أتر

عين على: الأبيّض: ما وراء الأخبار 

اشتباكات

عند منتصف نهار السبت 6 سبتمبر الجاري، هاجمت قوات الدعم السريع مدينة الأبيّض، فتصدّت لها قوات الهجانة والاحتياطي المركزي والأمن. قبلها بأيام، بدأ الجيش في قطع طريق الأسفلت باستخدام حفارات البوكلين لمنع الدعم السريع من التقدم نحو المدينة. وكانت القوات المهاجمة التي جرى تجميعها من الدبيبات وأم روابة تسعى إلى إحباط مهمة الجيش ومصادرة معدّات الحفر. وقد استمر القتال حتى المساء، وتأثرت به بعض الأحياء جنوبي وغربيّ المدينة، وهي الوحدة وشيكان والسلام والتضامن. وسقطت قذيفة في حي السلام تسببت الشظايا المتطايرة منها في جرح صبي، بينما راجت أخبار عن مقتل بعض عناصر القوى المهاجمة وجندي من الجيش.  

تواصل التراشق مساء نفس اليوم، بإطلاق عددٍ من دانات المدفعية من داخل مقر الفرقة الخامسة مشاة رداً على قذائف انطلقت من مواقع الدعم السريع. واستُؤنف القتال صباح اليوم التالي (الأحدلينتهي بإطلاق ثلاث دانات من مدفعية الجيش. 

حينها، كانت قد مضت 20 يوماً على آخر هجوم نفذته قوات الدعم السريع على المدينة، في 14 أغسطس الماضي، راح ضحيته 21 قتيلاً و120 جريحاً حسب تصريح وزيرة الصحة الولائية للإذاعة السودانية.  

وفي أوضاع كهذي، لعل فداحة انتظار الموت لا تقل وطأة عن الموت ذاته، داخل مدينة محاصرة من جميع الاتجاهات، ولا أحد يدري على وجه الدقة متى ستتعرض للهجوم التالي، بعد أن واجهت أكثر من 40 هجوماً منذ انطلاق الرصاصة الأولى، ولا يمكن الحصول على معلومات يمكن الركون إليها فيما يتعلق بالمواجهات التي يمكن أن تندلع في أي لحظة، وارتكازات الدعم السريع لا تُميّز بين المساكن والأعيان المدنية ومقرات الجيش والقوات الأمنية الأخرى. وقطعاً، سوف ينداح الموت عبر المدينة مثل موجة سوداء مع كل اشتباك أو قصف. 

وفي ظل التعتيم على المعلومات، تسود الشائعات التي تصْدُق في أغلب الأحيان؛ وقد سبق الهجوم قبل الأخير تردُّدُ شائعةٍ في عدة مناسبات اجتماعية أن المدينة ستتعرَّض لهجوم، ولم يُعِرْ أحدٌ تلك الأحاديث اهتماماً. وقد وقع الهجوم فعلاً، بالطريقة ذاتها ومن الاتجاه ذاته مثلما راج في المدينة. 

وفي الآن ذاته، لا تقدم الجهات الرسمية في مختلف المجالات المعلومة لمن يطلبها، حتى وإن لم تكن ذات صلة بالناحية الأمنية. وفي مسعى مراسل “أتَـر” للحصول على إحصائية بأعداد الجرحى والمصابين الذين دخلوا مستشفيات المدينة، اشترط عليه مصدر رفيع المستوى بالمستشفى إحضار إذن من وزارة الصحة كي يقدم إليه المعلومات؛ كما اشترطت عليه جهات أخرى في التعليم الحصول على الإذن ذاته من وزارة التربية والتعليم للحديث عن تأثير وجود النازحين على سير العام الدراسي. 

حصار اقتصادي

حسب الصورة التي يجري رسمها عبر حجب المعلومات، تبدو المدينة وكأنها قد خرجت عن دائرة الخطر وباتت عصية على توغل قوات الدعم السريع بفضل الجهود التي تبذلها القوات الأمنية، وهي تكتفي بتعقب القوات المهاجمة إلى مناطق ارتكازها على بُعد عشرات الكيلومترات، ثم تُشيِّعهم بقذائف الهاون لتأكيد انسحابهم وابتعادهم عن المناطق التي يطلقون منها نيران أسلحتهم، لتسقط شظاياها وتصيب المدنيين.  

لكن من يرتادون سوق المدينة من الأحياء الطرفية في الصباح، يخبرون المواطنين بأن القوات التي طُردت بالأمس، قد عادت إلى الأماكن التي انسحبت منها، لتُمارس نشاطها المعهود في جمع الجبايات من المواطنين باستخدام السيطان. 

