
سنار تصرخ: أكثر من 60 قتيلاً و100 إصابة خطيرة
محمد محامٍ أجبرته ظروف الحرب على النزوح برفقة أمه من قرية أم بِنين ثماني كيلومترات جنوبي سنجة على الضفة الغربية للنيل الأزرق إلى قرية العركيين شرقي سنار. في يوم الأحد الماضي – 8 سبتمبر – ذهب برفقة قريبه محمد الخاتم الأفندي إلى سوق سنار الكبير لشحن بطاريتي هاتفيهما، بدكان ابن عم الخاتم، وعند حلول الرابعة والنصف مساء، وبينما كانا يجلسان أمام الدكان تلبدت السماء بالغيوم، لكنها لم تكن غيوم أمطار، إنما غيوم القذائف التي أطلقتها مدفعية قوات الدعم السريع المُحاصرة لسنار منذ شهور بوسط السوق الكبير، في توقيت درج فيه الناس على شراء حاجياتهم والعودة إلى منازلهم.
لقي محمد الذي بدأ حياته المهنية بالمحاماة مصرعه نتيجة القصف. وكان قد عقد قرانه على فتاة من القضارف، وعزم على قطع المسافة إليها مع أمه لإكمال مراسم الزواج خلال شهر، لكن الموت لم يمهله، مات هو ورفيقه محمد الخاتم دون أن يتأكدا من إكمال شحن هاتفيهما بالكهرباء، ولم يعلم صاحب الدكان بمصيرهما، إذ هو الآخر دخل المستشفى لإجراء عملية جراحية عاجلة بعد أن اخترقت الشظايا جسمه واقتربت من الكلى.
كانت المدينة في ذلك المساء قد دخلها رعبٌ لم تشهده حتى أيام دخول الأتراك إلى سنار وسقوط السلطنة الزرقاء في عهد المك عدلان، إذ لم يكن القتلى جنوداً في أرض المعركة، بل كانوا أطفالاً وعجائز ونساء يعملون أو يتسوقون. خمس قذائف مدفعية أحالت المكان إلى حُلكة والشمس لما تزل في بدايات الشفق القرمزي، جثث تبعثرت عند الضربة، فهرع الناس يركضون لكنهم عادوا سريعاً لتفقد حالات الذين أصابتهم، فإذا بالضربة الثانية تأخذ أرواح الذين عادوا أيضاً، ثم ضربة ثالثة ورابعة وخامسة.
انقشع غبار الضربات، وإذا بالناس أشلاء على الأرض: أيادٍ مبتورة، رجل يحمل طفلاً بلا رأس، جثتان جرى التعرف على صاحبيها من أوراق ثبوتية كانت بملابسهما بعد انفصال الرؤوس. اجتمع الناس للملمة الجثث في مكانٍ واحد وتغطيتها، ولملمة الأطراف المبتورة في الدرداقات، ونقل الجرحى إلى المستشفى، وقد امتلأ عن آخره بالمصابين، وهم يلتقطون أنفاسهم الأخيرة في ظل قلة عدد الكوادر الطبية وشح الدواء، فأطلق تجمع شباب سنار نداء لكل طبيب قريب أن يذهب إلى المستشفى، وكل قادر على التبرع بالدم أن يسرع. وكان تجمع الشباب قد أعلن حينها عن مقتل 30، وإصابة أكثر من 100 معظم حالاتهم حرجة.
عند الثامنة مساء ارتفع عدد القتلى إلى أربعين، في ظل وضع صحي مأزوم بسبب نزوح عدد كبير من الأطباء منذ سقوط سنجة عاصمة الولاية. وفي اليوم التالي للقصف ارتفع العدد إلى واحد وستين قتيلاً، والعدد قابل للزيادة بحسب بيان تجمع شباب سنار بسبب النظام الصحي المنهار. لا أحد يزور المستشفى إلا ويُصاب بالغثيان من هول ما يرى، حيث المأساة قد بلغت مداها البعيد.
كانت أفادت تقارير لمنظمة اليونسيف بالسودان، بمقتل أو إصابة ما لا يقل عن 30 طفلاً عندما سقطت عدة قذائف على مدينة سنار جنوب شرق السودان.
