أتر

الكوليرا في السودان: غثيان الحرب وقيء الطبيعة 

مع اتساع رقعة الحرب وغموض مصيرها وتكتيكاتها، إضافة إلى عسر العيش وتدبير الحياة في النزوح الطويل؛ في ظل فقر مدقع وتعطيل متعمد لتدفق المساعدات الإنسانية من طرفي الحرب، وجد السودانيون أنهم أمام ورطاتٍ تتفتّق ومصاعبَ تستجد، كل مرة، فمِن تحدي المجاعة ونقص الغذاء الحاد، إلى كوارث السيول والفيضانات وتهدم البيوت وفقدان المأوى، وإلى انتشار أوبئة الحرب والسيول. ولم يتعافَ الناس من مرض “التهاب ملتحمة العين”، الأخير واسع الانتشار، حتى دهمتهم نازلة مرض “الكوليرا”، الذي يهدد حياة الملايين في مناطق الحرب والمناطق الآمنة على حدّ سواء. 

نوتة

الكوليرا مرض بكتيري فتّاك، يمكن أن يكون قاتلاً خلال ساعات، عادةً ما ينتشر عن طريق الماء الملوَّث، بين أكثر المجتمعات هشاشة، بسبب الفقر المدقع والنزوح والتقشف. وتتسبَّب الكوليرا في الإصابة بإسهال وجفاف شديد، ويرتفع خطر الإصابة بوباء الكوليرا عندما يُرغِم الفقر أو الحرب أو الكوارث الطبيعية الأشخاص على العيش في الظروف المزدحمة، دون وجود مَرافق الصرف الصحي الملائمة والحرمان من بيئة توفر أساسيات الصحة العامة. 

ورغم إمكانية علاج وباء الكوليرا والوقاية من الوفاة بسبب الجفاف الشديد بسهولة، عن طريق استخدام محلول بسيط وغير مكلِّف، إلا أنها تسببت في وفاة 4.007 حالة من 45 بلداً من جملة 321.535 حالة إصابةفي 2023. وبحسب موقع الصفر فإنه حتى منتصف هذا العام 2024، توفي نحو 2.137 شخصاً بالوباء، أي ما مجموعه 6.144 شخصاً خلال عام ونصف العام، بمعدّل 0.78% من مجمل الحالات. 

ظهرت الكوليرا وانتشرت خلال القرن التاسع عشر، في جميع أنحاء العالم، انطلاقاً من مستودعها الأصلي في دلتا نهر الغانج بالهند، وتوفي مئات الأشخاص نتيجة هذا الوباء. استُخدم اسم الكوليرا في القرون السابقة لوصف الأمراض التي تتضمن الغثيان والقيء. وعمت العالم بعد القرن التاسع عشر، ست جوائح من المرض حصدت أرواح الملايين من البشر في جميع القارات. أما الجائحة (السابعة والأخيرة) فقد بدأت بجنوب آسيا في عام 1961 ووصلت إلى أفريقيا في عام 1971 ثم إلى الأمريكتين في عام 1991. وتتوطّن الكوليرا الآن العديد من البلدان. 

اعتراف متأخّر

يربط مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) بين التأثير الشديد للصراع في السودان؛ على الوصول إلى الرعاية الصحية، وبين استمرار تفشي وباء الكوليرا الحاد، في جميع أنحاء البلاد، وسط قلق بالغ من افتقار ما يقرب من ثلثي سكان السودان إلى الرعاية الصحية، مع توقف أكثر من 70% من المستشفيات في المناطق المتأثرة بالنزاع الذي يعيق جهود الاستجابة، ويعطل الوصول إلى خدمات الصحة العامة الأساسية. 

جدول يوضح انتشار الكوليرا في قارات العالم من العام 1989 حتى العام 2021:

وأدّى اعتراف السلطات السودانية المتأخر بالمرض في أغسطس وإعلان وزارة الصحة الحاجة الماسة إلى مزيد من مراكز العزل، إلى مجابهة الزيادة في الإصابات وسط تزايد دعوات أممية ودولية لتجنيب السودان كارثة إنسانية جديدة، بدأت تدفع الملايين إلى حافة المجاعة والموت، جراء نقص الغذاء بسبب القتال الذي امتد إلى أكثر من نصف عدد ولايات السودان، باعتبار مرض الكوليرا وباء حتى لو اكتُشفت حالة واحدة منه، بحسب تصريحات وزير الصحة الاتحادي هيثم إبراهيم. وأدى ذلك الاعتراف الرسمي المتأخر، بحسب ناشطين بمواقع التواصل الاجتماعي، حذروا من تدهور الأوضاع الصحية، إلى تفشي الكوليرا في عموم البلاد. 

