دعت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية “أطراف مبادرة جدة”، إلى مباحثاتٍ في جنيف، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، إضافة إلى الأطراف الدولية مثل مصر، والإمارات، والاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، التي استضافت اللقاء في جنيف في الفترة من 14 أغسطس ولمدة عشرة أيام. سبقت مباحثات جنيف التي خُصصت لفتح المسارات للمساعدات الإنسانية وتنفيذ مخرجات اتفاق جدة في 11 مايو 2023، محادثات منفصلة بين الولايات المتحدة ووفد عينته حكومة السودان بقيادة محمد بشير أبو نمو وزير المعادن. أثار وفد أبو نمو 11 سؤالاً، خلال المحادثات مع الوفد الأمريكي بحسب مصادر مطلعة تحدثت مع “أتـر“. فيما بعد، كتب وفد الحكومة السودانية تقريراً لخص فيه إجابات الوفد الأمريكي على الأسئلة التي تثير حفيظة حكومة بورتسودان من المشاركة في المباحثات بجدية.
بحسب التسريبات الكثيرة حول تقرير وفد الحكومة، وما أكدته عدة مصادر، فإن الوفد الحكومي أثار ست قضايا تمثل رؤية الحكومة لمعرفة نوايا الحكومة الأمريكية، أهم ما جاء فيها أن الحكومة ترفض مشاركة الإمارات في فريق الوساطة، أو أن تكون ضمن الميسرين، وكذلك الحال مع الإيقاد. كما تساءل الوفد الحكومي عن الدوافع وراء تغيير منبر التفاوض من جدة إلى جنيف، وربط المضي في أي مباحثات جديدة بأن يسبقها تنفيذ مخرجات إعلان جدة. هذا إضافة إلى رفض الوفد مبدأ فرض الأمريكان لأجندة جاهزة قبل مشاورة الحكومة حولها. أما السؤال الأهم، فكان معرفة رأي الإدارة الأمريكية في مصير قوات الدعم السريع في المستقبل.
علقت الإدارة الأمريكية آمالاً كبيرة في فتح مسارات التفاوض المباشر مع ضباط القوات المسلحة، وبدلاً عن ذلك بعثت الحكومة في بورتسودان وفداً يرأسه وزير المعادن وعضوية آخرين من الجيش والخارجية والمخابرات وحلفاء القوات المسلحة من الحركات المسلحة.
خرج أبو نمو إلى العلن مُعدّداً أسباب رفض الوفد الذي كان يقوده في المفاوضات مع الأمريكان في جدة، حتى قبل بيان مجلس السيادة. وينتمي محمد بشير أبو نمو إلى حركة تحرير السودان فصيل منّي أركو مناوي، التي تقاتل ضمن تحالف القوات المسلحة في الجزيرة والقضارف والفاشر. وكانت الحركة التي يرأسها منّاوي قد رأت ضرورة إشراكهم في المفاوضات ما داموا موجودين في قلب المعارك وقدموا جميع التضحيات الممكنة. كل ذلك أربك الوسطاء وزاد من شكوكهم في مدى السلطات الممنوحة للوفد للتفاوض.
أجابت الولايات المتحدة عن معظم الأسئلة التي طرحها الوفد الحكومي، لكن عجز وفد الحكومة عن الإجابة عن أي أسئلة متعلقة بخطة الجيش في تسهيل عبور المساعدات الإنسانية أو حول إيقاف العدائيات لتسهيل عبور الإغاثة.
بحسب التقرير الذي أعده الوفد الحكومي، فهنالك إيجابيات كثيرة حققها، وردت ضمن ردود المبعوث الأمريكي على تحفظات الحكومة السابقة على المشاركة ضمن أي مباحثات مع الدعم السريع، أهمها الاعتراف الأمريكي بصفتي البرهان رئيساً لمجلس السيادة وقائداً عاماً للجيش، والموافقة على التفاوض مع الوفد الحكومي باعتباره وفد حكومة السودان، والموافقة على تغيير موعد المباحثات من14 أغسطس إلى 18 أغسطس الجاري، لكون التاريخ الأول ذا أهمية للجيش لأنه يوافق الذكرى السبعين لتأسيسه؛ وأخيراً استجابة المبعوث الأمريكي بالذهاب إلى بورتسودان ولقاء البرهان لتصحيح المعلومات المغلوطة حول الموقف الأمريكي، الذي يرى أنه لا يوجد مستقبل سياسي لقوات الدعم السريع بعد الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها، وأن الولايات المتحدة لا تضع الجيش السوداني والدعم السريع في مرتبة متساوية، لا من الناحية الشرعية ولا القانونية.
