كان حمدان صافي النور، وهو تاجر ضأن، يتنقّل منذ سنوات بين أسواق المواشي في كردفان ودارفور، لشراء أعداد محددة من الخراف، ونقلها عبر طُرق واضحة المعالم، إلى الأسواق الرئيسة في العاصمة الخرطوم ومدينة ود مدني بولاية الجزيرة.
وفي مرات نادرة، لكنها حدثت أكثر من مرة، نقل حمدان خرافاً دون أي مشقة إلى الولاية الشمالية.
بعد مرور 17 شهراً على الحرب التي اندلعت في منتصف أبريل العام الماضي، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تغيّرت الطُّرق والمسارات التي كان يستغلّها تجار المواشي بين الولايات ومنافذ التصدير، وتغيرت أيضاً خارطة الأسواق نفسها، إذ نشأت أسواق جديدة، و أغلقت أخرى أبوابها، و تمددت بعض الأسواق التي كانت موجودة سلفاً واتسعت مساحتها.
ترافقت هذه التغيّرات مع مجريات الحرب، التي ظلت تلتهم منطقة تلو الأخرى. وتبعاً لذلك تأثر قطاع الثروة الحيوانية على نحو غير مسبوق في تاريخ السودان، الذي يعدُّ ضمن الأغنى عالمياً من ناحية توزيعها. وتشير التقديرات الأخيرة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، إلى أن السودان يحتل المرتبة الثالثة بين الدول الأفريقية من حيث أعداد الثروة الحيوانية.
كانت أسواق المواشي قبل الحرب على صلة ببعضها البعض، عبر ولايات السودان المختلفة، تبدأ من الأسواق الصغيرة في مناطق الإنتاج التي ترد إليها القطعان من الرعاة مباشرة، ومنها تنتقل عبر صغار التجار الذين يقومون بمهمة شراء المواشي من صغار المنتجين إلى الأسواق المتوسطة.
ويشرح حمدان صافي النور لـ “أتَـر” عملية تجميع المواشي من الأسواق الصغيرة، لتتراكم أعدادها في الأسواق المتوسطة، قائلاً: “تنشأ الأسواق الصغيرة غالباً في القرى والأرياف البعيدة بالقرب من مواقع الرعي، ويجلب الرعاة رؤوساً قليلة تتراوح أعدادها بين واحد و5 رؤوس، وذلك حسب حاجة كل واحد للمال الذي يقضي به احتياجاته اليومية”.
ومن تلك الأسواق، يشتري صغارُ التجار الأغنام، ومن ثم يجري نقلها إلى الأسواق المتوسطة، وفي هذه الأخيرة يصبح البيع بين صغار التجار وآخرين يملكون رؤوس أموال أكبر تمكنهم من شراء بضع آلاف من الرؤوس، بعدها تُنقل إلى الأسواق الكبيرة، ليُستهلك جزء منها محلياً، ويُباع بعضها الآخر إلى تجار يعملون في صادر المواشي.
وبحسب عدد من المُصدِّرين تحدثوا لـ “أتَـر”، فإن فترة الحرب قد شهدت زيادة كبيرة في صادرات المواشي الحية إلى السعودية ودول خليجية أخرى. وقال مُصدِّرون – طلبوا حجب هوياتهم لدواعٍ أمنية – إن هنالك أطرافاً في وزارة التجارة والغرفة التجارية تنجز جميع إجراءات الصادر مقابل مبالغ زهيدة تتراوح ما بين 50 و60 ألف جنيه للرأس الواحد ضمنها تكلفة الشحن من بورتسودان إلى جدة.
ووفقاً للمعلومات التي تحصلت عليها “أتَـر“، فإن أفراداً لديهم سجلات يستأجرونها للمُصدِّرين وتجار المواشي، ويكملون نيابة عنهم جميع الإجراءات التي سُهِّلت بأقل مما كانت عليه قبل عام.
وكان وزير المالية جبريل إبراهيم، قد أعلن في مارس الماضي، في تصريحات صحفية، أن صادرات الثروة الحيوانية ارتفعت في 2023 مقارنة بعام 2022 رغم ظروف الحرب. وبلغت صادرات المواشي الحية 4.72 مليون رأس.
وسبق أن طالبت وزارة المالية بإلزام مُصدِّري المواشي بتسديد حصائل الصادر مقدماً قبل التصدير، بحجة أنهم أصبحوا يتهربون من دفع التزاماتهم المالية لدى الوزارة.
وبالعودة إلى ما قبل اندلاع حرب منتصف أبريل، نجد أن مسارات تجارة المواشي ظلت لسنوات طويلة واضحة المعالم، ويمكن تحديدها عبر رسم بياني دقيق، يُبين الأسواق في مناطق الإنتاج، وخطوط النقل نحو مناطق الاستهلاك في الولايات غير المنتجة على نحوٍ كافٍ، إلى نقطة التصدير على البحر الأحمر.