وفي أغسطس 2024 قالت اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء السودانيين، إن إعلان وباء الكوليرا جاء متأخراً، مما أدى إلى تفاقم الوضع وانتشار المرض بالولايات الآمنة. وأرسلت النقابة في بيانٍ، نداءً لكل أصدقاء السودان والمجتمع الدولي ومنظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والمحلية لتقديم المساعدات العاجلة لدرء الوباء. “لا تتوفر لدينا معلومات دقيقة عن الوضع الوبائي في الولايات التي تشهد عمليات عسكرية نشطة، نُجدّد مطالبتنا العاجلة بإيقاف الحرب التي أثرت سلباً على فاعلية النظام الصحي”. وطالبت النقابة، بحسب البيان، “حكومة الأمر الواقع”، على حدّ وصفها، بالشفافية الكاملة في التعامل مع المرض، بما في ذلك عدد الحالات، وتوفر الإمدادات الدوائية، وعلاج الحالات، وعزل حالات الاشتباه، والتثقيف الصحي، والإمداد الصحي لمياه الشرب، والتدخلات المجتمعية، إضافة إلى تتبع حركة انتشار المرض في الولايات الأخرى. 

وأعلن مركز عمليات الطوارئ الاتحادي، الأحد 15 سبتمبر الجاري، تسجيل 232 إصابة جديدة بوباء الكوليرا بينها حالة وفاة واحدة، ليرتفع العدد التراكمي للإصابات إلى 8350 إصابة، بينها 270 وفاة، في 8 ولايات تأثرت بالوباء.  

نوتة

أطلقت وزارة الصحة الاتحادية ومنظمة الصحية العالمية واليونيسيف، في العام 2019، حملة تلقيح كبرى ضد الكوليرا، عن طريق الفم لأكثر من 1.6 مليون شخص، تتراوح أعمارهم بين عام واحد وما فوق، في ولاية النيل الأزرق وسنار، بتمويل من التحالف الدولي للقاحات (GAVI) وتدريب أكثر من 3560 شخصاً ليقوموا بمهمة التلقيح وأكثر من 2240 شخصاً للعمل في إطار التعبئة الاجتماعية. 

وأوضح مكتب أوتشا أن عدد الحالات المشتبه بإصابتها بالكوليرا ارتفع، في ديسمبر 2023، بنسبة أكثر من 100%، وأبلغ عما يقرب من 8,300 حالة مشتبه بها وأكثر من 200 حالة وفاة، في تسع ولايات، وفقاً لبيانات منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة السودانية 

وارتفعت حصيلة الاشتباه بالمرض الفتاك، ذلك الشهر، لأكثر من 1,800 حالة في ولاية الجزيرة، حيث أدت الاشتباكات العنيفة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، إلى نزوح ما لا يقل عن 300 ألف شخص.

خارطة انتشار

اطردت الإصابة بالمرض بمركز العزل بمستشفى شندي التعليمي، وفق مصادر تحدثت لفريقأتَـر، إلى 6 حالات، توفيت إحداها (رجل سبعيني قادم من نهر عطبرة)، وشفيت حالتان، إضافة إلى 3 حالات تحت العلاج، بينما بلغ عدد الإصابات التراكمي بولاية نهر النيل 920 حالة، وارتفع العدد التراكمي للوفيات إلى 36 حالة، وصعد المعدل التراكمي للتعافي إلى 683 حالة. 

أخبرت مصادر أخرى، تحدثت لـ “أتَـر”، عن تسجيل محلية “الدندر” والقرى المحيطة، الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع، ارتفاعاً كبيراً في حالات الكوليرا، وبلغ عدد الوفيات فيها 12 حالة عن يوم واحد. وفتك المرض بأهالي منطقة “قلع النحل” بولاية القضارف، التي وصل عدد الحالات فيها إلى أكثر من 200 مصاب، وثلاث حالات وفاة، أعلنت حيالها وزارة الصحة والتنمية الاجتماعية بالولاية، عن جملة من التدابير، بالتعاون مع الشركاء، لمكافحة حالات تفشي الكوليرا بعدد من محليات الولاية، تشمل زيادة مراكز العزل لمعالجة الحالات ومنع الانتشار وتنفيذ حملات الإصحاح البيئي ومكافحة نواقل الأمراض، بجانب زيادة برامج التوعية الصحية المقدمة للمجتمعات ومناطق الهشاشة الصحية. 

