تصوير المنذر الكمالي
في “عين على”، نسلّط الضوء على أوجه الموت المتعددة في مدينة أم درمان، قصف متبادل، وندرة وغلاء في لحوم الضأن مع شبح الجوع الماثل، ووبائيات تدبّ في شوارع المدينة ومساكنها.
قصف متبادل وقتلى
في عمق مشهد الخراب والدمار الذي يحيط بولاية الخرطوم، تتردّد أصوات القذائف لتكسر السكون الذي كان يلف منطقة كرري وريف أم درمان الشمالي. فمنذ أكثر من سبعة أيام، تُحاصر الحياة بصدى القصف المدفعي الذي تتبادله قوات الدعم السريع والجيش، تاركة خلفها دماراً هائلاً ونزفاً بشرياً مستمراً.
في أحياء ود البخيت والجرافة والحارة 30 وشارع النص بالثورة، يعد صوت القصف مجرد خبر عابر، بل وجزءاً من يوميات سكانها. وشهد محيط مستشفى النو، في الحارات 13، 23، 14، و24، الأربعاء، تدويناً مدفعياً من مناطق سيطرة قوات الدعم السريع بأمبدة، أدى إلى مقتل عدد من المواطنين. ومن جهة أخرى، تواصل طائرات الجيش قصفها لأماكن عدة داخل الولاية، مستهدفة السوق المركزي بالخرطوم وبعض المواقع في شرق النيل وأمبدة السبيل.
وفي حي سواكن بأمبدة السبيل، حطمت إحدى الغارات الجوية أحلام ثمانية أفراد، أربعة منهم ينتمون إلى أسرة واحدة. وعلى مقربة من مستشفى النو، قذائف الدعم السريع أنهت حياة ثلاثة مواطنين آخرين. وفي ود البخيت والجرافة، علت صيحات النزوح بعد أن قصفت المنطقتان بأكثر من 43 دانة في يوم واحد، ما دفع العديد من العائلات إلى الهروب نحو الأحياء الجنوبية، باتجاه سوق صابرين.
يقول أحد سكان ود البخيت، في شهادته لـ “أتـر”، إن القصف المستمر بالدانات الموجهة من شرق النيل قد جعل الموت رفيقاً دائماً للسكان، تاركاً وراءه عشرات القتلى والبيوت المدمرة. إبراهيم، الذي يسكن الحارة 75 بكرري، يعكس صورة مؤلمة لواقع لا يعرف الاستقرار. فبعد أن قرر العودة بأسرته إلى المنزل عقب غياب دام أشهر، ها هو يواجه كابوس النزوح مرة أخرى. “عدت بأطفالي من أجل إلحاقهم بمدارسهم”، يقول إبراهيم، لكن القذائف قطعت عليه حلم العودة إلى الحياة الطبيعية.
ورغم تأكيدات الحكومة بتقدم الجيش في أمبدة وتحرير أجزاء من حي السبيل، فإن استمرار القصف الجوي لنفس المواقع التي قيل إنها تحررت، ومحاولات الدعم السريع قصف الأحياء الغربية لمحلية كرري، يثير الشكوك حول مدى صحة تلك التأكيدات.
على الأرض، يستمر الدعم السريع في قصف المناطق المحيطة بمستشفى النو، تارة من أمبدة وتارة أخرى من الخرطوم وبحري، مما يثير التساؤلات حول قدرة هذه القوات على مباغتة الجيش رغم الحديث المتكرر عن دحرها إلى أطراف المدينة.
والحال كذلك، يعاني السكان من انقطاع الكهرباء والمياه منذ أكثر من أسبوع، غارقين في ظلام دامس وعطش لا يُروى. وفي مشهد يعكس تعقيد الصراع، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر عناصر من الدعم السريع داخل مسيد الشيخ الصائم ديمة بأمبدة، لكن سرعان ما ظهرت كتائب البراء بن مالك التي تقاتل إلى جانب الجيش، لتنفي سيطرة الدعم السريع على الموقع.
مصادر أمنية من محلية كرري أكدت لـ “أتـر” أن أجزاء واسعة من أمبدة ما زالت خارج سيطرة أي طرف، مما يفسر تبادل السيطرة الظاهري بين الأطراف المتصارعة. وتشير المصادر إلى أن الدعم السريع ينقل آلياته إلى مناطق قريبة من الأحياء التي يسيطر عليها الجيش، قبل أن يعود إلى مواقعه دون أن يُرصَد.
