
في رحلة عودة عكسية، مُرة ويائسة ومحفوفة بالخوف والخطر والترقب، وجد بعض النازحين والنازحات من أهل السودان أنهم أمام خيار صعب ووحيد: العودة إلى بيوتهم في مدنٍ فروا منها جراء الحرب الطاحنة، مهما كلف الأمر.
ومع تمدّد رقاع الحرب واتساع نطاقها في مدن وولايات ظَنها النازحون آمنة من ملاحقة وانتهاكات الدعم السريع، فضلاً عن تلكؤ الجيش وتردده في الذهاب إلى مفاوضات تنهي الحرب وتقضي على معاناة السودانيين؛ حزمت كثير من الأسر النازحة أمرها وقررت العودة إلى مستقر غير آمن، في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية والإنسانية، مفضلين العيش وسط احتدام المعارك ومواجهة خطر الموت المحدق على محنة النزوح التي عانوها.
قصص وحكايات النزوح العكسي متجددة ولا تنتهي، يرويها أبطالها من النساء والرجال والأطفال، بمسحة من الحزن والبكاء؛ تجارب ومغامرات وأهوال عاشوها وأسرهم في طريق العودة من القاهرة إلى بيوتهم، مجبرين لا أبطال، بعد أن ضاقت بهم أرض النزوح، في السكن والمعاش، بمدنه المهددة هي الأخرى؛ وضرَبتهم حيرة المصير وغموض مستقبل الحرب.
تبدّد الأمل
في خضمّ رحلات جائلة، أكثر من مرة، ونزوح يتأرجح بهما بين شندي وعطبرة، واستقرار مضطرب، وتبدد آمالهما في أن تنتهي الحرب قريباً، قررت الشقيقتان عائشة وخديجة العودة نهائياً إلى البيت في ضاحية كرري في أم درمان، والشروع في محاولة صنع فرص أخرى جديدة تنهي حالة النزوح المتكرر، والتغلب على الصعوبات التي تواجه استقرارهما في المنطقة التي شهدت بدروها تغيراً ديموغرافياً حاسماً، بعد أن نزحت إليها عشرات الأسر من مناطق قريبة ملتهبة، كونها أقل المناطق التي شهدت مواجهات بين طرفي القتال، ووجدت في بعض البيوت التي نزح منها أهلها ملاذاً.
هذا ما جرى للبيوت المحيطة ببيتهما الذي عادتا إليه، إذ تغيّر جيرانهما، وها هما تخالطان أسراً جديدة لأول مرة، وتقسّمان الوقت بين بناء علاقات اجتماعية جديدة لتخفيف حدة الحرب، ورعاية الجباريك (حقول منزلية صغيرة، مفردها جبراكة) التي زرعتاها لتطعما أسرتيهما من إنتاجهما المنزلي؛ لمجابهة الغلاء الفاحش وشبح المجاعة الذي يهدد البلاد، كما أخبرتا “أتَـر”.
تمضي خديجة في وصف أوجاع النزوح والعودة: “خرجنا إلى عطبرة وشندي بسبب التدوين العنيف الذي طال حتى بيتنا في كرري، وفقدنا عدداً من الجيران بين قتيل ومصاب، لكننا تعبنا من التجوال والنزوح. ارتفاع كلفة إيجار السكن المستمرة في مدن النزوح، وصدمة موت أبي وهو كبير في السن بعيداً عن البيت، وغموض مصير الأولاد في الدراسة، ووصمة النزوح التي تلاحقنا أينما ذهبنا؛ كل هذا أجبرنا على العودة”.
وتتابع: “صحيح أن البيوت أصبحت موحشة في الحي، والشوارع غير آمنة والغلاء فاحش، والمدافع ما تزال تضرب منطقة كرري بكثافة، لكن النزوح مكلف وأصعب. نحاول إيجاد عمل، ونتابع دروس الأولاد من البيت، فنحن لا نحصل على مساعدات من أي جهة، ونأمل أن تلتئم الأسرة الكبيرة، فأفرادها ما زالوا مشتتين بين مدن البلاد وأريافها“.
