لم يكد يمضي شهر واحد على إعلان الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي “NOAA“، أن شهر يوليو الماضي، كان الأكثر حرارة في تاريخ الكرة الأرضية؛ حتى عادت مرة أخرى لتعلن قبل بضعة أيام، أن شهر أغسطس الماضي، كان هو الآخَر الأعلى حرارةً منذ بدء عمليات الرصد، ليُشكِّلا معاً الصيف الأسخن على الإطلاق في تاريخ الكرة الأرضية، خلال 175 عاماً، منذ بدء عمليات الرصد في العام 1850م.
وفي واقع الأمر، لم يكن العام الحالي سوى حلقة في سلسلة توالٍ حراري مُتسارع الوتيرة، لسنوات مضت جراء تداعيات الاحتباس الحراري، بَيد أن إعلان المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO)في يونيو 2023 عن بدء تشكل ظاهرة النينو المناخية، قد مثّل منعطفاً آخرَ في مسلسل التوالي الحراري وتمظهراته المناخية.
ويُعرَفُ النينو بأنه نمط مناخي متكرر على نحوٍ غير منتظم، يُحدِثُ تغييراً متطرفاً ومؤقتاً في أنماط المناخ؛ فبينما يخلق جفافاً في بقاعٍ متفرقة من آسيا وأفريقيا والأمريكتين، فإنه بالمثل يؤدي إلى هطولات مطرية كثيفة في بقاعٍ أخرى من تلك القارات، وهو في ذلك يخلق فوضى مناخية يصعب التنبؤ بتداعياتها؛ إلا أن الخبراء ومن خلال تعقب وتدوين ظهور النينو منذ بدايات القرن العشرين وبمعدل مرة واحدة خلال (4-7) سنوات، استطاعوا رصد بعض المتلازمات الطبيعية والاقتصادية.
لقد أبانت صور الأقمار الصناعية كثافة الهطولات المطرية لخريف هذا العام على مناطق شمال السودان بمعدلات غير اعتيادية، ما أدى إلى حدوث فيضانات مدمرة في أنحاء واسعة من شرق السودان وشماله، أدت إلى حدوث انهيارات أرضية، وتدمير لسد أربعات شمال غربي بورتسودان. وأفادت التقارير الواردة من NOAA أن أجزاء واسعة من شمالي السودان كانت رطبة بوجه استثنائي خلال تلك الفترة. كذلك كشف المركز الخاص بالتنبؤات المناخية والتابع لمنظمة الإيغاد، أن آخر ثلاثة أسابيع من شهر أغسطس الماضي شهدت معدلات هطول أمطار هائلة قدرت بمئات المليمترات على مناطق شمال السودان. ووفقاً للأمم المتحدة، فقد أدى موسم الأمطار الحالي إلى نزوح ما يقدر بحوالي 178,460 شخصاً من ولايات السودان المتضررة بالأمطار.
توضح صور الأقمار الصناعية أدناه والملتقطة من مرصد الأرض التابع لوكالة ناسا، في التاسع من يوليو والحادي والثلاثين من أغسطس، تبايناً واضحاً في التضاريس الأرضية، قبيل حدوث الفيضانات في مناطق شرق ووسط شمال السودان وعقبها.
صور الأقمار الصناعية لولايات كسلا والبحر الأحمر ونهر النيل قبل هطول الأمطار (9 يوليو 2024) ومن ثم صور الأقمار الصناعية لتضرر ولايات كسلا والبحر الأحمر ونهر النيل بعد الهطول الكثيف للأمطار ويُظهر باللون الأزرق أماكن تدفقات وفيضانات المياه، ويظهر فيضان بارز شمال غربي بورتسودان، حيث انهار سد أربعات. (31 أغسطس 2024) وكالة ناسا
إن مركزية الإنسان ونرجسيته، ظلت مدعاة لفخره بشجاعته في صيد الحيونات البرية من ذوات المخلب والجوارح والأفاعي وغيرها من المفترسات الضخمة، في دلالة على شدة البأس وفرض سيطرته على الطبيعة، مغفلاً في تلك الحيوانات والكائنات الصغيرة التي تشاركه الكوكب، والتي لم يكن يدرك في غمرة ذلك الإعجاب بمقدراته أنها تستطيع الفتك به. ظل ذلك الجهل حتى نهايات القرن التاسع عشر حينما أدرك العلماء أن الحيوان الأكثر فتكاً بالإنسان بالكاد يمكن التعرف عليه بسماع طنينه، فالبعوضة التي تزن 0.0025 جرام، قد لا تلفت انتباه إنسان يزن 75 كيلوجراماً في المتوسط، والذي يفوقها بـ 30 مليون ضعف بالنسبة إلى وزنها.
