
انقطع الطريق الذي يربط مدينة سنار بولاية النيل الأبيض، بدخول قوات الدعم السريع إلى منطقة جبل مويا الاستراتيجية، وسرعان ما أتبعتها بدخول مدينتي سنجة والدندر، لتقطع الطرق الرابطة بين سنار وولايتي النيل الأزرق والقضارف؛ فباتت سنار والقرى شرقها، معزولة، إلا من بعض الطرق الوعرة، وقد زاد هطول الأمطار من وعورتها. ومنذها يقاسي سكان المدينة تحت ظروف غياب خدمات الكهرباء والاتصالات والمياه، وندرة في السلع الغذائية والوقود، وشح الأدوية والخدمات الصحية.
أمل الكهرباء لم يكتمل
أدى الظلام الذي كانت تعيشه مدينة سنار وقراها، بسبب انقطاع التيار الكهربائي منذ نهايات يونيو الماضي، إلى التفكير في إعادة التوليد من خزانها المتوقف منذ سنوات، عبر جهد مُضنٍ بذله فريق من الفنيين والمهندسين من أبنائها، ممن عملوا في قطاع الكهرباء منذ سنوات، سواء أكانوا ممن تركوا العمل متجهين إلى أعمال خاصة، أم من أحيلوا إلى التقاعد منهم.
تنادى الفنيون والمهندسون إلى العمل، وأعادوا تشغيل توربينة رئيسة، أنتجت 4 ميغاواط، نالت منها ترعة عريديبة وحدها 3 ميغاواط، والمتبقي للمستشفى والسوق وحامية الجيش والتوليد نفسه، ولاحقاً محطات المياه والأحياء السكنية.
ورغم وجود بعض قطع الغيار بالصدفة، إلا أن ظروفاً قاسية تطلبها العمل، كما يقول أحد المهندسين العاملين في الفريق لـ “أتر”، ويمضي متحدثاً: “كهرباء خزان سنار متوقفة لأكثر من سبع سنوات، حتى تولي حكومة الفترة الانتقالية عقب ثورة ديسمبر 2018، فقد أولت قطاع الكهرباء أهمية قصوى، فتعاقدت مع كبرى الشركات العالمية في مجال الكهرباء، وبدأت عملها في بورتسودان والشمالية وعطبرة ودنقلا، وكان لسنار وخزانها أيضاً نصيب، وتعهدت الشركة بأنها في سنة ونصف سوف تسلم الولاية 3000 ميغاواط، مع العلم أن الفاقد 1500 ميغاواط”.
نوتة
خزان سنار أنشئ في عام 1926 لريّ الأراضي الزراعية في مشروع الجزيرة، وإنتاج الكهرباء، وهو أقدم السدود المائية التي أُقيمت في السودان، ويُستفاد من المياه المخزنة ببحيرته في توليد الطاقة الكهربائية الهيدروليكية، وتُقدر إنتاجيتها بحوالي 14 ميغاواط وتغطي أكثر من 80% من استهلاك الولاية، ويُغطى العجز الطفيف من الشبكة القومية للكهرباء في السودان، وانتهت صلاحية استخدامه منذ سنوات فبات جسراً للسيارات والقطارات.
“أحضرت الشركة الماكينات الجديدة، وأخرجت القديمة، لكن أنهى انقلاب 25 أكتوبر 2021م كل أمل، وعادت الشركة أدراجها، والماكينات الجديدة والقديمة بقيت موجودة دون تركيب”، يقول المهندس.
أدى قصف الطيران على مدينة سنجة، بعد دخولها من قبل قوات الدعم السريع، إلى ضرر بالغ أخرج كل المحولات عن الخدمة، إذ كانت المحولات تعمل على ربط التيار الكهربائي القادم من خزان الروصيرص، لإمداد مدينة سنار، ومنها إلى مدينة ربك بولاية النيل الأبيض.