وتروي فاطمة أن بعض الجيران بدأوا بالفعل في الرجوع بعد اجتياح الدعم السريع مناطقهم الأصلية، وتشتت ذويهم في قرى الجزيرة وولاية سنار التي لجأوا إليها، ووجدوا أنه لا مفر أمامهم سوى العودة إلى بيوتهم في أم درمان. تقول في حديث لـ “أتَـر”: “نحثّ المتحاربين على الذهاب إلى التفاوض وإنهاء هذه الحرب فوراً، ليعود بقية الناس إلى بيوتهم واستئناف حياتهم بكرامة”.
ويخبر توفيق سعيد “أتَـر” بأن قرار عودته مع الأسرة بعد النزوح إلى ولايتي الجزيرة ونهر النيل تتابعاً، لم يكن استجابة لأي نداءات دعت المواطنين للعودة إلى منازلهم، ولكن تلبية لشرطه الشخصي المُلحّ، إذ فقد وظيفته مباشرة بعد اندلاع الحرب، عقب “المجزرة الواسعة”، على حدّ تعبيره، في حق نحو ألف موظف وعامل فصِلوا تعسفياً من بنك فيصل الإسلامي. نزح توفيق إلى الجزيرة أولاً لنحو شهرين، ولم تكن بيئتها مريحة لأسرته وأطفاله، خصوصاً مع تأخر العام الدراسي هناك، فسافروا إلى الدامر، قبل اجتياح ود مدني، في رحلة طويلة وشاقة بحثاً عن عمل، لكن من دون جدوى، إذ كان سوق العمل في الدامر منكمشاً، ولا فرص أمام النازحين سوى في أعمالٍ هامشية مؤقتة، يتعرضون خلالها لمضايقات ومطاردات عنيفة من السلطات المحلية.
“هُنا قررت العودة إلى بيتي في أم درمان، فهو أولى بي وبأسرتي، رغم قناعتي بالمآسي والكوارث اليومية التي تنتظرنا هناك. وعلى درب نزوحنا ثم عودتنا، نفدت جميع مدخراتي. أخطط للهجرة. وأعتقد أن الحرب لن تنتهي قريباً“، يقول توفيق.
نوتة
يشكل فرار حوالي 11 ملايين تركوا من منازلهم، منهم 8 ملايين تقريباً نزحوا داخلياً، وفقاً لإحصائية مصفوفة تتبع النزوح التابعة لمنظمة الهجرة الدولية في الأسبوع الثالث من أغسطس 2024، بؤرةً لأكبر أزمة نزوح عالمية، إذ إنهم يعانون أوضاعاً إنسانية بالغة السوء، خاصة النساء والأطفال منهم. وقد شهدت 12 ولاية في السودان موجات النزوح بسبب القتال داخل السودان، يعيش ما يزيد على 6.7 ملايين منهم مع المجتمعات المضيفة في 7.251 موقعاً عبر ولايات السودان الـ 18. وقد تفاقمت الأوضاع مؤخراً وانحدرت إلى الأسوأ في ولايات سنار والنيل الأزرق والنيل الأبيض وشمال دارفور.
نزوح عكسي
وجد عصام موسى وأسرته أنفسهم مجبرين على الخروج من ولاية النيل الأبيض، بعد أن تأزم الوضع فيها، وغدت جزيرة معزولة، وتحولت الحياة إلى جحيم لا يطاق، وتضاعفت أسعار السلع والوقود إلى حد غير مسبوق، خاصة بعد إغلاق الطريق الرابط بينها وولاية سنار، وهو يصل أيضاً إلى بورتسودان وعطبرة، وكان بمثابة شريان حياة ينقل البضائع والمواد الغذائية الاستهلاكية والوقود.
يروي عصام لـ “أتَـر” بعضاً من تفاصيل رحلته: “كانت رحلة نزوح عكسي شاقة، من الدويم إلى حي الثورة في أم درمان، استغرقت سبعة أيام كاملة، عبر شارع ترابي محفوف بالخطر ويتخلل القرى التي استباحتها قوات الدعم السريع بغرب النيل الأبيض، مثل العلقة وقرى الشاتاوي والمراخة الجديد، والشيخ الصديق، حتى جبل أولياء وهجيليجة، وسط معاناة هطول الأمطار“.