جزارات بلا لحوم!
في سوق الشنقيطي بأم درمان، كانت أرفف الجزارات تعكس بوضوح واقعاً مؤلماً، حيث خلت من لحوم الضأن لستة أيام متتالية. ولم يبقَ للجزارين سوى عرض كميات قليلة من لحوم الأبقار، وكأنها رمز لبقاء محلاتهم مفتوحة رغم قسوة الظروف.
تحدث الجزارون لمراسل “أتـر” عن سبب هذا النقص، مشيرين إلى أن الأسواق في محلية كرري قد فرغت تقريباً من الخراف، إذ باتت تُعرض بأعداد قليلة للغاية لا تتناسب مع الأسعار المتداولة، مما جعلها بعيدة عن متناول الجزارين وحتى المستهلكين.
في يناير الماضي، كان سعر كيلو لحم الضأن في كرري يتراوح بين 6 و7 آلاف جنيه. لكن في يوليو الماضي، قفز السعر بشكل جنوني إلى 20 ألف جنيه. والآن، تُعرض القلة المتبقية من لحوم الضأن في بعض المحلات النادرة في أم درمان بأسعار تتراوح ما بين 20 و22 ألف جنيه، مما يزيد من معاناة المواطنين الذين يكافحون لتأمين قوت يومهم.
جولة مراسل “أتـر” في محلية كرري كشفت عن تضخم أسعار الخراف، حيث تتراوح بين 350 ألفاً و550 ألف جنيه للخروف الواحد. التجار يرجعون هذا الارتفاع الجنوني إلى سلسلة من المعوقات التي تعترض نقل الخراف من مناطق الإنتاج في النيل الأبيض وكردفان ودارفور إلى مناطق الاستهلاك. من أبرز هذه المعوقات تدهور الوضع الأمني على الطرق، ووعورة المسالك في موسم الخريف، وعدم توفر وسائل نقل، إضافة إلى التكلفة الباهظة للنقل.
وفي هذا السياق، أصبح عرض الخراف في الأسواق محدوداً بشكل لافت، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وفقدان العديد من الجزارين مصادر دخلهم الأساسية. في السابق، كان تجار المواشي في أم درمان يجلبون خرافهم من سوق تندلتي بولاية النيل الأبيض ومن سوق الهلبة شمال ولاية النيل الأبيض، التي تبعد 40 كيلومتراً غرب الدويم. ولكن مع دخول الدعم السريع لمنطقة الهلبة الأسبوع الماضي، بات سوق تندلتي المورد الرئيسي للمواشي إلى بقية الولايات.
ثلاثة جزارين من أم درمان عبّروا لمراسل “أتـر” عن حزنهم العميق لتوقف الجزارات، ما يعني أن كثيراً من الأسر فقدت مصادر رزقها، وباتت تعتمد على الإعانات والإغاثة. حمدان صافي النور، تاجر مواشي يعمل في سوق تندلتي، تحدث عن الارتفاع الهائل في تكلفة نقل الخراف، إذ قفزت تكلفة إيجار عربة دفار محملة بالخراف من 1.2 مليون جنيه إلى 14 مليون جنيه حالياً.
يصف حمدان الرحلة الطويلة التي تستغرق 14 يوماً بعد أن تحول الطريق الذي كان يمر بجبل مويا بولاية سنار إلى جهة الدبة بالولاية الشمالية، بسبب سيطرة الدعم السريع على تلك المناطق. ومن المفارقات المؤلمة، أن الدعم السريع يفرض رسوم تأمين وحماية تبلغ مليوني جنيه على كل عربة تمر بدائرة سيطرته، التي تمتد من الأطراف الشمالية لولاية النيل الأبيض حتى طريق شريان الشمال قرب مدينة الدبة.
ورغم كل هذه الصعوبات، لم تكن الطرق الوعرة والسيطرة العسكرية هي التحدي الوحيد، إذ أصبحت السيول والأمطار عائقاً جديداً أمام نقل الخراف من تندلتي إلى مناطق الاستهلاك.
