كانوا يعيشون على أعمال “اليوميّة“، يخرجون منذ الفجر إلى الأسواق والتجمعات، ينتظرون طلبات الناس لإصلاح ما أفسده الدهر أو الإنسان؛ غير أنهم باتوا يواجهون أوضاعاً استثنائية بعد أن وضعتهم الحرب أمام أقدار جديدة وأسواق وأماكن أخرى اضطروا إلى النزوح إليها، حيث لا يوجد من يتحمّس لإصلاح شيء يتربّص به الأعداء كل يوم. كيف يقاوم الصنّاع والحرفيون البطالة في وقت الحرب؟ وكيف يتعايشون مع الأوضاع الجديدة؟
عاش محمود القصّاص لسنوات طويلة في مدينة أم درمان، يعمل فيها حدّاداً ونقّاشاً، يُلين الحديد ويَطلي المنازل والجدران. جوَّد محمود من مهاراته وأنشأ ورشة خاصة به في أم درمان، شكّلت مصدر رزقه وأسرته. صمد القصّاص في أم درمان بعد الحرب قرابة الأربعة أشهر عاشها في الترقب والخوف، وتدريجياً فقد كل شيء حتى ورشة الحدادة. ترك حلمه مدفوناً في أم درمان، واتجه إلى مدينة شندي، لا يحمل سوى ساعدين قويَّيْن ومهارات الحدادة والطلاء.
يصف محمود القصّاص، واقعَ العمران في مدينة شندي، بأنه ضعيف ولم يستوعب أعداد الصنايعية والحرفيين الذين تدفقوا إلى المدينة في موجات نزوح متتابعة كلما اشتدّ أوار الحرب وتمددت أكثر، فعانوا من البطالة وتقطُّع فترات العمل. وتفتقر المدينة، من وجهة نظره، إلى الورش الكبيرة والماكينات الضخمة والمتوسطة التي تُسَرّع من وتيرة العمل وتحسّن جودته.
“الأجور متدنّية للغاية. في الواقع هنالك ظلم واضح يقع على العمال النازحين رغم تفوّقهم ومهاراتهم العالية وجديتهم في العمل المنجز بدقة وحرفية كبيرة”، يقول القصّاص في حديثه إلى “أتَـر”، ومن ثم يصف مشهدهم على قارعة الرجاء: “نجلس بالأيام في انتظار مِنّة العمل ولا تأتي”. ويذهب محمود للعمل أجيراً “طُلبة” تحت إشراف مقاول في أعمال البناء والتشييد المنزلي، تاركاً حرفة طلاء البوهية التي يجيدها وكانت تدرّ عليه دخلاً كبيراً قبل الحرب.
“لجأتُ إلى شندي بعد أربعة أشهر من البطالة المزمنة في أم درمان، لكن الحال لم يتغير كثيراً“، يتابع محمود.
وتنشط ورش الحدادة المتفرّقة في مدينة شندي في أعمال صغيرة، لا تتعدّى صناعة الأسِرَّة والأبواب المنزلية وأكشاك الحديد وإعادة الصيانة بمبالغ زهيدة. لكن بالنسبة لإبراهيم عوض الذي نزح من منطقة “الدروشاب” شمال الخرطوم بحري، فإن الأمر يختلف قليلاً.
عند اندلاع الحرب، كان إبراهيم يعمل بورشة الحدادة الخاصة به بمنطقة الدروشاب، بعدها أمضى عاماً قاسياً من دون عمل تحت القصف المدفعي والاشتباكات العنيفة في المنطقة الملتهبة. قرر الخروج بعد تعرضه لاعتقال رهيب من عناصر الدعم السريع، وقد صبّوا الوقود على رأسه منذرين بإحراقه حيّاً، بعد أن رفض فتح حسابه في تطبيق “بنكك” على هاتفه حيث يستقبل الأموال التي يرسلها شقيقه المهاجر لتدبير بقائه في حراسة البيت بعد نزوح الأسرة.
“عصبوا عينيّ وقيّدوني بالحبال. أطلقوا أعيرة نارية في الهواء لتخويفي، ومن ثم صبوا البنزين على رأسي وجسدي”، يقول إبراهيم متحدثاً لـ “أتَـر”.
أثناء تعذيبه، اشتدّ التدوين على المنطقة، وسقطت دانة بالقرب منهم، وهرب عناصر الدعم السريع مخلّفين وراءهم إبراهيم مُلقىً على الأرض، يقطر الدم من جسده وثيابه. “كدتُ أصابُ بالعمى“، يقول في حديثه مع “أتَـر”.
ينجو، لكنه يلملم معدّات عمله، ويقرر النزوح إلى غير رجعة.
يمضي شهرٌ كاملٌ يتحسّس فيه إبراهيم طريق العمل في بيئة آمنة من الحرب، لكنها ليست آمنة من البطالة عن العمل. تنتهي، رويداً رويداً، في خاطره، هواجس التدوين والاعتقال، ويجد أخيراً، بمساعدة بعض المعارف، مُقاولةً بنصف ثمنها الحقيقي، لكن صاحب العمل يماطله في الدفعيات، فقد أنجز العمل قبل التوقيت المضروب بأيام.