مع كل ذلك، أوصى الوفد الحكومي في بورتسودان بالتمسّك بعدم مشاركة الإمارات وشركاء الإيقاد في المباحثات، والتمسّك بعدم الذهاب إلى جنيف قبل تنفيذ مخرجات إعلان جدة، وأخيراً السعي لإعادة مسار مباحثات جدة مرة أخرى.
خلال شهور تحاول الوساطات الدولية، والإدارة الأمريكية تحديداً، الاقتراب من فهم قادة القوات المسلحة السودانية، أو على الأقل فتح مسارات حديث مباشر معهم حول مآلات الحرب في السودان. ومع ذلك لا يبدو أن هنالك تقدماً يذكر في هذا الاتجاه. عندما تعذر عليها التواصل مع القائد العام للجيش مباشرة، فتحت أبواباً خلفية مع نائبه الفريق شمس الدين كباشي وجمعته مع قائد ثاني قوات الدعم السريع في 20 يناير الماضي بالعاصمة البحرينية المنامة. وبحسب مصادر مطلعة على تلك المحادثات، فإنها لم تكن بعلم الفريق البرهان إلا في اللحظات الأخيرة، مما هدد نجاحها ومصيرها، بل واحتمال توسيع هوة الخلافات وسط الجيش وحلفائه.
وأفادت مصادر تحدثت إلى “أتـر”، بأن هناك رسالة وصلت بأكثر من طريقة عن رغبة الفريق البرهان الحقيقية من جميع تلك الرحلات الاستكشافية والتكتيكات، في استجلاب السلاح الذي يستطيع أن يغير به الموازين على الأرض، سواء في مواجهة الدعم السريع، أو حتى داخل الجيش الذي يقوده.
الحقيقة أن الفريق البرهان لطالما أراد أن يعقد صفقة طرفها الولايات المتحدة، هدفها الدائم كان الحصول على السلاح الغربي المتطور. فمنذ وقت مُبكّر بعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير، ظنّ الفريق البرهان أن أسهل طريق للموافقة الأمريكية على وصول الجيش السوداني للسلاح الأمريكي، مرهون بتنفيذ مرحلة الانتقال المدني الديمقراطي بالتحالف مع القوى المدنية في أغسطس 2019. لاحقاً، بوجود دونالد ترمب في البيت الأبيض، اكتشف الفريق البرهان طريقاً آخر مختصراً عبر الرضا الإسرائيلي. سافر في فبراير 2020 إلى عنتيبي في يوغندا للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووافق على المضي قدماً في الاتفاقيات الإبراهيمية والتطبيع مع إسرائيل، دون حتى استشارة حلفائه المدنيين في قوى الحرية والتغيير. لم يخفِ الفريق البرهان الهدف من التصميم على المضي قدماً في التطبيع مع إسرائيل، وقال في مقابلة مع تلفزيون السودان عقب عودته من لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي في عنتيبي، إن المصلحة الوطنية هي المعيار، وإن القوات المسلحة عانت كثيراً من الحظر المفروض عليها للحصول على السلاح؛ كما استخدم البرهان سلاح العلاقة مع روسيا للضغط على الغرب في الحصول على السلاح أكثر من مرة كما فعل سلفه عمر البشير أيضاً.
رغم أن الفريق البرهان كان واضحاً في هدفه من التعامل مع الغرب، شرط فك الحظر المفروض على الجيش للحصول على السلاح الغربي؛ إلا أنه ظل يواجه تحديات عدة في المضي نحو المفاوضات، وظل منذ خروجه من القيادة العامة يمسك باستراتيجيته، ويجري اتصالات إقليمية دون أن يفصح صراحة عما يطلبه أو ما حققه منها.
