أتر

 وقائع ما حدث في كسلا: جريمة في حماية القانون  

الأمين محمد نور، شاب من مواليد منطقة ود شريفي بالقرب من كسلا، وكان يعيش ويعمل بمدينة ود مدني، لكنه عاد إلى كسلا نازحاً مع بداية الحرب، ليعمل في مطعم صغير لتأمين معيشته. وينتمي الأمين إلى فرع عد شيك من قبيلة النابتاب، وهي القبيلة التي ينحدر منها الناظر دقلل، أحد القيادات التقليدية المهمة في المنطقة. 

اعتًقل الأمين من منطقة ود شريفي بمحلية ريفي كسلا، ومكث يومين (الخميس والجمعة – 29 و30 أغسطس)، في معتقل جهاز المخابرات العامة. أثناء احتجازه، تدهورت حالته الصحية نتيجة تعرضه لضرب مبرح أدى إلى جروح وكدمات في جسده، وفقاً لإفادات شهود عيان تحدثوا إلى “أتَـر”. وبعد يومين من المعاناة، نُقِل إلى المستشفى، حيث فارق الحياة متأثراً بجراحه. 

التهمة التي وُجهت إليه كانت انتماؤه إلى قوات الدعم السريع، وهي تهمة نفتها أسرته بشدة، وأكّدت أن الأمين لم يكن ناشطاً سياسياً أو عضواً في أي حركة مسلحة، بل كان مجرد شابّ يسعى للعيش في ظل ظروف الحرب القاسية. رجّح مصدر مقرّب من عائلته في حديثه لـ “أتَـر”، أن السبب الحقيقي وراء اعتقاله قد يكون اعتراضه على قرار إزالة الأكشاك الصادر عن المحلية الإدارية، أو نتيجة لخلافات شخصية مع بعض الشباب المستنفرين. 

التوترات القبَلية: صراع يُولد من جديد

لم يكن مقتل الأمين يوم الجمعة 30 أغسطس محض قضية جنائية، إنما كان حدثاً هزّ المجتمع المحلي، وترك أثراً عميقاً على النسيج الاجتماعي والسياسي في المنطقة. ما إن انتشر الخبر، حتى تدفق أفراد قبيلة البني عامر إلى شوارع كسلا، في وقفات احتجاجية للمطالبة بتحقيق العدالة. رفضت أسرته استلام الجثمان حتى يجري تحقيق العدالة وسحب الحصانات من المتهمين المحتملين في القضية وتقديمهم إلى القضاء. وسرعان ما تحولت الاحتجاجات التي اندلعت في المدينة إلى شرارة أشعلت التوترات القبَلية والسياسية في المدينة. 

ومع تصاعد الأحداث، ازداد الضغط على السلطات المحلية. تلقّى الناظر دقلل، زعيم قبيلة النابتاب، إخطاراً من جهاز الأمن والمخابرات، بأن وفاة الأمين كانت نتيجة ضيق في التنفس، لكن عائلة الفقيد لم تقتنع بتلك الرواية، واعتبرت أن وفاته كانت نتيجة للتعذيب الذي تعرض له أثناء احتجازه. وقد أبلغ الناظر بدَوره أسرته وطلب منهم الحضور إلى المستشفى للتعرف على الجثمان. ولم تكتفِ العائلة بالاحتجاجات، بل أصرّت على رفض استلام جثمان الأمين حتى يُحاسب المسؤولون عن مقتله. 

تواصل الناظر دقلل مع الإدارة الأهلية والقيادات الشبابية والمجتمعية للنقاش حول كيفية احتواء الأزمة والحفاظ على الأمن في كسلا. ورغم ذلك، كانت التوترات مرتفعة للغاية، خاصة مع تجمع المواطنين الغاضبين أمام مباني جهاز الأمن والمخابرات، ما دفع السلطات إلى إطلاق النار في الهواء لتفريق المحتجين. 

في ظل هذه الأوضاع المتوترة، دعت لجنة أمن ولاية كسلا إلى اجتماع طارئ يوم الأحد الأول من سبتمبر لمناقشة تداعيات الحادثة وكيفية منع تفاقم الفتنة. وقررت اللجنة اتخاذ إجراءات لرفع الحصانة عن المتهمين المحتملين في القضية، وأكدت أنها ستعمل على ضمان محاسبة المسؤولين وفقاً للقانون. 

الحصانات القانونية: سيف على رقاب العدالة

من العقبات الرئيسة التي واجهت أسرة الأمين والمجتمع المحلي في مسعاهم لتحقيق العدالة، الحصانات القانونية التي يتمتع بها عناصر جهاز الأمن. وتنص التعديلات القانونية الأخيرة، الصادرة في مايو 2024 على منح حصانة لأفراد الجهاز، ما يجعل من الصعب محاسبتهم حتى في حالات الانتهاكات الواضحة. ورغم وعود السلطات برفع الحصانات في هذه القضية، ظل الشك يسيطر على أجواء المدينة حول قدرة النظام القضائي على محاسبة المسؤولين. 