وبحسب مراقبين، لا تستطيع مجموعات الدعم السريع أن تبتعد أكثر عن المدينة لأنها تعتمد على الأسواق الطرفية في الحصول على احتياجاتها، وهي كذلك تتحصل على المال من توسطها الطرق الداخلة والخارجة من المدينة وإليها، فضلاً عن أن وجودها وسط الأحياء السكنية يحدّ من استخدام الطيران والمدفعية بعيدة المدى ضدها. وإن كان الجيش قد نفذ ضدها ضربات جوية على طريق الأبيضبارا، وفي أم صميمة وفي المدن التي تسيطر عليها خاصة أم روابة والرهد؛ فإن التكتيكات التي تتبعها تلك القوات بالتمترس داخل المدن والقرى والفرقان، قد أجبرت الجيش على مواجهتها بالمشاة والدبابات والمدفعية المتوسطة المحمولة على العربات القتالية، ما أدى إلى حالة توازنٍ في القوة وفي كثافة النيران بينهما.  

لكن وجود الدعم السريع على المعابر والطرق الرئيسة، قد تسبب في اختناق المدينة، لذا اصطُنِعَتْ أسواقٌ جديدة في كلٍّ من المزروب وأم كريدِم والنهود، باتت تغذي سوق الأبيض بالسلع الغذائية التي تردها من الدبة وأم درمان. ولا يمكن تجنب طرق الإمداد التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.  

وقد أخبر تاجر في سوق الأبيض “أتَـر“، بأن بعض السائقين حاولوا تفادي تلك الطرق، لكن انكشف أمرهم عن طريق العيون التي تبثها تلك القوات في الطرقات، وفي مصادر توريد البضائع، فلاحقتهم وفرضت عليهم غرامات مضاعفة، بلغت 13 مليار جنيه على كلِّ عربة، وكان عددها 6 عربات. 

ولتجنب الدخول في مواجهات لا تحمد عقباها يُبرم التجار اتفاقيات مع القبائل التي تقع قراها وفرقانها على طول تلك الطرق، مثل قبائل الكبابيش والبزَعة ودار حامد التي تتجنب قوات الدعم السريع الدخول معها في مواجهات؛ لكنّ تلك القبائل بدورها تطلب مبالغ كبيرة لتفويج الأطواف تحت الحماية المسلحة. كذلك يعتبر أصحاب الشاحنات أن عملهم ينطوي على مجازفة، لذا يطالبون بدفع ثمن الرحلة قبل الشحن، فوصل إيجار الشاحنة سعة 1100 جوال إلى 15 مليار جنيه، فضلاً عن تكلفة التفويج التي تخضع لتقديرات قيادات تلك القبائل، وقد تصل إلى 13 مليار جنيه. وتتراوح الجبايات التي تتحصلها ارتكازات الدعم السريع على طول الطريق بين مليارين و3 مليارات جنيه. 

وبحسب تاجر تحدث إلى “أتَـر“، فإن الاستنزاف لا يتوقف عند هذا الحد، إذ يتعيّن على الشاحنات عند بلوغها مدخل المدينة عند جبل أبو الغر أن تدفع عوائد يبلغ عددهاإلى الجمارك والضرائب وجميع أقسام القوات النظامية ومحلية شيكان 

لهذا كله مجتمعاً، لا تكاد الأسعار تستقر على حال.  

ومن خلال رصدها لتقلبات السوق في الأبيّض مطلع هذا الأسبوع، وقفت “أتَـر على قفزات مروعة سجلتها أسعار السلع.  

السلعة السعر (جنيه سوداني)
العدس 20 كيلو 105,000
السكر 50 كيلو 290,000
زيت الفول جركانة 36 رطل 88,000 (كان سعرها 92,000، وهو في انخفاض الآن بسبب عودة الكهرباء)
الدقيق 25 كيلو مصري 105,000
الدقيق السوداني 25 سيقا 112,000
صابون غسيل 40 في 170 جرام 33,000
الصلصة المصرية (دستة علب) 30,000
الشعيرية والمكرونة نوبو 20 في 300 جرام الكرتونة 30,000
المكرونة التركية 20 في 400 جرام الكرتونة 30,000
الرز 20 كيلو 30,000
رطل اللبن 1,200
كيلو اللحمة (بقر) 5,000
كيلو اللحمة (ضأن) 10,000
طبق البيض 12,000
جوال الملح 50 كيلو 75,000
جوال العيش طابت 290,000
جوال القمح 320,000
جوال الفتريتة 210,000
ملوة الدقيق طابت 12,000
ملوة الدخن 12,000
5 قطع خبز 20 جرام 1,000

ويُلحظ من خلال هذا الرصد أن سلعة مثل الدقيق زاد سعرها 30.000 جنيه خلال 10 أيام فقط. 

حصار مضاعف

أمام قسوة هذه الأحوال العصيبة في الأبيض المحاصرة يكابد جميع المواطنين، لكن النازحات في مدارسها ودور إيوائها يكابدن حصاراً مضاعفاً، لا سيما أولئك اللواتي نزحن من قرى تحيط بأطرافها المدينة، بعد النزاعات القبَلية التي جددتها حرب أبريل، ووجد المتقاتلون فيها سانحة للاعتداء والثأر. وقد تدفقت النساء من منطقة “البركة” صوب مدينة الأبيض هرباً من تلك النزاعات، وتوزعن بالمئات في مدارسها. كان ذلك قبل أن تنقل حملات التحويل عدداً منهن إلى المعسكر المركزي الواقع بالقرب الميناء البري، بعد استهلال العام الدراسي وافتتاح المدارس. 

