتي. بينما لم تتضرر مناطق الحمداب ونوري على نحو بالغ. في تنقاسي جرت الخيران كعادتها، إلا أن كمية المياه القادمة تفوق قدرة الخيران على توجيه المياه مما يؤدي إلى انحرافها. 

في القُرير، دمرت المياه مئات المنازل والأراضي الزراعية. وبحسب أحمد محمد يوسف، من سكان المنطقة، فإن الأمطار هي التي أثرت على المواطنين وأملاكهم، وليس السيل، نسبة إلى التحولات التي أثرت على مجراه الرئيس. فقد استمرت الأمطار لفترة تصل ثماني ساعات، وتسببت في أضرار كلية وجزئية للمنازل.  

Scroll to Top