يقول أحد الفنيين بالفريق العامل متحدثاً لـ “أتر”: “وصلت الكهرباء إلى حوالي 80% من أنحاء سنار، وسيجري توصيلها إلى بقية الأحياء، فالاستهلاك قليل بسبب توقف المصانع والبنوك والشقق الفندقية والمستشفيات الخاصة، وجميعها خرج من الخدمة وكانت أحمالها ثقيلة جداً، أما الأحياء السكنية فاستهلاكها قليل، ويمكننا إعادة خدمة الكهرباء إلى أنحاء المدينة الأخرى بارتياح، لكن في حالة عودة البنوك وجميع المؤسسات الحكومية والشقق الفندقية، يتطلب التوزيع على الأحياء عملية ترشيد”. ويمضي مفصلاً: “الخط الساخن للمياه والمستشفى والطواحين والعصارات، ومن المقدر ألا ينقطع تياره لمدة 24 ساعة في حال عودة المؤسسات، والآن الثلاجات كلها متوقفة، والطواحين قليلة العدد، والعصارات العاملة الآن بالسوق اثنتان تقريباً، وبالتالي يمكن أن تكفي الكهرباء المولدة جميع أحياء سنار إلى حين إشعار آخر“.
نشاط يعود إلى السوق
أعاد تشغيل الكهرباء بالمدينة النشاط الحيوي الذي افتقده السوق، واستقبلها السكان بفرحةٍ غامرة، ونشطت حركة المخابز التي توقف أغلبها بسبب الكلفة الباهظة للوقود، إذ كان يضطر أصحابها لدفع ما يقارب نصف المليون جنيه سوداني كل ثلاثة أيام لتوفير الوقود، مما أدى إلى ارتفاع سعر الخبز إلى الضعف، وزاد سعر طحن الذرة بالطواحين ستة أضعاف، وتخوف أصحاب الجزارات من فساد لحومهم إن أكثروا من الذبيح مع توقف الثلاجات، ومثلهم أصحاب الخضر والفاكهة.
انتعشت حركة الحياة بعودة بعض الأسعار إلى سابق عهدها، خاصة في الطواحين. هبط سعر تدقيق الكيلة من 6 آلاف جنيه إلى 4500 جنيه، وهو ما أثر على معيشة سكان سنار، خاصة وأن الغالبية العظمى منهم يعتمدون في غذائهم على طحن الذرة، وهناك من يضطر إلى السير لمسافات طويلة بحثاً عن مخبز يعمل. ونظراً لأن التيار لم يصل القرى شرق سنار، يضطرون إلى الذهاب عدة كيلومترات للوصول إلى السوق لطحن الذرة.
باتت الهواتف الجوالة تمثل قيمة كبيرة بالنسبة للمواطنين، إذ عبرها تُجرى التحويلات المالية من الخارج، بعد فقدان كثيرٍ من المواطنين مصادر دخلهم بسبب الظروف التي تعيشها البلاد، ولذا لا بد للهاتف أن يكون مشحوناً على الدوام، لاستقبال التحويلات البنكية.
أجبرت هذه الأوضاع المواطنين، على البحث عن حلول لشحن هواتفهم، حتى يكونوا على اتصال بالعالم، ومن ثم تدبير معيشتهم. كانت الأفران ملاذاً لسكان سنار، يقصدونها منذ ساعات الفجر الأولى، كلُّ يحمل شاحن الهاتف لتوصيله بالكهرباء؛ فضلاً عن أن كثيرين ممن امتهنوا بيع الرصيد، وتقديم خدمة التحاويل المالية عبر الهاتف، يقضون أوقاتاً طويلة من اليوم في البحث عن وسيلة للشحن.
نوتة
المولدات التي كانت تشغل الأفران، أسهمت في تلف بطاريات الهواتف، التي صُمّمت لتــشحن بتيار متردد AC، بينما التيار الناتج من المولدات هو تيار مباشر DC.