يقول عز الدين رحمة الله، تاجر خضار بالسوق المركزي الخرطوم، وعاد إلى سنار بعد الحرب وأصبح مورداً لليمون، إنّ ثلاثة عشر من بائعي الليمون الذين كان يتعامل معهم قضوا في ذلك الحادث، يقول ذلك لمراسل “أتر” بعبرة خانقة.
منصور علي، تاجر بالسوق حضر الحادث، يقول: “كان بيني وبين الموت 20 متراً لكنّ الدانة وقعت على كومة من التراب، ولم تنفجر رغم الغبار الكثيف الذي أثارته“، ويضيف في حديثه لمراسل “أتر”: “كنتُ مع صاحبي وقد طلب مني الذهاب إلى الملجة لشراء خضروات، ولكني رفضت بإصرار نسبة لتأخر الوقت، ونحن نسكن في منطقة بعيدة والمواصلات قد تنقطع، ولم تمضِ دقائق حتى فارقت الملجة الحياة قبل أن يفارقها أصحابها بعد أن اهتزت على وقع التدوين“.
يمضي منصور بالقول، إنّ أشد ما أحزنه هو أطفال الدرداقات، وهم فتية يسوق الواحد منهم الدرداقة أمامه يحمل أمتعة الناس التي ابتاعوها حتى يوصلها لهم من داخل السوق إلى محطة المواصلات، مقابل 500 جنيه، لكن آلة الموت حصدت عدداً كبيراً منهم. ثم يقول بفؤاد مُعتصَر بالألم إن والدة أحد الصبية جاءت تبحث عنه في اليوم التالي، فوجدت درداقته قد أحدثت فيها الشظايا ما أنبأها بمصير ابنها فقصدت المستشفى بالبكاء والعويل.
وكان تجمع شباب سنار قد نعى والد محمد فيصل “كجل“ عضو غرفة طوارئ “سنار بيتك“، جراء القذيفة التي سقطت بحي البنيان. وغرفة طوارئ “سنار بيتك“ هي التي تهتم بأحوال الوافدين إلى الولاية من ناحية توفير المأوى والأكل والشرب منذ سقوط مدني عاصمة ولاية الجزيرة.
قبل أسبوعين، كان القصف الأول على المدينة، وراح ضحيته أكثر من عشرين قتيلاً وعشرات الجرحى، بالتزامن مع دخول الشاحنات المحملة بالبضائع بعد غياب طويل جعل المدينة أو الولاية جميعها على مقربة من مجاعة شاملة، ولم تفق المدينة من ذلك الكابوس المرعب، حتى أتاها الأكثر رعباً.
ويوم أمس الأربعاء تعرضت المدينة إلى قصف بـ ٤ دانات سقطت في محيط قيادة حامية الجيش بسنار، ولم يتأكد بعد ما إذا كان هنالك قتلى أو مصابون جراء القصف.
بعض الأموات ظلت جثثهم بالمستشفى لثلاثة أيام، وبعضهم لم يُتعرَّف عليه، وهكذا صارت مدينة سنار بين ثالوث مرعب: الحصار، غلاء الأسعار، والموت المتربص بالجميع.
الجزيرة أبَا: منازل تنهار بسبب غزارة الأمطار
ليلة السبت الموافق للحادي والثلاثين من أغسطس الماضي شهدت مدينة الجزيرة أبا بولاية النيل الأبيض أمطاراً غزيرة، تسببت في وفاة 3 أشخاص، وتضرر ما بين 1700 و2000 منزل كلياً، وما بين 600 و750 منزل جزئياً، بحسب ما أوردته قناة بحر أبيض 24 على صفحتها بفيسبوك. وبدأت لجنة طوارئ الخريف في الجزيرة أبا، بتنفيذ عمليات التدخل السريع لدعم الأسر المتضررة وتقديم المساعدات.
وشملت الأحياء المتضررة، الإنقاذ الغربي، الغار، الرحمانية، المزاد، حي زغاوة، مربع 3 رحول غرب، حي بني هلبة، حي فلاتة، حي بني حسين، حي الواحة رحول شرق الطيارات، وحي امتداد كبرى مرجب.
تقول المواطنة فاطمة ضو البيت من حي الرحمانية جنوب غرب، بمدينة الجزيرة أبا، وقد تضرر منزلها جزئياً، إن الحمامات وإحدى الغرف قد انهارت، وأيضاً جزء من سور المنزل.