أفادت المصادر التي تحدثت إلى “أتـر”، بأن الأطراف الميسِّرة لمباحثات جنيف شعرت بالإحباط من عدم إرسال حكومة السودان وفداً إلى جنيف. وبدلاً عن ذلك، أعلنت عن إرسال وفدها إلى القاهرة لإجراء مشاورات مع الأمريكان. صادف ذلك وجود وزير الخارجية الأمريكي في جولة إقليمية تضمنت مصر، من أجل تسويق اتفاق إيقاف إطلاق النار في غزة. وقال مصدر قريب من الخارجية الأمريكية، إنه كان يأمل في لقاء مع الوفد الحكومي أثناء وجود وزير الخارجية الأمريكية في القاهرة، واستغلال فرصة وجود مسؤولين كبار في الجانبين. حسب المعلومات التي تحصلت عليها “أتـر”، فإن الوفدين الأمريكي والسوداني لم يتمكنا من اللقاء لغياب التنسيق الكافي.
وحسب ما صرّح به المبعوث الأمريكي للسودان، توم بيرييلو، قبل مغادرته القاهرة، وعودته إلى سويسرا لاستكمال المناقشات مع الوفود الموجودة هناك، فإن الاجتماع ألغِي بعد أن خرق وفد السودان البروتوكولات. وحسب مصادر مطلعة، فإن الأمريكان شكوا من تشكيل الوفد وغياب ممثلين عسكريين يضمنون الالتزام بما تتوصل إليه الأطراف. بينما قال بيان مجلس السيادة، إن اثنين من أعضاء الوفد الحكومي وصلوا إلى القاهرة يوم الاثنين 19 أغسطس 2024 للقاء الوفد الأمريكي، وما زالوا هناك في انتظار التحاق بقية الوفد، موضحين أنهم لم يأتوا إلى القاهرة للمشاورة بشأن ما يجري في جنيف، بل بهدف توضيح رؤيتهم حول تنفيذ إعلان جدة الموقع بتاريخ 11 مايو 2023م.
يَعلم عدد من الوسطاء أن الوفد الحكومي، ورغم الاعتراف بأنه ممثل رسمي للحكومة، إلا أنه لا يحمل تفويضاً كافياً للمضي قدماً في تنفيذ إيقاف العدائيات، أو حتى التفاوض على خطة خروج آمن لأفراد قوات الدعم السريع من منازل المواطنين والأعيان المدنية مثل المستشفيات والمدارس.
ما هي خطة البرهان؟
في أغسطس من العام الماضي، خرج الفريق البرهان من مقر القيادة العامة للجيش إلى مقر الحكومة الجديد في بورتسودان، أقصى شرق السودان، بعد أربعة أشهر منذ بداية الحرب، قضاها محاصرا داخل مقر القيادة العامة للجيش. مثًل خروج القائد العام للجيش من الحصار فرصة ذهبية له، أولا ليشرح قصة الحرب لأهل السودان؛ كيف حدثت، وخطته لحماية الناس، والأهم ما الذي يريده للانتصار فيها؟ كان الأمل أن يجعل للناس وحياتهم اعتبارا في خطته، أيا كانت.
كان أول خطاب وجهه البرهان إلى السودانيين بعد الحرب، بتاريخ 21 أبريل 2023، من مقر القيادة العامة للجيش في الخرطوم، بمناسبة عيد الفطر المبارك، شدّد البرهان على أنه على ثقة في “تجاوز المحنة بالدربة والحكمة والقوة، للمحافظة على أمن ووحدة البلاد مما يمكن من الانتقال الآمن للحكم المدني”. تغيرت هذه النبرة في خطابه الثاني بتاريخ 27 يونيو 2023، من العاصمة الجديدة بورتسودان، والتي جاءت بمناسبة عيد الأضحى، وأعلن خلاله التعبئة العامة، فيما صار لاحقا استنفارا شعبيا، له ما له، وعليه ما عليه.
مضى عام منذ خروجه من القيادة العامة، فما الذي تعلمناه من الرجل الذي يتوقف على قراراته مصير جميع أهل السودان؛ وبناءً على خطته وقدرته، سيتعيّن على الناس أن يخططوا لحياتهم في السودان، بينما هم يعيشون دورات كاملة من النزوح واللجوء والعودة ثم النزوح مرة أخرى؟.