مسَّت هذه التعديلات، مواد حساسة وأساسية مثل الاعتقال التحفّظي، والحصانات الواسعة، والقدرة على السيطرة على المؤسسات التجارية، وباتت بمثابة تحول كبير في ميزان القوة بين جهاز المخابرات والمواطنين، وهو ما يؤثر بعمق على حقوق الإنسان والحريات العامة في البلاد. 

وتأتي المادة 25 في مقدمة هذه التعديلات، التي سمحت لجهاز المخابرات بإنفاذ اعتقالات تحفظية بناءً على موافقة رئيس الجهاز نفسه، ودون الحاجة إلى إذن قضائي. بموجب هذا التعديل، يمكن للجهاز أن يعتقل شخصاً لمدة تصل إلى 30 يوماً قابلة للتجديد لثلاثة أشهر أخرى. بحسب قانونيين، فإن هذه المدة الطويلة دون تقديم المعتقل إلى المحاكمة تشكل خرقاً واضحاً لمبادئ العدالة، ويضْحي المعتقل عرضة لاحتجاز طويل دون أن تُعرض قضيته أمام القضاء، وهو ما يزيد من احتمالية إساءة استخدام السلطة. 

الخطير في التعديل أن الاعتقال يمكن أن يستند إلى مجرد الشك أو خلاف شخصي، دون الحاجة إلى أدلة قوية أو تحقيقات مسبقة. يصبح المواطن العادي عرضة للاعتقال التعسفي دون وجود ضمانات لحماية حقوقه القانونية. 

أما في ما يتعلق بالمادتين 29 و37، فقد منَحَتَا أعضاء جهاز المخابرات سلطات استثنائية، بحيث يستطيع إجراء اعتقالات أو اتخاذ إجراءات قانونية بناءً على تقديرات شخصية. ولا يُشترط أن يكون الاعتقال بناءً على أمر قضائي أو تحقيقات رسمية، ما يمنح أفراد الجهاز حرية التصرف الكاملة في التعامل مع المشتبه بهم، بغض النظر عن التهم الموجهة إليهم أو الأدلة المتاحة. 

هذا الوضع يفتح المجال لإساءة استخدام السلطة على نحو واسع، ويطلق العنان لسوء التقدير، إذ يُضحي بإمكان أفراد الجهاز احتجاز أي شخص بناءً على تقديراتهم الشخصية فقط، ويُتيح للسلطة التنفيذية تجاوز السلطة القضائية، ويضع المواطن في موقف ضعيف أمام مؤسسة أمنية تتمتع بصلاحيات غير مقيدة. 

نوتة

يشير القانون الدولي الإنساني، وخاصة اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949، إلى حقوق أسرى الحرب، التي تشمل الحماية من التعذيب والمعاملة القاسية. يُمنع أيضاً أي شكل من أشكال التعذيب أو العقوبة القاسية وفقاً لاتفاقية مناهضة التعذيب؛ ولكن في ظل التعديلات الأخيرة على قانون جهاز الأمن والمخابرات بالسودان، يبدو أن هذه الحماية الدولية قد أصبحت مهملة تماماً، خاصة أن الاعتقالات التعسفية تُنفّذ دون تهم واضحة أو محاكمات عادلة. 

تضيف المادة 46 من التعديلات بعداً آخر للخطورة، إذ تمنح حصانات شاملة ليس فقط لأعضاء جهاز المخابرات، بل أيضاً للمتعاونين معهم. هؤلاء المتعاونون غير معرّفين قانونياً، وقد يكونون أفراداً غير معروفين للعامة، مما يثير التساؤلات حول شفافية عملهم وموثوقية المعلومات التي يقدمونها. وتمنح هذه التعديلات حصانة لأعضاء الجهاز والمتعاونين من الملاحقة القانونية، حتى في حالات الانتهاكات الجسيمة مثل التعذيب أو الاعتقال غير القانوني.  

حادثة أحمد الخير

في ذروة تصاعد حراك ثورة ديسمبر، كان مقتل الأستاذ أحمد الخير في مارس 2019، أحد أبرز الحوادث التي كشفت عن عمق الانتهاكات في السودان. اعتَقَل ضباط جهاز الأمن والمخابرات الوطني أحمد الخير في مدينة خشم القربة، التي تبعد حوالي 70 كيلومتراً جنوب كسلا. واحتُجز في مكاتب جهاز الأمن، بعد تعرضه للتعذيب والانتهاك الجنسي، ما أدى إلى وفاته. 