فاطمة أرملة وتقيم مع ابنتها وأحفادها الخمسة، ونازحة من الحرب. واضطروا إلى عمل حصير للحمامات لكي يتمكنوا من استخدامها مرة أخرى مؤقتاً ليحاولوا ترميم الأجزاء المتضررة، بعد نهاية فصل الخريف.
وتقول المواطنة مريم نصر الدين من حي الرحمانية أيضاً، إن منزلهم بدأ بالسقوط بينما كانوا نائمين بسلام: “كان المطر يهطل بغزارة فسمعت أختي تصرخ، ثم نظرنا في جدران الغرفة فوجدنا شقاً كبيراً، أسرعت أختي للخارج لكي تخبر والدي الذي يقيم بالغرفة المجاورة، وفجأة سمعنا صوت دوي قوي وانهارت الغرفة التي يبيت بها أبي هي الأخرى، ولحسن الحظ أنها سقطت للخارج ولم تسقط للداخل وإلا لكانت قد سقطت به“.
“انهارت الغرفتان وتلاهما المطبخ والصالة على التوالي، وحاولنا إخراج ما تبقى من أجهزة المنزل والأثاث“.
هب الجيران لمساعدة أسرة مريم، حيث قضوا بقية ليلتهم معهم. وفي صباح اليوم التالي تبرع فاعل خير بمنزل لأسرتها ليقيموا به ريثما يتمكنون من إعادة بناء منزلهم.
“في صباح السبت ٣١ أغسطس الساعة الثالثة والنصف صباحاً كانت الأمطار غزيرة جداً”، تقول منيرة أحمد، من حي الرحمانية، وتواصل: “لاحظنا أن الغرفة تصدر أصواتاً، وجزء منها بدأ بالتساقط فأخلينا الغرفة تحسباً لأي مكروه، وفي تمام الساعة الرابعة صباحاً سقطت الغرفة، فقمنا بنقل الأثاث والأشياء المهمة من الغرفة ومن بقية الغرف الآيلة للسقوط، ولم يتبقَّ من المنزل سوى الصالة والمطبخ ونحن أسرة كبيرة ومعنا نازحون“.
تقول منيرة إنهم لم يشهدوا من قبل أمطاراً بهذه الغزارة بالجزيرة أبا، منذ عشرات السنوات، ولا توجد أية جهة قدمت لهم المساعدة لكن جرى تسجيلهم من قبل لجان المحلية.
متحدثاً لمراسل “أتر”، يقول محمد محمد علي، مواطن من حي الإنقاذ، إن حيهم تضرر بنحو بالغ، ووصل مستوى الماء أعلى منتصف الساق، مما تسبب في شل الحركة والحياة الطبيعية، فـ”الجنازات والمرضى يجري نقلهم بالمراكب“.
يتحدث محمد محمد علي بأن على الجهات المسؤولة متمثلة في المحلية أن تساعد على توفير المعدات اللازمة لتصريف المياه: “لا يُعقل أن نعيش ونحن مغمورون بالمياه بالأيام، ونفتقر إلى أبسط المعونات لتصريف للمياه والمشمعات إذا هطلت الأمطار مرة أخرى“.
أمل إبراهيم نازحة من الخرطوم فتحكي لمراسل “أتر“، أن الأمطار الغزيرة التي هطلت بأواخر أغسطس قد تسببت في أضرار جسيمة على منزلهم الذين استأجروه، فسور المنزل تهدم وكذلك الحمامات، والمنزل مهدد بالسقوط، فبناؤه قديم ومهجور لعشرات السنين؛ “فلولا النزوح خلال الحرب لما عاد الناس للإقامة بالمنازل المهجورة بالولايات” .
“قبل الأمطار الغزيرة والدمار الذي أحدثته، كنا نمني النفس بأن تتوقف الحرب وتخف موجة غلاء المعيشة، أما الآن فهمنا الأكبر هو ألا تسقط المنازل فوق رؤوسنا“، تقول أمل.
أم درمان: الاحتفال بالمولد النبوي داخل المساجد
للعام الثاني على التوالي، يفتقد سكان أم درمان أصداء الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف التي كانت تعبق لياليها بالمديح والذكر والأناشيد الصوفية وحلقات الذكر.