تكدست أسرة عصام في حافلة صغيرة مهلهلة، وفيهم والدته المريضة والأطفال، في ظل أزمة مواصلات حادة. تعطلت بهم الحافلة أكثر من مرة، وشقت طريقها بصعوبة بين ارتكازات الجيش أولاً والدعم السريع لاحقاً، والحذر والخوف من هجمات الهَمْباتة واللصوص المسلحين ليلاً وطوابير التفتيش الشخصي والجبايات والرشاوى ومعاناة ندرة الطعام والمياه وغلاء الأسعار في كل مكان مروا به خلال رحلتهم.
“ولا تسَل عن مشاهد الدمار والخراب في مدخل أم درمان؛ عربات مُشلعة وإطارات محروقة ملقاة على قارعة الأسفلت وارتكازات متتابعة لا تنتهي وتكاثر عناصر الدعم السريع وابتزازهم كلما توغلنا أكثر”. يخبر عصام “أتَـر”.
عودة قسرية إلى وطن ممزق
تتزايد أعداد اللاجئين إلى دول الجوار نتيجة لتناقص المواد الغذائية على نحو مطّرد، وتزايد الانتهاكات العنيفة التي تتعرض لها الفتيات والسيدات، وقتل الرجال على أسس عرقية، ونهب المنازل والسرقة.
نوتة
ووفقاً لتقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الصادر في مطلع يوليو 2024، يُقدَّر عدد السودانيين اللاجئين إلى دول الجوار بحوالي 2.6 مليون منذ أبريل 2023، وتمثل دولة تشاد النسبة الأكبر حيث لجأ إليها حوالي 1.2 مليون شخص، تليها جمهورية مصر التي لجأ إليها 640 ألفاً، ثم جنوب السودان 447 ألفاً، وليبيا 149 ألفاً، وإثيوبيا 140 ألفاً، وجمهورية إفريقيا الوسطى 40 ألف شخص.
وبعد الأحداث الأخيرة في ولايتي الجزيرة وسنار، لجأ معظم النازحين الجُدد إلى تشاد وجنوب السودان مع رغبة بعض اللاجئين السودانيين في العودة إلى بلادهم، رغم الخيارات الضيقة وتحدي أجيج الحرب المستطير، نظراً لصعوبة العيش في الظروف الاقتصادية الصعبة بالبلاد المستضيفة، بسبب ارتفاع أسعار الإيجارات وصعوبة الاندماج في المجتمع المستضيف وإهدار الحقوق والتمييز المجتمعي والعيش في أحياء فقيرة وغير آمنة، والعجز عن الوصول إلى بلد ثالث لافتقارهم إلى معايرة إعادة التوطين.
عندما اجتاحت الدعم السريع حاضرة ولاية الجزيرة، فقد إبراهيم مصطفى عمله في شركة توزيع للمواد الغذائية في ود مدني، ثم فقد منزله لاحقاً بعد احتلاله من عناصر الدعم السريع، فغادر وأسرته إلى مصر براً، ثم لم يلبث حتى عاد إلى السودان في مايو الماضي، في رحلة نزوح عكسي مريرة وبطريقة التهريب المعروفة، تاركاً في مصر أمه وأخته وأخاه الصغيرين، “لأن المصاريف على وشك النفاد، ولا مصدر دخل لنا هناك”.
عاد مصطفى إلى مدينة دنقلا، وعمل في مطعم شعبي ليلاً، وسائق رقشة في الفترة الصباحية، وهو يرسل كل ما يوفره لتغطية إيجار الشقة في القاهرة فقط، ويبحث عن عمل ثالث، “لكن إذا لم أوفق فإن أسرتي ستضطر للحاق بي هنا“.
وشوهدت عمليات ترحيل جماعي للاجئين سودانيين مبعدين يومياً إلى “وادي حلفا” تكدست بهم الفنادق والنزل في الولاية الشمالية، ينامون في الطرقات والمساجد وسط شُحّ شديد في المياه وانقطاع خدمات الكهرباء وغيابٍ تام للسلطات المحلية وحكومة الولاية.