تقول بعض النازحات اللائي تحدثن لـ “أتَـر”، إن أوضاعهن تردّت كثيراً بعد إجبارهن على الانتقال إلى المعسكر المركزي، لأنه معزول ولم يعد باستطاعتهن التداخل مع السكان كالسابق ومزاولة أعمال التجارة الصغيرة التي تُسهم في دفع وضعهن المعيشي إلى الأحسن. ووفقاً لحديثهن فقد انعقدت مؤخراً لجنة طارئة من قِبل حكومة الولاية ومفوضية النازحين لتدارك كوارث الخريف والوبائيات وتحسين أوضاع النازحين، لكن لا توجد حتى الآن سوى وعود من قِبل عدة منظمات، وهنالك مساعدات معلقة لم تجد طريقها إلى المحتاجين، بسبب إغلاق الطرق وانعدام استقرار الوضع الأمني، دون أن يفقدن الأمل في فتح الطرق وتسهيل وصول المواد والمساعدات الغذائية. 

في مدرسة الرحمة، الواقعة شمال مدينة الأبيض، تتوثب نظرات حواء بالأمل والتفاؤل، رغم أنها فقدت حملها، نتيجة مضاعفات صحية حادة. كانت تعاني من فقر الدم والجوع واضطرت للاستدانة حتى تتمكن من تسديد رسوم الولادة في المستشفى. فقدت حواء طفلاً من قبلْ أثناء محاولتها النجاة من منطقة البركة وتسلقها الأسوار هرباً من القتل، وتحاول الآن تدبير أمرها بعد أن تبرع لها أحد الخيرين بكمية صغيرة من الفول السوداني شرعت في بيعه مقسماً في أكياس صغيرة. 

 تتجاور “حواء” و”زهرة” في سكنى المدرسة ذاتها. تركت زهرة في قريتها بمنطقة البركة اثنين من أفراد أسرتها؛ أحدهما من ذوي الإعاقة والآخر مصاب بطلق ناري، ولم تستطع اصطحابهما. وهي تعمل الآن في نظافة المنازل لتعيل طفلها  الأصغر، بينما يعمل الأكبر سناً في مسح الأحذية (الورنيش).  

المياه غير متوفرة، إما أن نشتريها أو نجلبها على الرؤوس من مسافات بعيدة”، تقول زهرة لـ “أتَـر“. 

تعيش مريم صالح، مع طفل بعمر السنتين، في منطقة “الكرانك”، في مدرسة 3، وهي خيام وزعتها المنظمات داخل سور المدرسة، ولم تضطر لإخلاء الفصول مثل بقية النازحات. سافر زوجها للتنقيب عن الذهب وانقطعت أخباره منذ فترة طويلة، وتفرق شمل أسرتها الكبيرة بعد صعوبات العيش في المدارس، فنصبوا خيامهم في إحدى البقاع البعيدة في مدينة الأبيض، ولا يعودون إلا بعد توارد أخبار المساعدات التي توزع في المدارس في فترات متقطعة، وتوقفت كلياً منذ شهر رمضان الماضي.  

أصيبت مريم بالتهاب ملتحمة العين واسع الانتشار بين النازحين، وتعافت منه بعد أن قدمت “منظمة الهلال الأحمر” العلاج المجاني للنازحين؛ وتقول إنهم يقتاتون من بيع الفول السوداني، ويعمل الرجال في مهن هامشية بعد أن تركوا حرفة الزراعة بسبب الحرب وفقدوا قطعان مواشيهم 

يتعايش النازحون في مدرسة 3 في تعاون مثمر، رغم صعوبة الأوضاع المعيشة، وفقدان كثير من الأسر متطلبات الحياة الضرورية، والحاجة الماسة لمجابهة انتشار الوبائيات وأمراض الخريف، والحاجة إلى الناموسيات لدرء خطر البعوض وغياب المساعدات الإنسانية. 

لا يتلقى أطفال النازحين في مدرسة 3 تعليماً. وقد وعدت إحدى الجهات بتعليمهم تعليماً خاصاً في فصول محددة، من الساعة العاشرة صباحاً وحتى الثالثة مساء، لكنها اختفت بعد توزيع النتائج ولم تعاود الاتصال بهم مرة أخرى. تخبر مريم “أتَـر“. 

هكذا تكابد مريم كغيرها من النازحات في الأبيض، لكنها تفهم ما يكابده أهل المدينة أيضاً: “في البداية رحّب بنا أهل الحي، وجلبوا الوجبات اليومية طوال أسابيع، لكن ذلك توقف تدريجياً بسبب الغلاء الطاحن الذي يجتاح المدينة تحت وطأة الحصار”.  

Scroll to Top