وبينما يحتفل الناس بالمولد النبوي في جميع المُدن السودانية والقرى المترامية والخلاوي البعيدة، لكنه في المدينة التي تميزت بأسطورتها كأول عاصمة قومية، يتميز بطابعه المغاير ونهجه المختلف.
لا تكتفي أم درمان بجر بساط المولد من المُدن النائية، فحتى ضلعا مثلث العاصمة الآخرَيْن بحري والخرطوم، تنفرد أم درمان عليهما في طريقة التنظيم وأساليب الاحتفال ورمزية الموقع وعدد الزوار.
وقد لا توجد مدينة في السودان توفرت على ساحة بدلالة تاريخية مثل ميدان الخليفة عبد الله التعايشي الذي كانت تقام فيه صلوات الجماعة، إضافة إلى مناسبة الاحتفال بالمولد، سوى أم درمان التي جعلت من مناسبة المولد مناسبة خاصة بها وحدها.
وفي غير ذلك، فهي التي ترتدي حُلتها الزاهية، وتمتلئ طرقاتها بالمريدين والدراويش وترتفع مآذنها بالصلوات والابتهالات والذكر على مدى أيام المولد الذي تقيم به ساحة ميدان الخليفة، ويُقام في مناطق أخرى في الأحياء الطرفية.
لكنْ مثلما حدث العام الماضي، لم تحتفل أم درمان هذا العام أيضاً بالمولد، واكتفت بزفة صغيرة بدأت في شارع الوادي وانتهت في شارع النص بالثورة، ولم تتجاوز مدتها ثلاث ساعات خلت من بهجة الأطفال وافتقرت إلى زغاريد النساء واستعراض الخيالة من شرطة السواري الذين كانت مهمتهم حماية الموكب حتى ميدان الخليفة الذي يحمل اسماً إضافياً وهو ساحة المولد.
اختفت الزفة التي كانت ولسنوات لا تحصى تنطلق من ود نوباوي وتتفرق داخل ساحة المولد الذي يتحول لسوق عامر بسلعة الدنيا والآخرة، وفقاً لوصف أحمد عبد الله وهو شيخ حافظ بمسيد الصائم ديمة. يقول لـ”أتــر”: “هناك من كان يأتي لتجارة الدنيا، وهي رابحة، لأن الناس ومن شدة كثرتهم يفيدون أصحاب السلع المعروضة في السوق حول مكان المولد، فضلاً عن تعبير الناس عن المحبة والذكر وتقوى الله“.
حُرم رواد المولد من عاداتهم، للعام الثاني، وقد قررت محلية كرري وهي آخر ما تبقى تحت سيطرة والي ولاية الخرطوم، أن تقيم كل طريقة صوفية احتفالات في مقرها، وكذلك سُمح بالاحتفالات في المساجد.
وقال الطيب سعد الدين وهو مدير الإعلام بمكتب والي الخرطوم، لمراسل “أتر”، إن الوالي أصدر توجيهاً لإدارات الطرق الصوفية بأن تتفرق بعد الزفة التي انطلقت في شارع النص بمدينة الثورة، وبعدها تكتفي بالاحتفالات في دور العبادة والخلاوي والمساجد وأن تمارس أذكارها بالطريقة التي تريدها.
وفصل الطيب بالقول إن الولاية رأت خطورة على حياة الناس في الاحتفالات في الأماكن العامة والساحات المفتوحة، وتوقعت أن يحدث تدوين من قبل الدعم السريع لتجمعات المواطنين، ولذا وجهت بأن تكون الاحتفالات داخل مقرات الطرق الصوفية على تنوعها.
وبالمقابل، قال عدد من المواطنين تحدثوا لـ “أتـــر” إنهم كانوا يرغبون في حضور المولد النبوي الشريف يقام في ساحة ميدان الخليفة بعد أن كثر الحديث عن تطهير أم درمان وتراجع الدعم السريع.
وقال عبد الهادي الصديق من بيت المال، ونازح بالحارة التاسعة بالثورة، إن إقامة المولد بساحة الخليفة كان يمكن أن تكون دليلاً قاطعاً على “تنظيف وتطهير أم درمان“، وتمنى لو أن السلطات أعلنت حالة إيقاف إطلاق نار ولو مؤقتاً في أم درمان خاصة من أجل إقامة المولد النبوي عسى أن تتنزل الرحمة على قلوب المتقاتلين ويجنحوا إلى السلم.