ومن أكثر مناطق السودان شُهرة في تربية قطعان الماشية بالأساليب التقليدية، نجد مناطق في ولايات كردفان، ودارفور، والنيل الأبيض، والنيل الأزرق.
ويقول إبراهيم الرشيد، وهو تاجر مواشٍ يعمل بين أسواق دارفور وغرب كردفان وسوق قندهار بأم درمان، إن التجار قبل الحرب كانوا يسلكون طُرقاً معروفة أثناء ترحيل المواشي من الأسواق الواقعة في مناطق الإنتاج إلى الأسواق في مناطق الاستهلاك. ويفصّل إبراهيم لـ “أتَـر“، قائلاً: “كان المركز التجاري الرئيس لمناطق دارفور وغرب كردفان هو سوق مدينة الخِوَي في ولاية غرب كردفان، الذي يقام في يوم الثلاثاء من كل أسبوع”.
ويستقبل السوق الذي يرجع تاريخ إنشائه إلى العام 1992، ما بين 200 و300 ألف رأس من الماشية أسبوعياً، وهو ليس سوقاً للصادر وحده أيضاً، بل يسد حاجة الاستهلاك المحلي في مناطق السودان المختلفة.
ويقول إبراهيم إن صغار التجار والمصدرين يأتون إلى سوق الخوَي من داخل السودان وخارجه باعتباره البورصة التي يجري تحديد أسعار المواشي منها.
أما سوقَا أم روابة بولاية شمال كردفان، وتندلتي بولاية النيل الأبيض، فكانا يُعدّان مركزين رئيسين لتجّار المواشي والمُربين القادمين من مناطق شمال وجنوب كردفان، وأجزاء واسعة من ولاية النيل الأبيض.
في السابق، كانت مناطق غرب ووسط السودان تحوز الأفضلية لدى تجار المواشي، غير أن منطقة الراوات والمِقِينص بولاية النيل الأبيض، ومنطقة بوط بولاية النيل الأزرق، دخلَتا لأول مرة ضمن اهتمامات عدد كبير منهم. ويقول البخيت يوسف، وهو تاجر بسوق تندَلتي، ومتعاقد مع جهات تجارية في السعودية، إنه لأول مرة يلجأ إلى الشراء من مناطق الراوات بالنيل الأبيض.
“دائما كنت أشتري القطعان من مناطق دارفور وكردفان لجودة قطعانها”، يقول البخيت لـ “أتَـر“، مضيفاً: “بعد الحرب، وتعذُّر الوصول إلى مناطق الرعي والأسواق في الخوي وأم روابة، لجأتُ إلى الشراء من سوق الراوات والمقينص بالنيل الأبيض”.
كان البخيت ينقل القطعان التي يجمعها عبر طريق جبل مويا إلى كسلا وبورتسودان؛ لكن، بعد سيطرة الدعم السريع على المنطقة، بات ينقلها إلى تندَلتي ومنها عبر طُرق وعرة وغير مرصوفة تمر بمنطقة الشِّقيق الواقعة غرب الدِّويم حتى مدينة الدبّة بالولاية الشمالية ومنها إلى عطبرة وبورتسودان.
تداخلت طرق نقل المواشي كثيراً، وبات التجار يساومون في كل مكان، ومزيداً على الجبايات الحكومية وارتفاع سعر الصرف، يدفع التجار مبالغ تتراوح بين مليون ومليوني جنيه لدوريات الدعم السريع المنتشرة عبر الطريق، والتي تتكفل في كثير من الأوقات بمرافقة مركبات النقل ريثما تغادر مناطق سيطرتها.
يقول البخيت لـ “أتَـر“، إن عمليات النقل باتت تستغرق أوقاتاً طويلة وتكلف أموالاً طائلة، دعك من تهديد حياة التجار وأموالهم.
ويتابع البخيت: “أحياناً يجد التجار أنفسهم عالقين في مناطق الاشتباك بين طرفي الحرب، وعُرضة لنهب العصابات المسلحة في المناطق التي انحسرت فيها السلطة الرسمية“.
ونقل حمدان صافي النور، الذي كان يعمل بين الأسواق الصغيرة في دارفور وغرب كردفان وسوق قندهار بالخرطوم، نشاطه التجاري إلى منطقة بوط بولاية النيل الأزرق، وولاية كسلا.
ويقول صافي النور، إن أسواقاً جديدة نشأت في ولاية النيل الأزرق، أسهمت على نحو مؤثر في تحريك النشاط التجاري، ودفعت عدداً من تجار الماشية إلى نقل نشاطهم إلى ولايتي كسلا والنيل الأزرق.