لا يفصح الرجل كثيراً عن خطته، ويصعب التكهن بتصرفاته وقراراته؛ لكن أيضاً يصعب التكهن بدائرة مستشاريه الخاصة التي يعتمد عليها في مثل هذه القضايا الحساسة. الذي حدث هو أن الفريق البرهان، بوصفه قائداً عاماً للجيش، قرر عدم الذهاب إلى جنيف أو إرسال وفد للمشاركة، لكنه أصدر قراراً بفتح معبر أدري في الحدود التشادية السودانية. رحب المجتمع الدولي بهذا القرار، الذي يسمح للأمم المتحدة بإرسال المساعدات الإنسانية إلى السودان، وشكر الحكومة السودانية على ذلك.
فعلاً كان لدى الأمم المتحدة عددٌ من الشحنات الغذائية في انتظار التصاريح الرسمية لعبور الحدود من تشاد إلى السودان، والآن أعلنت الجهات الأممية عن عبور شاحنات محملة بـ 120 طناً متريّاً من المساعدات الغذائية والصحية، فيما تنتظر حمولات أخرى تصاريح المرور. وأعقب المجلس السيادي قراره بتصريح آخر، أعلن خلاله توجيه البرهان بأيلولة الإشراف على المعابر الحدودية إلى مجلس السيادة. وقال مصدر أممي لـ “أتـر”، إنه رغم تعاون الدعم السريع بخصوص توصيل المساعدات، لكن نقاط التفتيش التابعة لها لا تسمح للشاحنات بالمرور في بعض الأحيان لأسباب لم يُفصح عنها.
بحسب بيان مشترك أصدرته الأطراف الوسيطة في مباحثات جنيف، لم يحضر الجلسات ممثلون عن الحكومة السودانية أو القوات المسلحة، لكن حضر وفد قوات الدعم السريع وأبدى استعداده لحماية قوافل الإغاثة وتأمين العاملين إلى مناطقها المحددة. تزامن فتح معبر أدري مع حملة واسعة للطيران الحربي في مدن الفاشر، وطويلة، والضعين. من شأن عمليات الطيران الحربي أن تربك قوات الدعم السريع وتصعب التزامها بحماية القوافل. وعلمت “أتـر” أن أطرافاً كثيرة ظلت تضغط على الفريق البرهان والقوات المسلحة، لفتح المعابر وتسهيل عمليات الإغاثة. ورغم أن الجيش ليست لديه سلطة على معظم المعابر في دارفور، إلا أنه من الضروري للأمم المتحدة أن تحصل على إذن السلطات في السودان قبل الشروع في إرسال الإغاثة إلى أكثر من 20 مليوناً في حاجة ماسة إلى الطعام.
وَضعت تكتيكات البرهان قوات الدعم السريع أمام اختبار مواجهة حلفائها من المليشيات والكسّيبة في دارفور لإيصال الإغاثة إلى المدنيين والنازحين، لكنها غامرت أيضاً بأن منحت الدعم السريع فرصة الحصول على تذكرة اعتراف دولي به في مناطق سيطرته إذا نجح في الاختبار وعبر بالإغاثة إلى بر الأمان.
كيف نفهم الفريق البرهان؟
لدى السودانيين تاريخ حافل خلال الخمس سنوات الماضية، ربما جعلهم يعرفون كثيراً عن شخصية القائد العام للجيش.
تابعنا خطابات الرجل وقراراته منذ الإطاحة بالرئيس السابق في ثورة شعبية، انحاز إليها الجيش في 11 أبريل 2019، ورأى كثيرون في ذلك انقلاباً للحفاظ على مؤسسة الجيش واستثماراته الاقتصادية. وقتها كان الفريق البرهان قد تقلد للتو منصب المفتش العام للجيش بعد ترقيته إلى رتبة الفريق أول. جاء إلى هذا المنصب بعد رحلة طويلة في الجيش وفي هيئة عمليات القوات البرية التي بلغ منصب نائب رئيس هيئة أركانها. خلال وجوده في القوات البرية، نسّق عمليات نقل الجنود إلى اليمن ضمن حرب عاصفة الحزم، عمل خلالها بالقرب من محمد حمدان دقلو “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع حتى الإطاحة بنظام البشير، وتوليه رئاسة المجلس العسكري في 11 أبريل 2019.