“أمتلك ورشة واسم عمل وخبرة لأكثر من ثلاثين عاماً، وهأنذا أعجز عن دفع إيجار المنزل”، يقول إبراهيم بأسىً، ويضيف: “في المساء أساعد صديقي النازح هو الآخر في الكافتيريا التي يعمل بها، لكن حظر التجوال يضطرنا للإغلاق منذ التاسعة مساء أثناء ذروة العمل“.
بين زمنين
كان الصنايعية والحرفيون يتجمهرون كل صباح، عادة، في قهاوي العمال. في أم درمان، شمال مسجدها الكبير، وفي وسط السوق العربي بالخرطوم في “قهاوي“ معروفة على شارع الجمهورية أو حول نادي العمال، وفي بحري يتراصّون في شوارع وأزقة سوقها الكبير، يتركون أثراً حيوياً على صباح أسواق العاصمة وضجة صاخبة مشحونة بأحاديث السياسة وكرة القدم وتصفح الصحف اليومية؛ قبل أن ينطلقوا إلى أعمالهم اليومية وينتشروا في الأحياء البعيدة.
بات مكان تجمهر العمال التاريخي في العاصمة الخرطوم ساحة معركة، وانتشر عناصر الدعم السريع في سوق أم درمان، واحترق سوق بحري بالكامل، واشتعلت النيران في قلب السوق العربي بالخرطوم ونُهِبت جميع محلاته، بما في ذلك القهاوي التي تأوي الصنايعية من غول الزمن.
تتكوّر دمعة قاسية في عين “العم حسن عوض” (78 عاماً) وهو يتذكر مشهد الحرب في يومها الأول: “لم أنقطع عن الحضور إلى القهوة في السوق العربي طوال 40 عاماً“، يقول المقاول العريق لـ “أتَـر”، ومن ثم يواصل حديثه: “رأيتُ آليات عسكرية ومدرعات تنتشر بسرعة في ذلك الصباح، والجنود يمتطون عربات الدفع الرباعي. في البدء ظننا أن ذلك انقلاب عسكري، لكن سرعان ما وقع ما هو أكبر، اشتباكات عنيفة، أصوات المدافع والآليات الثقيلة تدوي في السماء، الدخان يتصاعد والرصاص كثيف. لجأنا مذعورين الى البرندات والمحال التجارية”. يُطمْئن العم حسن ذويه عبر الهاتف أنه بخير، يودّع تلامذته وزملاءه ويعود بصعوبة إلى البيت وسط انهمار الرصاص من كل اتجاه.
“احترق السوق العربي وقهاوي العمال واحترقت ذكرياتنا هناك”، يقول لنا العم حسن. تموت زوجته بأزمة مفاجئة بعد خروج أغلب المستشفيات عن العمل، يتوكأ على عرجه الخفيف جراء إصابة عمل قديمة إثر سقوطه من بناية عالية، وينزح إلى مدينة ود مدني بعد احتراق السوق العربي في الخرطوم، ويعيش البطالة بعد الحرب، يلتحق ببعض تلامذته في الجزيرة فيُحسنون استقباله ويكرمونه بالإشراف على بعض الأعمال هناك، تسقط “مدني” في قبضة الدعم السريع، ويتهيأ العم حسن لرحلة نزوح جديدة وبطالة لا تنتهي.
مطاردات في غياب النقابات
تغيَّر المشهد حول استاد شندي وميدان المولد، منذ أن تحوّلت المدينة إلى منطقة نزوح، تجذب إليها المتأثرين بالحرب لاستئناف الحياة من جديد. واكتظت المنطقة، التي كانت ميداناً مُقفراً حتى وقت قريب، بورش الميكانيكا ومحال الإسبيرات وقطع الغيار وعشرات السيارات المركونة وروائح الزيوت وبائعي الأطعمة ومئات الصنايعية النازحين من مناطق صناعية مختلفة أخرجتها الحرب عن دائرة العمل، في الخرطوم ومدني وسنار وغيرها.
بدأوا هنا من الصفر، وواجهوا غلاء قيمة إيجار المحال غير المنطقي في أغلب الأحوال، ومضايقة السلطات المحلية بتحويلهم، كل مرة، إلى منطقة جديدة. وفي سوق الديم، بمدينة شندي، يُخبر المعلم “كنان” فريق “أتَـر” الذي طاف في جولة ميدانية حول المنطقة، أنه لاستعادة نشاطه في حقل الميكانيكا اشترى عدة كاملة، غير التي تركها في الخرطوم، وحوّل دكاناً مهجوراً إلى ورشة عامرة تستوعب نحو 8 عمال نزحوا معه من منطقة كوبر. ويشير المعلم كنان إلى جيرانه في ورشة لصيانة الركشات، الذين وفدوا من منطقة الثورات في أم درمان، ويعدد آخرين قدموا من منطقة الخرطوم 3 ومن مدني وسنار.