الموت مرضاً
في زحمة الأيام الصعبة التي تمر بها ولاية الخرطوم، تشهد أحياء كرري ارتفاعاً مقلقاً في عدد الحالات المرضية. ففي غضون 72 ساعة فقط من الأسبوع الماضي، استقبلت عيادة طبية صغيرة في الحارة 13 أكثر من 180 حالة مرضية، توزعت بين الملاريا والإسهالات المائية والقيء واضطرابات المعدة. هذا العدد المذهل من المرضى يتجاوز بثلاثة أضعاف ما كانت تستقبله العيادة نفسها في بداية شهر أغسطس الجاري.
أحد العاملين بمعمل العيادة أوضح لـ “أتـر” أن أغلب الحالات التي استقبلتها العيادة كانت تعاني من الإسهالات المائية والقيء، يليها الملاريا واضطرابات المعدة. وقد شهدت العيادة أيضاً ظهور حالات من التهابات العيون التي اجتاحت عدداً من الولايات بما في ذلك ولاية الخرطوم.
الوضع في مستشفى النو الحكومي لم يكن أفضل حالاً، فقد كشفت مصادر طبية عن زيادة ملحوظة في عدد المرضى الوافدين إلى أقسام الطوارئ والباطنية. ومع ذلك، لم يتأكد أو يُنفَ ظهور حالات كوليرا، رغم وصول عدد من حالات الإسهالات المائية التي لم تشخص كحالات كوليرا حتى الآن. قسم العيون بالمستشفى كان يستقبل كثيراً من حالات التهابات العيون التي انتشرت في تسع ولايات، وفقاً لوزارة الصحة.
وفي تقريره الأخير، أعلن مركز عمليات الطوارئ الاتحادي عن زيادة مطردة في حالات الإصابة بالأمراض الوبائية، وعلى رأسها الكوليرا والتهابات العيون. التقرير أفاد بأن حالات الكوليرا في خمس ولايات بلغت 556 حالة، منها 49 حالة جديدة و27 وفاة، بينما ارتفعت حالات التهاب العيون إلى أكثر من 2000 حالة في الولاية الشمالية وحدها، تليها شمال كردفان بـ 400 حالة. كما رُصدت زيادة في حالات الملاريا في سبع ولايات.
لكن، يبدو أن هناك فجوة بين الواقع والتقارير الرسمية. إبراهيم، أحد سكان الحارة 23 بكرري، حكى لـ “أتــر” قصة حزينة عن وفاة ابنه البالغ من العمر 13 عاماً بعد إصابته بحالة إسهال وقيء استمرت أقل من 24 ساعة. ويعتقد إبراهيم أن ابنه كان مصاباً بالكوليرا، رغم تشخيص الأطباء في مستشفى النو للحالة بأنها ملاريا.
من جانبها، قالت سلوى عيسى من الحارة 14 بكرري إن شقيقتها أصيبت بحالة إسهال وقيء استمرت معها 48 ساعة قبل أن تتماثل للشفاء، وهي الآن تحت المراقبة الطبية. سكان عدد من أحياء كرري عبروا عن قلقهم من انتشار واسع للذباب والبعوض، مشيرين إلى أنهم يتوقعون ارتفاع حالات الإصابة بالملاريا والإسهالات المائية إذا لم تجرِ مكافحة هذه النواقل.
وفي جولة لمراسل “أتـر” بسوق صابرين والشنقيطي، رصد نقصاً حاداً في الناموسيات، مما زاد من معاناة السكان. تجار السوق أكدوا أن المعروض من الناموسيات لا يكفي لتلبية الطلبات المتزايدة، وأن بعضهم أوقف بيعها مؤقتاً في انتظار ارتفاع الأسعار. هذا الوضع انعكس أيضاً على أسعار مبيدات الحشرات، حيث قفز سعر بخاخ البيروسول 300 ملي من 1500 جنيه بداية شهر أغسطس إلى 5000 جنيه في بداية الأسبوع الثالث من نفس الشهر.
ندرة أخرى رصدها المراسل تمثلت في نقص أدوية التهابات العيون في الصيدليات. وقال طبيب صيدلي متحدثاً إلى “أتـر”، إن بعض الصيدليات أوقفت بيع القطرات والمراهم المستخدمة لعلاج التهابات العيون بخلق ندرة مصطنعة ومن ثم رفع الأسعار.
يبدو أن الطريق نحو التعافي ما زال بعيداً عن متناول سكان هذه المدينة المكلومة.