هزّ مقتل أحمد الخير السودان بأكمله، وخاصة أن الأستاذ كان معروفاً بنشاطه في حقوق الإنسان. ورغم الظروف الصعبة التي كانت تحيط بالمشهد الأمني والسياسي، انتشرت الاحتجاجات على نحو أوسع في البلاد. 

بعد وفاته، قُدم 29 ضابطاً من جهاز الأمن والمخابرات الوطني للمحاكمة وحُكم عليهم بالإعدام، لكن مع اندلاع النزاع المسلح في أبريل 2023، فُتحت السجون وفرّ جميع المسجونين والمدانين في مختلف القضايا، ما أثار مخاوف جديدة حول غياب العدالة واستمرار الإفلات من العقاب. 

مستقبل العدالة في ظل الحرب

في ظل الصراعات المسلحة والحروب التي يشهدها السودان، ومع الانهيار التدريجي لسيادة القانون، باتت العدالة بعيدة المنال، بحسب حديث المحامية سهام علي مختار، عضو لجنة محامو الطوارئ. وترسم سهام صورةً قاتمة لمستقبل العدالة في السودان في ظل التعديلات القانونية الأخيرة، التي منحت جهاز الأمن سلطات واسعة. تقول إن هذه التعديلات، إلى جانب الحرب المستمرة، أدت إلى تراجع قيم العدالة وتزايد الانتهاكات دون رادع. 

تقول سهام، متحدثة لـ “أتَـر”، إن توسيع السلطات الممنوحة لجهاز الأمن، التي دخلت حيز التنفيذ بعد التعديلات الأخيرة، أسهم في تمكين الجهاز من استخدام أساليب قمعية للوصول إلى معلومات من المعتقلين.  

وتعتبر سهام أن الحصانات الممنوحة لأعضاء الجهاز تجعلهم فوق القانون، ما يعزّز الإفلات من العقاب. وأحد الأمثلة البارزة التي تذكرها مقتل الشهيد أحمد الخير. وتقول: “ما دام الجُناة يتمتعون بالحصانة، فإننا لن نحصل على العدالة. وما لم يحدث تغيير هيكلي في الدولة والأجهزة الأمنية، فلا أمل”. 

وتشير سهام إلى أن التعديلات المضافة إلى قانون جهاز الأمن والمخابرات العامة السودان، ترسّخ الممارسات القمعية التي تسمح للجهاز باستخدام سلطاته دون مساءلة. وتمثل المواد 29 و37 جزءاً آخر من تلك التعديلات، إذ منحت أعضاء الجهاز سلطات واسعة في الاعتقالات دون حاجة إلى أدلة قوية، فيما زادت المادة 46 من خطورة الوضع، عبر منح حصانة قانونية للمتعاونين مع جهاز الأمن، الذين قد يجري شراؤهم دون معايير قانونية واضحة. 

وترى سهام أن الهدف من إعادة هذه الصلاحيات هو تصفية الحسابات السياسية، مشيرة إلى أن جهاز الأمن يسعى إلى تعزيز نفوذه واستخدام القانون كأداة لتبرير الانتهاكات. 

رغم هذا الواقع المظلم، تعتقد سهام أن العدالة الانتقالية قد تكون أداة لتحقيق بعض المحاسبة في المستقبل. لكنها تشدد على أن العدالة الانتقالية تحتاج إلى مناخ سياسي مستقر، إذ تقوم على مبادئ التسامح والاعتراف، وإمكانية العفو مع تطبيق العقوبات المناسبة وتعويض الضحايا. 

وتضيف: “لا يمكن أن نحقق العدالة إلا إذا تغير النظام بالكامل. نحتاج إلى إعادة هيكلة جهاز الأمن، وتحقيق فصل السلطات بين الأجهزة التنفيذية والقضائية. ودون هذا التغيير، ستظل الانتهاكات متواصلة، وستظل حقوق الأفراد تحت رحمة جهاز الأمن الذي يتحكم في مصائرهم“. 

ومن المفارقات أن التعديلات على قانون جهاز الأمن تمت الموافقة عليها في اجتماع مجلس الوزراء ومجلس السيادة في حكومة مؤقتة لا تمتلك شرعية قانونية واضحة“، تقول سهام، ثم تواصل حديثها: “لا توجد حكومة شرعية اليوم في السودان، إنما هذه حكومة أمر واقع فرضت نفسها بالقوة وليس بالقانون”. وتذهب سهام إلى القول بأن التعديلات التي أقرّتها هذه الحكومة لا تستند إلى دستور واضح، وتمثل عودة إلى الوراء في حقوق الإنسان وسيادة القانون. 

Scroll to Top