التقت “أتَـر” في جولتها الميدانية بالنازح الميكانيكي، نصر الدين طه، بعد أن نزح مع أسرته من بحري إلى مدني، وقد استُبيحت ورشته بالمنطقة الصناعية، وفقَد جميع أدوات عمله. وفي ود مدني بدأ طه استعادة بعضٍ من معداته، وعمل متجولاً في السوق الشعبي هناك أو مقيماً تحت شجرة، فلا مقرّ ثابتاً لعمله. وغداة اجتياح ود مدني في ديسمبر الماضي، غادر إلى المناقل ومنها إلى شندي التي أسّس فيها من جديد حقيبة أدوات جوالة، واختار شجرة أيضاً بالقرب من ميدان المولد اتخذها عنواناً لعمله، لكن السلطات المحلية ظلّت تطارده وزملاءه وتمنع استقرارهم في محيط المنطقة، وتبرِّر فعلها بأنه لدواعٍ أمنية ولسلامة المدينة، في غياب كامل لاتحادات العمال والنقابات المنوط بها حمايتهم وتنظيم أعمالهم.
يقترح المهندس صلاح عبد الله، وهو صاحب ورشة، ويعمل معه عدد من الميكانيكية وفنيي كهرباء السيارات، في حديثه لـ “أتَـر”، تخطيط ورش صغيرة مؤقتة للصنايعية والعمال النازحين من مناطق الحرب، لتحدّ من تشرّدهم وتُجنّبهم فرض رسوم عليهم ومطاردتهم من مكان إلى آخر. ومع غياب الجهات المنوط بها تنظيم ودعم الحرفيين النازحين وإحصاء مفقوداتهم وحصر الورش التي دمرتها الحرب، جزئياً أو كلياً، يقع هذا العبء بالضرورة على السلطات المحلية والولائية، بتقديم الدعم المهني.
أجهَض صراع الفترة الانتقالية السياسي، قبل الحرب، جميع الجهود المبذولة لاستعادة النقابات العمالية وإنشاء القوانين الخاصة بحمايتهم. وخاض العمال والنقابيون وقتها معركة كبيرة لاستعادة حقوقهم المسلوبة ومواجهة عسف النظام السابق في حقّهم تحت لافتات أصحاب العمل واتحادات نظام الإنقاذ. وأدى اندلاع الحرب إلى تبديد كل أمل في تكوين وتنظيم الحرفيين في مختلف المناطق والمهن.
يخبر الخبير النقابي محجوب كناري “أتَـر”، أن أعداد المهنيين غير المنظمين كبيرة جداً مقارنة بالمسجَّلين في نقابات نظام الإنقاذ، وهو الأمر الذي أدّى إلى استغلالهم بوجه سيء من قِبل النظام السابق بواجهاته المختلفة، والإجحاف في حقوقهم، ومواجهتهم بعسف شديد. استُبيحت أراضيهم المخصصة للورش، وتكالبت عليهم السلطة مع أجسام وهمية تتحدّث باسمهم.
“هنالك المئات من الحرفيين غير المسجلين، يفتقرون إلى الحماية والأدوات والتنظيم في السلم وأوقات الحرب، في مناطق التعدين والمدن الطرفية”، يقول عمار الباقر القيادي السابق بتجمع المهنيين السودانيين لـ”أتَـر“؛ ويضيف أن هنالك مجهودات بُذلت منذ 2020 لحماية الحرفيين، لكنها لم تحقّق تقدماً يُذكر. ولحمايتهم، يتعيّن تصنيف مهنهم وترتيب أولويات دخولهم، وتحديد معدلات الأجور وفق التصنيف والترقي المهني من أجل عدالة العمل وتوفير فرص التطوير والتأهيل، وطرق الحماية الأخرى خاصة ما يتعلق بالصحة المهنية، وتوفير أدوات السلامة وفق معايير الأمن والسلامة في المواقع المختلفة، والتصدّي لتغوّل وهيمنة الشركات في حالة المقولات الكبيرة وإبرام العقود لحماية حقوقهم في حالات مثل العجز وإصابات العمل.
“تاريخياً، يتمركز الحرفيون حول أندية العمال التي شيدوها بجهدهم الذاتي وحول أطراف الأسواق، وتكمن معركة النقابات الأولى في كيفية حمايتهم وتنظيمهم، واستعادة أنديتهم ومؤسساتهم وجمعياتهم، وإدارة المرافق الخاصة بهم وتشغيلها لمصلحتهم، والاتصال بسُلطات محلياتهم وتهيئة البيئة المناسبة وتحسينها”، يقول الباقر في حديثه مع “أتَـر“، ويتابع: “بعد الحرب التي دمّرت كل شيء، تقع على اتحادات العمال والنقابات مهمة حصر النازحين من المهنيين والعمال، وإحصاء أدوات العمل والممتلكات والورش التي فقدوها، وتعويضهم مع الجهات المانحة، وتخفيف وطأة الحرب عليهم، وتتبع مسارات نزوحهم في المدن الآمنة والمناطق التي لجأوا إليها“.