أدت عودة الكهرباء وما تبعها من آثار، إلى ارتفاع كبير في حجم توقعات المواطنين بأنها ستعم جميع المنطقة، رغم أنها تدرجت بالسوق والمستشفى وعدد من الأحياء، وبنسبة 80% حسب أحد أعضاء فريق العمل، حتى أن ذلك ساهم في استقرار شبكة سوداني وهي الشبكة الوحيدة التي تعمل في سنار؛ لكن لم يطل الأمر، فبعد ثلاثة أيام بدأت القطوعات مرة أخرى، وفوجئ بها الناس يوم الاثنين الماضي حين قصدوا طواحين السوق ومعاصرها، فعادوا بخفي حنين، نتيجة انقطاع التيار الكهربائي.
دخول البضائع.. حسرة وإحباط
في يوم السبت الماضي، وعند الواحدة ظهراً سُمعت صافرات وزغاريد السكان، مختلطة بأصوات محركات الشاحنات، التي دخلت إلى المدينة لأول مرة منذ أكثر من شهر، نتيجة الحصار، حاملة بضائع تجارية كالسكر والزيت والدقيق ومواد غذائية أخرى.
رسمت البضائع ملامح الفرحة على وجوه سكان المدينة، بسبب الضائقة المعيشية التي شكلت مشهد الناس، نتيجة ندرة السلع وقلة الطرق المؤدية إلى سنار بسبب الأمطار، أو عدم الأمان، بعد سيطرة قوات الدعم السريع على الدندر والسوكي، وليس هناك من مدخل إلى سنار سوى طريق (كوبري دوبا) الواقع شرق المدينة.
نوتة
تحاصر قوات الدعم السريع محلية سنار والقرى شرقها من ثلاثة اتجاهات، وتبقت ناحية جسر دوبا فقط، وطريق زراعي تربته طينية لزجة، يصعب المرور خلاله عند نزول الأمطار. نتج عن الحصار، ارتفاع جنوني في الأسعار، حتى وصل سعر البصلة الواحدة إلى 1000 جنيه، بعد أن كان سعر جوال البصل قبل دخول الدعم السريع مدينة سنجة يبلغ 25000 جنيه، وبلغ كيلو السكر 7000 جنيه بعد أن كان 1500 جنيه، إضافة إلى ارتفاع أسعار الدقيق والوقود على ندرته، وصولاً إلى غلاء ملح الطعام، وانعدام الدواء وإغلاق المستشفيات الخاصة جميعها، ومغادرة الأطباء المدينة.
أرسلت القوات المسلحة، عدداً من الآليات الثقيلة لمساعدة الشاحنات على العبور إلى سنار، فنجحت مساعيها بعد أن فشل التراكتورات المستخدمة سابقاً في الأمر، بمقابل مادي يصل أحياناً إلى نصف المليون جنيه للشاحنة الواحدة، مما أدى إلى عزوف أصحاب الوابورات عن العمل في حراثة التربة لصالح إخراج السيارات من الوحل وهو عمل سريع وعائده كبير.
لكن لم تكتمل الفرحة. فقد قصفت قوات الدعم السريع المدينة، بعد ثلاث ساعات ونصف فقط من دخول شاحنات البضائع، فسقط إثر ذلك عدد من المواطنين، وصلوا إلى حوالي (20) قتيلاً على الأقل، بحسب مصادر تحدثت إلى مراسل “أتر”، وعدد كبير من الجرحى من المواطنين، بينهم أطفال.
يُضاف إلى مصاب القصف، أن وارد البضائع لم يحد من الغلاء، بل زاد أسعار بعضها خاصة سلعة الدقيق، ووصل سعر الجوال منه زنة 25 كيلو إلى مبلغ (75,000) جنيه، لكن رغم ذلك انخفض سعر السكر إلى 4500 جنيه للكيلو بعد أن كان (7,500) جنيه.