أتر

الحياة الجامعية في السودان: نزوح وكفاح وأمل 

تصوير الشاذلي محمد

تحت سماء ود مدني التي كانت يوماً ما ملاذاً آمناً، بدأت رحلة نزوح محمد شريف، الطالب في قسم العلوم البيئية (كلية العلوم والتقانة) بجامعة النيلين، بعد انتقاله من الخرطوم غداة الحرب إلى مدني التي كانت تعده بالأمان، ليُقرر مواصلة دراسته في جامعة الجزيرة. لكن سرعان ما تحولت ود مدني إلى ساحة حرب جديدة، مما أجبره على النزوح مرة أخرى، باحثاً عن مكان آخر لاستئناف مسيرته التعليمية. 

في مدني، لم ينحصر التحدي الأكبر الذي واجهه محمد وزملاؤه الطلاب في إيجاد مأوى أو موارد للمعيشة فحسب، إنما أيضاً في التكيف مع الواقع الجديد الذي يفرض عليهم العيش في أماكن جديدة، والتعامل مع تحديات أمنية واجتماعية مستمرة. في أزمنة الاستقرار، كانت إدارات الجامعات وصندوق دعم الطلاب تتحمل هذه المسؤوليات، موفرة للطلاب سكناً ملائماً ووجبات مدعومة. لكن الآن، أضحى كل شيء مختلفاً؛ ويتعيّن عليهم الاعتماد على أنفسهم في تأمين احتياجاتهم الأساسية، بينما يكافحون للحفاظ على تركيزهم الدراسي وسط الظروف القاسية. 

لا يقلّ التأثير النفسي للحرب على الطلاب عن تأثيرها المادي. يواجه محمد وغيره من الطلاب اضطرابات واكتئاباً يومياً، إذ تبدأ أيامهم وتنتهي على أصوات الرصاص والمدافع. ألقى هذا الضغط النفسي الهائل بظلاله على مستقبلهم المهني والأكاديمي، حتى أنّ محمداً بات فاقداً للحماس تجاه الدراسة. يخبر “أتَـر”: “لم توفر لنا مدني أي نوع من الدعم للأسف، والأدهى أن ميزانية الدولة طوال السنوات السابقة كانت تقتطع لمصلحة التسليح والأمن، ومع ذلك ها نحن نعيش في حرب لا نعلم متى ستنتهي. الجامعات الآن أصبحت معسكرات للجيوش، وشعوري بالانتماء إلى الجامعة والمجتمع الأكاديمي تلاشى تماماً.” 

ورغم تلك التحديات، يحاول محمد الاستفادة من أية فرصة لمواصلة دراسته، سواءٌ أكان ذلك عبر الحضور الشخصي في قاعات الدراسة أم من خلال الإنترنت، رغم ضعف البنية التحتية وانقطاع المواد الدراسية. “عطّلت الحرب أحلامي التي كنت أؤسس عليها مستقبلي“، يقول محمد، “لكنني سأواصل المحاولة حتى لو كان ذلك دون تركيز، فهي ظروف استثنائية علينا التكيف معها.” 

بين الصعوبات النفسية والاقتصادية والاجتماعية، تبدأ قصة الحياة الجامعية في السودان خلال الحرب: قصة نزوح، وكفاح، وأمل. 

مواصلة التعليم بعد النزوح

عثمان مختار، طالب في كلية الهندسة قسم الهندسة المدنية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، كان طموحه يوماً ما أن يتخرج فيها، لكن الحرب غيرت كل شيء. وجد نفسه مضطراً إلى مغادرة الوطن، باحثاً عن مكان آمن يكمل فيه تعليمه. هذه الرحلة التي فرضتها الحرب لم تكن سهلة، لكنها أصبحت نافذة جديدة لطموحاته. 

قرر عثمان الانخراط في المركز التعليمي التي افتتحته الجامعة التي يدرس بها، في القاهرة، في محاولة لمواصلة دراسته في تخصصه المفضل، الهندسة المدنية. يقول عثمان: “كانت الحرب هي الدافع الأول للنزوح ثم اللجوء إلى دولة مصر، لكنها لم تكن السبب الوحيد. كان لدي طموح للحصول على تعليم أفضل وشهادات أعلى، وكان عليّ أن أبتعد عن تحديات الأوضاع الراهنة في السودان.” 

التحديات التي واجهها عثمان لم تتوقف عند حدود اللجوء. كانت مسألة التكيف مع البيئة الجديدة هي العقبة الأولى التي واجهها، من حيث المكان والزمان والمجتمع. لكن رغم صعوبة التكيف، تمكن عثمان من مواكبة التغيرات والتأقلم مع المناهج الجديدة. يقول: “تجربتي التعليمية في الخارج كانت مختلفة تماماً عما اعتدت عليه في السودان، لكنني استطعت التكيف مع التغيرات. كان هنالك اختلاف كبير في المناهج والبرامج الأكاديمية، بما في ذلك التطبيقات العملية، والتي أضافت لي كثيراً من المعرفة والمهارات الحديثة.” 