 وأعلنت “غرفة طوارئ بحري” عن “تفجّر” الوضع الصحي في المدينة ووصوله إلى أقصى “درجات التدهور”، في ظل غياب المؤسسات الصحية التابعة للدولة عن العمل في المناطق المحاصرة. وتشهد المدينة انقطاعاً كاملاً في سلاسل الإمداد الدوائي، منذ ما يقارب العام ونصف العام، ما أدى إلى تفشي الأمراض المرتبطة بسوء التغذية والتلوث البيئي، إضافة إلى غياب المواد الغذائية الضرورية. وقالت في نشرة على صفحتها بـ “فيسبوك” اطلعت عليها “أتَـر”، إن بحري تشهد انتشاراً واسعاً لأمراض الإسهال المائي الحاد والكوليرا، وأمراض أخرى لم يُتعرَّف عليها بعد، نتيجة غياب أدوات الفحص وتوقف المستشفيات. وناشدت الغرفة جميع المنظمات الدولية العاملة في القطاع الصحي، والمتخصصة في المجالات الإنسانية الأخرى، التدخل “العاجل والفوري“. 

وكشفت مصادر طبية، تحدثت إلى “أتَـر”، عن تسجيل 4 حالات اشتباه بمرض الكوليرا بمحلية فوربرنقا، أُرسلت لمدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، مع ارتفاع ملحوظ في عدد الإصابات بالإسهالات والملاريا، بعد أن غمرت السيول والفيضانات 7 أحياء سكنية خلفت أوضاعاً صحية سيئة، في ظل شح كبير في المعدات الطبية والأدوية وانقطاع التواصل بين وزارة الصحة بالولاية والمؤسسات الصحية الاتحادية منذ اندلاع الحرب، بحسب تصريح سابق لمدير عام الوزارة، بما في ذلك انعدام إرسال العينات المرضية للمعامل الاتحادية لفحصها والتأكد منها. 

 ويقول وزير الصحة هيثم محمد إبراهيم، إن الوضع الوبائي لمرض الكوليرا يتزايد في البلاد التي سجلت  أكثر من 5 آلاف حالة. وسجلت كل من مدن كسلا والدامر وحلفا الجديدة أعلى معدلات للإصابة، فيما أعلنت السلطات الصحية بالولاية الشمالية خلو مدينة مروي من الوباء، لكن الأعداد في الولايات المختلفة أكبر بكثير، بحسب متابعين، لسببين: ليس هنالك رصد لمناطق سيطرة الدعم السريع، وهنالك حالات لم تصل إلى المستشفيات، وهي بذلك خارج نطاق الرصد والمتابعة 

فقر وانهيار للبنيات التحتية

يعزو الدكتور محمد حامد، الخبير في الصحة العامة، انتشار وباء الكوليرا في السودان، حتى قبل الحرب، إلى عوامل ترتبط مباشرة بالبنية التحتية الصحية وظروف المعيشة العامة، وضعف البنية التحتية لأنظمة الصرف الصحي الملائم، ونقص المياه النظيفة.  

المياه الملوثة هي أشدّ طرق انتقال الكوليرا خطورة ، فإذا كانت مياه الشرب مختلطة بمصادر ملوثة، فإن خطر انتشار المرض يزيد”. يقول في حديثه مع “أتَـر”، ويزيد أن التوعية الصحية المحدودة في الوقت الراهن بممارسات النظافة الشخصية وغسل اليدين ومعالجة المياه المنزلية، تؤدي دوراً محورياً في تفشي المرض، خاصة في المناطق المتأثرة.  

“الحرب وانهيار النظام الصحي في السودان زادا من تفاقم الوضع، خاصة مع تعرض المستشفيات والبنية التحتية الصحية للدمار، مما أدى إلى صعوبة احتواء الأمراض المعدية”؛ يقول حامد أيضاً، لافتاً إلى أن نزوح السكان وزيادة الضغط على الموارد الصحية المحدودة والنظام الصحي الهش، حتى ما قبل الحرب، سهَّل من انتشار الأمراض.  

ويعزو الدكتور أحمد إبراهيم، المختص في طب المجتمع، تسارع ارتفاع معدلات الإصابة بالكوليرا، مقارنة مع تسجيل أول حالة قبل 4 أشهر، إلى فشل وعجز السلطات عن تقديم الخدمات العلاجية للمرضى في الوقت المناسب. يقول في حديثه مع “أتَـر”: “العنابر المخصصة لعزل المصابين في أغلب المستشفيات لا تناسب طبيعة الوباء وسرعة انتشاره، وتفتقر إلى أبسط مقومات العزل الناجح، إضافة إلى النقص الحاد في إمدادات الدواء”. ويضيف متحدثاً: “ينبغي أن تتسم عمليات العزل بدقة طبية عالية، لضمان محاصرة المرض وعمل جميع الاحترازات الصارمة وإصحاح مجال العمل نفسه“. 

Scroll to Top