وبحسب حمدان، فإن مسارات تجارة الماشية تغيرت كثيراً، في ظل تبادل السيطرة على الطُّرق القومية بين طرفي الحرب، والمواشي التي كانت تُنقل عبر الشاحنات من ولاية النيل الأزرق أصبحت تساق على أرجلها لمدة أسبوعين وثلاثة أسابيع حتى مدينة القضارف، ومنها تُنقل بالشاحنات.
أما ماشية دارفور وغرب كردفان، فقد أدّى اقتحام قوات الدعم السريع لمدينة المدينة الخوي في يوليو الماضي إلى إغلاق سوقها المهم، فأصبحت تُرحَّل مباشرة من دارفور عبر مُدن ملّيط والدبّة، وبات سوق الدبة نفسه يستقبل آلاف الرؤوس من الماشية.
كذلك توقف سوق أم روابة بعد وقوع المدينة تحت سيطرة الدعم السريع في أغسطس 2023، واضطر التجار إلى نقل حيواناتهم إلى سوق تندلتي الذي أضحى المركز الجديد لتجارة الضأن المحلية والخارجية.
ويقول عبد النور الأمين، وهو تاجر مواشٍ بسوق أم روابة، إن التجار نقلوا ما يزيد عن 460 ألف رأس من الضأن كانت معدة للصادر في سوق أم روابة إلى تندلتي، ليتوسع الأخير حتى تجاوز مساحة سوق قندهار في أم درمان بحسب وصف عبد النور، الذي قال إن النشاط التجاري في قطاع الماشية انتقل إلى تندلتي بعد توقف حوالي 7 أسواق بسبب سيطرة الدعم السريع، معدّداً إياها: سوق أم عش، وشركيلا جنوب خور أبو حبل، وسوق أبو القر شرق الأبيض، وسوق أم صميمة، وسوق أم صيقعون، وسوق العباسية تقلي، وسوق ود عشانا شرق أم روابة.
وتستغرق الطرق والمسارات الجديدة زمناً طويلاً من أجل الوصول إلى الوجهة النهائية. ويقول عبد الرحيم عبد الباقي، الذي يعمل في سوق كسلا، إن المواشي من كردفان والنيل الأبيض تستغرق حوالي شهر تقريباً للوصول إلى كسلا، خصوصاً مع انقطاع الطرق في فصل الخريف، أما في حالة جفافها فيستغرق وصولها حوالي 14 يوماً، مقارنة بثلاثة أيام قبل الحرب. ويخبر عبد الرحيم ” أتَـر” بأن رسوم النقل الجديدة أصبحت عبئاً على تجارتهم، لأن الرأس الواحد من الخراف يُكلّف الآن أكثر من 100 ألف جنيه، مقارنة بحوالي 10 إلى 17 ألفاً قبل الحرب.
وتأثر الرعاة أنفسهم بالتغيرات الجديدة. وقال دفع الله حمد من ولاية شمال كردفان، إن توقف الأسواق وإنشاء أسواق أخرى جديدة تسبب في معاناة شديدة للرعاة، لبعد بعضها عن مناطق الإنتاج والمراعي. وأشار دفع الله إلى أن الرعاة يبذلون الآن جهوداً مضنية من أجل الوصول إلى الأسواق. وكانت في السابق تنتشر الأسواق الصغيرة الأسبوعية في القرى والفرقان، لكن توقف كثير منها بعد الحرب وانتشار الانفلات الأمني.
كما أدى توقف البنوك وعدم توفر الكاش في عدد من مناطق البلاد، في معاناة كبيرة للتجار والرعاة على حدٍّ سواء، وأصبح البيع يتحدد بسعرين، نقداً أو عبر استخدام تطبيق “بنكك“. ووفق دفع الله، فإن الرعاة يضطرون دوماً للبيع نقداً لضعف شبكة الاتصالات أو انقطاعها، وتوقف عمل البنوك، وهو عادة أقل من سعر البيع عبر تطبيق “بنكك“.
وينطبق الأمر أيضاً على التجار. يقول عبد النور حمدان، الذي يعمل بين مدينتي بوط وكسلا، إنهم يضطرون إلى شراء الكاش لتعسّر التحويلات البنكية، ومن ثم يشترون الحيوانات من الرعاة وصغار التجار نقداً.
وقال عبد النور، إن التاجر في السابق كان يذهب إلى مناطق الإنتاج والأسواق الطرفية بقليل من النقد في جيبه، وعندما يحتاج إلى أي مبلغ يصرفه من أقرب بنك أو صرافة، لكنهم يضطرون الآن لشراء النقد من تجار الكاش الذين ازدهرت تجارتهم في الأسواق الجديدة.