ومع ذلك، لم تكن تحديات التعليم فقط هي ما يشغل بال عثمان. كانت مسألة السكن من أهم العقبات التي واجهها بوصفه طالباً لجأ إلى خارج وطنه. ومع محدودية خيارات السكن، وجد نفسه أيضاً في معركة يومية لتأمين احتياجاته الأساسية. 

أما عن مستقبله المهني، فيرى عثمان أن النجاح بعد التخرج يتطلب جهداً مضاعفاً، ولا ينبغي الاعتماد على شهادة التخرج فقط، إنما يتعين السعي الدائم لاكتساب مزيد من المهارات والشهادات المتخصصة، مما يزيد من قيمته المهنية وقدرته على المنافسة في سوق العمل. يشدد عثمان على أهمية تنويع الخبرات العملية من خلال التدريب والعمل المؤقت والمشروعات التطوعية، قائلاً: “هذه التجارب توسع آفاق التوظيف وتساعد على تطوير المسار الوظيفي.” 

إلى قاعات القاهرة

عندما قررت جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا نقل مبانيها وطلابها إلى مصر، كانت لنا محمد خالد من بين الطلاب الذين اضطرتهم الحرب إلى مغادرة وطنهم ومواصلة دراستهم في بلد جديد. لنا” طالبة في كلية الهندسة، قسم الكهرباء، بالمستوى الخامس، وجدت نفسها تواجه في مصر تحديات لم تكن تتوقعها، أضافت طبقات جديدة من الصعوبة إلى تجربتها الجامعية. 

في حديث مع مجلة “أتَـر”، شرحت “لنا” مشاعرها تجاه الانتقال المفاجئ الذي قلب حياتها رأساً على عقب. وصفت شعور الفقد والانتماء الذي كان يربطها بجامعتها في السودان، وكيف أن هذا الانتقال إلى مصر مثل تحدياً كبيراً، تاركاً خلفه فراغاً عظيماً في نفسها. لكنها، رغم الصعوبات، أدركت أن الضرورة تحتم عليها التأقلم مع الواقع الجديد، والبحث عن مجتمعات أخرى أو مصادر دعم خارجية للحصول على الدعم الاجتماعي والانتماء الذي فقدته. 

تحدثت لنا” عن البيئة الجامعية الجديدة التي واجهتها في مصر، إذ لم يكن التحدي مقتصراً فقط على الغربة، بل امتد ليشمل التعامل مع أساتذة جدد وطرق تدريس مختلفة تماماً عما اعتادت عليه في السودان. ورغم هذه التحديات، إلا أن “لنا” وجدت في البيئة الجامعية الجديدة ما يهون عليها قليلاً، ما يعكس قدرتها على التكيف والصمود أمام هذه التغيرات الجذرية. 

وعن الخطوة التي اتخذتها الجامعة بنقل الدراسة إلى الخارج، أبدت “لنا” تفاؤلها، معتبرةً أنها خطوة إيجابية ستحمل نتائج جيدة، وتوقعت أن يكون مستقبل التعليم الجامعي في السودان بعد الحرب أفضل بكثير، حينما يعود السلام إلى البلاد. 

نوتة

لم يصدر قرار رسمي من وزارة التعليم العالي، بفتح المراكز الجامعية خارج السودان، إذ تُرك المجال للجامعات لاتخاذ قراراتها في ما يتعلق بكيفية مباشرة طلابها للدراسة. بعض الجامعات لم تُباشر الدراسة، لكنها فتحت مبانيها مستأجرة إياها، لعدد من الجامعات والكليات النازحة من الخرطوم لمواصلة الدراسة، كجامعة كسلا 

في مصر عقدت بعض الجامعات سودانية، شراكات مع جهات مصرية لاستضافة الامتحانات، لطلابها الذي لجأوا إلى مصر، إذ تحولت الدراسة إلى إلكترونية، مثل جامعة الزعيم الأزهري، وأم درمان الإسلامية، السودان للعلوم والتكنولوجيا. ومنها جامعات استعانت بمدارس سودانية استأنفت عملها بالقاهرة كـجامعة المغتربين. 

ويتفاوت بدء تواريخ فتح المراكز الجامعية، بحسب تقدير كل جامعة لوضعها، لكن معظمها بدأت فتح مراكزها بالقاهرة في شهر فبراير 2024م. جامعات أخرى كجامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا استأجرت واشترت مباني خاصة بها بمصر وتنزانيا وروندا. 

أثرت الإجراءات التي فرضتها السلطات المصرية على المدارس السودانية بالقاهرة لتقنين أوضاعها، على العديد من الجامعات التي كانت تتخذ من تلك المدارس مراكز لطلابها، فلجأت بعضها مثل جامعة المغتربين وجامعة السودان وجامعة أم درمان الاسلامية إلى بيت السودان، ويتبع للسفارة السودانية لإقامة الامتحانات. 