نوتة
اتهمت منظمة العفو الدولية السلطات المصرية في تقرير لها (19 يونيو 2024) بـ “ترحيل لاجئين سودانيين إلى بلادهم”، ترافق ذلك مع بثّ على وسائط التواصل الاجتماعي لما قيل إنها حملات منظمة لترحيل اللاجئين السودانيين في مصر، الأمر الذي عدّته المنظمة انتهاكاً للقانون الدولي من قبل السلطات المصرية التي “اعتقلت لاجئين سودانيين بطريقة جماعية ورُحلوا قسراً إلى السودان”. وأحصت المنظمة 3 آلاف من السودانيين الذين رُحلوا من مصر خلال سبتمبر الماضي؛ لكن القاهرة صرحت لبعض وسائل الإعلام بأنها لا ترحّل إلا من ارتكب جرماً ومن لم يحترم قوانين البلاد الداخلية.
لكن المُرحّل قسراً إلى السودان، سامر، يؤكد تعرضه رفقة أسرته المؤلفة من سبعة أفراد للاعتقال والحبس في المعتقلات والسجون المصرية، ويصف ما يتعرض له المهاجرون السودانيون من قِبل السلطات المصرية بأنه مجرد من المشاعر الإنسانية، وأنه انتهاك صارخ لحقوقهم بإجبارهم على العودة إلى بلادهم في مهانة وإذلال مريع.
ويروي سامر في حديثه لـ “أتَـر“، تجربة نزوحه من الخرطوم إلى ولاية الجزيرة، ومن ثم هجرتهم القاسية إلى مصر عبر البر وطريق التهريب: “بعد اجتياح الدعم السريع ولاية الجزيرة ودخولها القرية التي نزحنا إليها من الخرطوم، حيث روعوا الناس ونهبوا كل شيء، سافرنا إلى كسلا ومنها إلى عطبرة التي غادرناها إلى مصر في رحلة متعبة استغرقت سبعة أيام بلياليها في أجواء شديدة البرودة والجوع”.
في أسوان، ومع وصولهم إلى أول نقطة تفتيش مصرية، طالبوا بإجراءات الهجرة ومقابلة موظفي مفوضية النازحين، “لكن بدلاً عن ذلك تعرضنا للحبس في غرفة مساحتها خمسة أمتار في خمسة أمتار، مكتظة بالمهاجرين الذين بقي بعضهم حبيساً هناك لأكثر من شهر من دون محامٍ، وتفتقر إلى التهوية والإضاءة الجيدة، وتنعدم فيها المياه النظيفة، ولا تقدم لنا فيها إلا وجبة واحدة طوال اليوم”.
وقد لاحظ سامر أن أغلب المهاجرين الموقوفين في السجون المصرية من الشباب صغار السنّ، وتتراوح سنوات ميلادهم بين 2000 و2007، مع قلة من مواليد 1995، إضافة إلى امرأتين في سن السبعين مع حفيداتهما، وقد وُضعت على معاصمهن القيود في إهانة بالغة.
بعد التحري بصموا على أوراق لم يُسمح لهم بالاطلاع عليها، وقيّدت أيديهم ونقلوا إلى سجن أبو سمبل. “تعرضنا لأسوأ معاملة، من ضرب وشتائم وتمام السجن خمس مرات في اليوم الواحد، مع إمكانية تغيير بلاغات المعترضين إلى تهمة الاتجار بالبشر”.
وفي إثيوبيا، بدأ آلاف اللاجئين السودانيين رحلة العودة سيراً على الأقدام بعد 100 يوم من المعاناة قضوها بغابات أولالا، بعد ثلاثة شهور من المعاناة والمكابدة الشديدة.
وفي العشرين من يونيو المنصرم كشفت تنسيقية اللاجئين السودانيين بإقليم أمهرا في إثيوبيا، عن تهديد ممثل المفوض السامي لشؤون اللاجئين، وضباط الحماية للمفوضية بالإقليم، باستخدام القوة الجبرية وترحيلهم قسرياً إلى منطقة “أفتت” على الرغم من رفضهم التحويل إلى أي منطقة داخل إثيوبيا وتمسكهم بالإجلاء إلى خارجها، أو العودة للسودان، منوهةً في بيان تناقلته وسائط التواصل الاجتماعي، إلى استمرار معاناة اللاجئين في غابات “أولالا، وكومر” لأكثر من شهرين ونصف في أوضاع إنسانية بالغة التعقيد.