أظهرت أقواله وقراراته، تمسكه بمفهوم ظل يستمر في تكراره، عن تقديره للوطن، دون أن يعني ضمن ذلك “المواطنين“ الذين عليهم التضحية والموت فداءً للوطن. جاء البرهان إلى رئاسة المجلس العسكري باتفاق ثنائي، عقده مع قائد قوات الدعم السريع، تضمن للثاني أن يكون نائباً له، ووفر له الحماية اللازمة للتوسع ومكنه من أهم لجنتين في مهام الفترة الانتقالية: قيادة وفد الحكومة لمفاوضات جوبا للسلام في 2020، وترشيحه لرئاسة اللجنة الاقتصادية العليا. ردد البرهان، أكثر من عدة مرات، أن العلاقة التي تربط الجيش والدعم السريع على أحسن ما تكون، وسوّق للناس أن آخر ما يُتوقع حدوثه، هو المواجهة العسكرية بينه وحميدتي؛ حتى أن الأخير زاره في مسقط رأسه في يوليو 2021. كل هذا وسط تحذير مستمر من خطورة وجود قوات الدعم السريع من قبل نشطاء سياسيين وخبراء عسكريين.
أول مواجهة للفريق البرهان، كانت قراره مع زملائه في المجلس العسكري، الفضّ العنيف للاعتصام السلمي الذي أنجزه الثوار أمام مقر القيادة العامة للجيش. لم ينذر الناس بالخروج من ميدان القيادة، ولم يتجنب الخسائر في الأرواح، لكن اختار تنفيذها مثل أي عملية عسكرية سرية، ليُباغَت المعتصمون النائمون، ويُقتل أكثر من 200 شخص. وفي اليوم الثاني، والناس ما زالوا مذهولين من مستوى العنف الذي واجه به الناس، خرج البرهان في خطاب، عزا فيه فقدان الأرواح إلى انحراف في خطته لإنهاء الظواهر السالبة، واتخذ جملة من القرارات منها تجميد التفاوض مع القوى المدنية وتكوين حكومة تصريف أعمال إلى حين الانتخابات التي حددها بعد 9 أشهر.
لم ينفذ شيئاً من هذه الخطة، وعاد مرة أخرى بعد أقل من شهر وشرع في التفاوض مع القوى المدنية، قادت إلى وثيقة إعلان سياسي، ثم وثيقة دستورية في أغسطس 2020.
ثم بعد سنة واحدة تقريباً، قاد البرهان انقلاباً عسكرياً على الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر 2021، حلّ بموجبه الحكومة ومجلس السيادة، ووعد بتشكيل حكومة انتقالية ورئيس للوزراء، لكنه عاد في نوفمبر من العام ذاته واتفق مع رئيس الوزراء وأعاده إلى منصبه. وحينما استقال رئيس الوزراء وعد البرهان بأنه سيعين حكومة جديدة لفترة انتقالية تمتد عاماً واحداً.
لم يستطع تعيين رئيس وزراء جديد بسبب ضغط الشارع، أو ربما لم يرغب في ذلك، وترك الأمور تمضي بلا هدف أو خطة، حتى تصاعدت الخلافات بينه ونائبه محمد حمدان دقلو. قرّر الرجل وقتها العودة إلى الحرية والتغيير مرة أخرى، وبدأ معها مرحلة الاتفاق الإطاري حتى قيام الحرب في 15 أبريل.
يتخذ البرهان كثيراً من القرارات المصيرية بخصوص حياة سكّان السودان، ثم يأتي في اليوم التالي ليتنصّل عن تلك القرارات بكل سهولة، معقباً إياها بقرارات مصيرية أخرى دون إيلاء حلول للقرارات السابقة. وهكذا يعيش الناس في هذه البلاد منذ 2019، حيث تقع على عاتقهم حيرة تسبق وتلي قرار القيادة، متسائلين عن خطتها بخصوص حياتهم.
ما نعرفه عن الفريق البرهان هو ما يعرفه جنوده وضباطه، وهو أنه يتعيّن عليه تحمُّل مسؤولية قراراته، سواءٌ أراد الذهاب إلى جنيف أم الاختباء من قدَره ورفض أي مباحثات لا تضمن له الاعتراف بالشرعية.