عبادة مكي حسن”، طالب هندسة ميكانيكا بجامعة عين شمس في مصر، واحد من هؤلاء الطلاب الذين اختاروا الهروب من واقعهم المرير بحثاً عن مستقبل أفضل. 

كان “عبادة” قد أمضى سنوات في دراسة الهندسة بجامعة الخرطوم، محاولاً السير على خطى أحلامه، لكن الحرب وقفت بالمرصاد. مع مرور الوقت، شعر بالإحباط من التأخر في فتح المراكز التعليمية ومن عدم تواصل الجامعة لتحقيق متطلبات الطلاب. كانت وعود الجامعة تتوالى، لكن بلا نتائج ملموسة. ووسط هذا الجو من الخذلان، قرر “عبادة” أن يضع حداً لهذا الانتظار المرهق، وبدأ يبحث عن مخرج، حتى وجد فرصته بمصر، حيث قُبِلَ أخيراً في جامعة عين شمس، وبدأ رحلته الجديدة. 

في لقاء مع مجلة “أتَـر”، سرد “عبادة” بعضاً من أوجاع رحلته: “حاولت أن أستدرك ما فاتني من الوقت بعيداً عن الدراسة، لكن العمر يمضي، والوعود تتبخر مع الأيام. في النهاية، حسمت أمري ولجأت إلى الجامعات المصرية.” 

لم تكن عملية التحويل إلى الجامعات المصرية سهلة، بل كانت ممتلئة بالتحديات البيروقراطية التي واجهها “عبادة” في رحلته نحو تحقيق حلمه المؤجل. أوضح “عبادة” أن التحويل جرى من خلال منصة “ادرس في مصر”، وهي منصة تتطلب من الطلاب تعبئة 22 خطوة كاملة بمعلومات دقيقة. كان عليه تقديم شهادات (IGCSE) وشهادة (A-levels) كشرط أساسي للتحويل إلى كليات الهندسة والطب، إلى جانب شهادة القيد من جامعته السابقة وشهادات أخرى موثقة من السفارة السودانية ووزارة الخارجية المصرية. 

لكن العقبات لم تتوقف عند هذا الحد. واجه “عبادة” تأخيرات طويلة، بسبب عدم توفر بعض المتطلبات وانتظار الموافقة الأمنية، التي استغرقت شهرين كاملين. يصف “عبادة” عملية التقديم بأنها كانت مرهقة ومعقدة، وتتطلب كثيراً من الصبر والإصرار. 

ورغم الصعوبات، تمكن “عبادة” من اجتياز هذه العقبات بمساعدة بعض المجموعات التي تهتم بدعم طلاب (IG) في مصر؛ وأشار إلى أنه استفاد من هذه المساعدات في تقديم الطلبات والحصول على تخفيضات في الجامعات الخاصة، على الرغم من أن الوزارة لم توافق على ذلك. 

وعن تجربته في مصر، يعترف “عبادة” بأن الرحلة لم تكن سهلة، لكنها كانت ضرورية في ظل الأوضاع الراهنة في السودان، وسط التحديات والصعوبات. 

تحديات الأسر

تجد العديد من الأسر نفسها أمام قرارات صعبة ومصيرية تتعلق بمستقبل أبنائها. مكي حسن، والد عبادة، يروي لـ “أتَـر”، الدوافع التي اضطرتهم لنقل ابنه إلى الخارج ليواصل تعليمه: “لم يكن قرار إرسال ابني للدراسة خارج السودان نابعاً من رغبة في الابتعاد عن الوطن، إنما كان اضطرارياً ونابعاً من ضرورة قاسية فرضتها علينا الحرب. تعطلت الجامعات، وافتقدنا الأمان، واضطربت الخدمات الأساسية”.  

وأمام هذا الواقع، لم يكن لدى أسرة عبادة خيار سوى اتخاذ هذا القرار الصعب، لضمان استمرارية تعليم ابنها، حتى وإن كان ذلك يعني فراقاً مؤلماً. 

يشير مكي إلى أن هذا القرار لم يكن سهلاً على الإطلاق، فهو لم يكن يعني فقط إرسال ابنه إلى بلد غريب، إنما كان يعني أيضاً احتمال أن يبقى في ذلك البلد بعد التخرج، في حال استمرار الحرب، بحثاً عن فرص أفضل للعمل والاستقرار. “إنها لحظة قاسية على أي والد، أن يدرك أن ابنه قد لا يعود إلى الوطن قريباً. ومع ذلك، نعلم أن مستقبل أبنائنا هو الأهم، ولا بد من التضحية في سبيل ذلك.” 

يتحدث مكي عن التحديات المالية الكبيرة التي تواجهها الأسر النازحة من السودان في مثل هذه الظروف: “معظم الأسر لا تملك الموارد المالية الكافية لدعم دراسة أبنائها في الخارج. نحن نعتمد بشدة على مساعدات أقربائنا في الخارج لتغطية تكاليف الدراسة والمعيشة، وهذه الصعوبات تشكل عبئاً كبيراً علينا جميعاً.” 

Scroll to Top