ملحق : حول معبر أدري
بعد يوم من بدء مفاوضات جنيف حول إيقاف إطلاق النار، والبحث عن ممرات آمنة لتوصيل المساعدات الإنسانية، والتي غاب عنها وفد الجيش السوداني؛ أعلن مجلس السيادة السوداني عن فتح معبر أدري على الحدود مع تشاد لمدة ثلاثة أشهر، لتوصيل المساعدات الإنسانية، بإشراف مفوضية العون الإنساني السودانية، واصفاً إياها بأنها المؤسسة الحكومية المعنية بالشؤون الإنسانية في السودان.
ووجدت الخطوة ترحيباً من الوساطة وقوى إقليمية ودولية، مما يفتح السؤال حول أهمية المعبر والمُسيطِر عليه عسكرياً؟ وهل هو المعبر الوحيد الذي يربط بين ولايات دارفور ودولة تشاد؟ وهل هناك تفاوض غير مباشر مع قيادة الجيش؟
منذ بدء الدعوة من قِبل الوساطة، كان من الواضح أنها تنتهج الجمع بين طرفي الصراع، الدعم السريع والقوات المسلحة، وهي فرضية سرعان ما تبددت مع الأيام، إذ أعلن وفد المقدمة المرسل من حكومة بورتسودان برئاسة محمد بشير أبو نمو وزير المعادن – كبير مفاوضي جيش حركة تحرير السودان قبل اتفاق سلام جوبا – لإجراء مشاورات مع الوساطة الأمريكية بجدة، عن فشل المشاورات وعدم حدوث اختراق؛ فالواضح هو تمسك الوساطة بوفد يمثل الجيش، فيما يعمل الجيش على فرض حكومته ببورتسودان نظيراً للدعم السريع.
يقع معبر أدري بين الحدود التشادية والسودانية التي تمتد لحوالي 1400 كلم، في اتجاه ولاية غرب دارفور على الحدود بين البلدين، ويربط بين مدينة أدري التشادية وإقليم دارفور غربي السودان، ويبعد عن الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور 30 كلم.
أدري ليس المعبر الوحيد مع دولة تشاد، فهناك معبر الطينة في ولاية شمال دارفور، وهو وادٍ سرعان ما تستحيل الحركة عبره في فصل الخريف، إضافة إلى أم دخن التي تقع في نقطة حدودية ثلاثية مع دولتي تشاد وأفريقيا الوسطى التي تتشارك مع السودان حدوداً تمتد لـ 174 كلم، وربما استُبعدت من قبل الوساطة، بسبب وجود قواعد روسية بأفريقيا الوسطى.
وكان الجيش السوداني قد أغلق معبر أدري في فبراير الماضي بحجة استخدامه من قبل قوات الدعم السريع لإدخال السلاح والمواد اللوجستية، وهو ما صرح به سفير السودان لدى الأمم المتحدة في وقت سابق. لاحقاً، بدأت الأمم المتحدة وشركاؤها في استخدام معبر الطينة الحدودي إلى شمال دارفور.
وذكرت تقارير عديدة أن الإمارات العربية المتحدة تدير تحت غطاء مساعدة اللاجئين السودانيين، عمليةً سريةً لدعم قوات الدعم السريع بأسلحة من ضمنها طائرات دون طيار، كما تعمل على علاج المقاتلين المصابين، ونقل الحالات الأكثر خطورة جوّاً إلى أحد مستشفياتها العسكرية.
تسارعُ الخطوات والتصريحات يمكن قراءته في اتجاه تفاوض خفي بين الوساطة وقيادة الجيش. فقد أتبع مجلس السيادة قراره بفتح معبر أدري، بقرار أيلولة الإشراف على المعابر والنقاط الحدودية إليه؛ وبعد يومين أعلن إرسال وفد إلى القاهرة لمناقشة رؤية الحكومة في إنفاذ اتفاقَي جدة مايو 2023. وكانت قد تلاحقت تصريحات قادة الجيش في أكثر من موقع ومناسبة، عن سيادة السودان على أراضيه وشعبه.
وتسيطر قوات الدعم السريع على معظم إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر آخر حاميات الجيش، ومناطق بولاية وسط دارفور تقع تحت سيطرة حركة جيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد نور، التي أعلنت الحياد في حرب 15 أبريل.
قبل إعلان فتح معبر أدري، كان متاحاً لحركة المواطنين الراجلين وفوق الدواب التي يستخدمها التجار لنقل البضائع. في الجانب التشادي تتوقف حركة مركبات النقل عند نقطة سوق الدواني، وفي الجانب السوداني بسوق اديكونق. ولا يسمح للمركبات التجارية بالمرور. ويمثل المعبر ممراً استراتيجياً للتجارة بين السودان وتشاد قبل الحرب، وتمر من خلاله الشاحنات المحملة بالمنتجات الزراعية والبضائع المصنعة والماشية، ويكتسب أهمية خاصة لدى القبائل في المنطقتين، ويساعد بموقعه الجغرافي في تسهيل العمليات اللوجستية، ويعد نقطة ارتكاز للمنظمات الإنسانية الدولية، وهو بذلك المعبر الوحيد الآمن لإيصال المساعدات الإنسانية لإقليم دارفور.
في يونيو 2023 بعد مقتل الوالي خميس أبكر، لجأ آلاف المواطنين بولاية غرب دارفور إلى الجانب التشادي، وهو ما دفع عديد المنظمات الدولية والإنسانية العاملة في تقديم المساعدات، إلى فتح معسكرات ومراكز إيواء للاجئين بدولة تشاد. وكانت منظمة الأغذية العالمية قد رحبت بفتح المعبر وأعلنت البدء تحميل قافلتين تحملان 6000 طن متري من المساعدات الغذائية لنحو نصف مليون شخص، استعداداً للتوجه إلى المناطق التي تواجه خطر المجاعة بولايات شمال ووسط وغرب دارفور، ولكنها ما زالت في انتظار تلقي المراسلات الرسمية والموافقة الحكومية.
وحدة السربا الإدارية وبها سوق اديكونق، هي الميناء البري للسودان مع تشاد، ومنها يتجه طريق لمدينة الجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور. ومن الجنينة تتفرع عدة طرق، منها طريق ترابي إلى كبكابية ثم الفاشر بشمال دارفور مروراً بمنطقة سرف عمرة، وطريق آخر مسفلت من الجنينة إلى زالنجي بوسط دارفور ومنها إلى نيالا بجنوب دارفور ثم شرقاً الضعين بشرق دارفور أو شمالاً للفاشر بشمال دارفور. لكن تقف السيول والفيضانات عقبة في سلوك الطرق الرابطة بين الجنينة والمدن الأخرى، خاصة مع انهيار جسر مورني الرابط بين ولاية غرب دارفور ووسطها بفعل السيول والفيضانات.
بلغت التوترات بين السودان وتشاد ذروتها في العام 2008، بأحداث في إنجمينا والخرطوم، وتبودلت الاتهامات بين الحكومتين وقتها. وتتويجاً لمحاولات الصلح المستمرة بين البلدين المبذولة من دول جوار وإقليم في اتفاقيات مكة وداكار والدوحة، زار الرئيس التشادي الراحل إدريس دبي في10 من فبراير2010 الخرطوم طاوياً صفحة التوترات بين البلدين، ليجري تفعيل البروتوكول الخاص بإنشاء القوات المشتركة، والذي ينص على إنشاء قوة عسكرية مشتركة قوامها 3000 جندي و360 شرطياً بواقع 1500 جندي و180 شرطياً من كلا البلدين، لتتقاسم القوات السودانية التشادية الانتشار في نحو 20 موقعاً حدودياً بين البلدين، ويعمل أفراد هذه القوات جنباً إلى جنب، بمعدات تسمح لهم بالتحرك والمراقبة براً وجواً وعلى مدار الساعة. وجرى الاتفاق على أن تكون قيادة القوات بالتناوب، أي ستة أشهر تحت القيادة السودانية ثم تنتقل القيادة بعدها إلى الجانب التشادي.
وأعلنت الحكومة التشادية، مع بداية المواجهات العسكرية بالخرطوم في 15 أبريل 2023، إغلاق حدودها مع السودان حتى إشعار آخر، ولم يأتِ ذكر على مصير البروتوكول الأمني بين البلدين، رغم تصريح وزارة الخارجية السودانية باستنكارها الهجوم الغادر حسب وصفها من مليشيا الدعم السريع المتمردة على مقر رئاسة القوات المشتركة السودانية التشادية بالجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور، مما يعد انتهاكاً للبروتوكول الأمني الموقع بين حكومتي السودان وتشاد في أبريل 2023.