ظل البعوض يقتل ما يقرب مليون إنسان سنوياً، ويصيب ما يربو عن 700 مليون شخص آخرين، بالملاريا وحمى الضنك والشكينغونيا. ولقد أثبت التحقيقات العلمية براءة ذكور البعوض من قتل هذه الأعداد من الناس، إذ تتولى الإناث جميع عمليات القتل، وذلك لخصوصية تشريحية تمكنها من نقل العدوى أثناء عض جسم الإنسان. فالبعوض ما إن يجد بيئات مناسبة للتوالد والتكاثر، حتى يكون قادراً على ممارسة إبادة جماعية لأي مجتمع.
وبناءً على ذلك، وما إن أعلن مسؤولو المنظمة العالمية للأرصاد الجوية عن بدء تكون النينو، حتى تداعت لذلك جميع الهيئات الصحية بالقلق والحذر؛ إذ يرتبط بحالات تفشي واسعة للأوبئة والأمراض. ويشكل هطول الأمطار الغزيرة وما تحدثه من فيضانات وإتلاف لنظم الصرف الصحي وتراكم البرك والمستنقعات، ظروفاً مثلى لتكاثر البعوض وغيره من نواقل الأمراض، إضافة إلى ما ينتج عن الفيضانات من تلوث وأمراض بكتيرية منقولة عن طريق المياه.
إن الهطول المستمر للأمطار ولفترات متطاولة، يزيد من الرقعة الجغرافية التي يغطيها البعوض، فضلاً عن أن درجات الحرارة المرتفعة والمصاحبة للنينو تُطيل موسم انتقال أمراض الملاريا وحمى الضنك، عبر توفير ظروف ملائمة لدورات حياة كاملة للطفيليات، وغيرها من المُمْرِضَات، في تمظهر واضح لتفاعل البيئة والحيوان والإنسان في منظومة حيوية معقدة ومتداخلة.
إن ارتفاع درجات الحرارة بشكل عام، يجعل البعوض أكثر جوعاً، مما يؤدي إلى تسريع وصوله إلى النضج الجنسي، وينعكس ذلك بدوره على شراهته في التغذي على دماء البشر.
أنثى بعوضة الأنوفلس تعد الناقل الأساسي للطفيل المسبب لمرض الملاريا (طفيل البلازموديوم)، وتتكون وتنمو في المستنقعات والمياه العذبة الراكدة وفي ظروف الافتقار إلى الصرف الصحي.
يغير الاحتباس الحراري وظروف المناخ المتطرفة من ديناميكية الأمراض الفيروسية المنتقلة بواسطة البعوض. فلقد لوحظ تزامن تفشي مرض حمى الضنك أثناء حدوث الفيضانات، وهذا المرض الفيروسي ينتقل عن طريق البعوض. وقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن نصف سكان العالم (4 مليارات نسمة) معرضون للإصابة بحمى الضنك نتيجة التغيرات المناخية، لا سيما أثناء فترات حدوث النينو. وتنتشر حمى الضنك في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية، أكثر من غيرها، وهي المناطق الأكثر تأثراً بالظواهر المناخية. وللمفارقة فإنها أيضاً تمثل جغرافيا البلدان الأكثر فقراً وحرباً ونزوحاً.
تشير الإحصائيات إلى أن الإصابات السنوية بحمى الضنك تترواح بين (100) و(400) مليون إصابة، قضى منها حوالي 5 آلاف وفاة خلال العام 2023. وكمثيلاتها من الأمراض الفيروسية، فإنه لا يوجد علاج محدد لها، بيد أن مكافحة نواقلها وتوفير رعاية صحية مناسبة قد تقود إلى تخفيف أعراضها.
لا يقتصر التأثير السالب لفيضانات النينو على الأمراض المنتقلة بواسطة البعوض، بل يتعداها لتلك المنقولة بواسطة المياه. وتفيد منظمة الصحة العالمية أن الأمراض المنقولة بالمياه مسؤولة عن 1.8 مليون حالة وفاة سنوياً في جميع أنحاء العالم. ويؤدي طول موسم الفيضانات إلى زيادة معدلات تلوث المياه من خلال تدمير المرافق الصحية وخروجها عن الخدمة، ما يقود بدوره لممارسات التبول والتبرز في العراء ما يجعلها عرضة للجرف السطحي لتتداخل مع مياه الشرب. جميع هذه العوامل وغيرها تمثل بيئة مثالية للبكتيريا المسببة لمرض الكوليرا “ضمة الكوليرا” – اسم مُعرّب – والتي تنتشر بصورة واسعة خلال المياه الملوثة. وتفيد التقارير بأن الإصابات السنوية بالكوليرا تتراوح من مليون ونصف إلى أربعة ملايين إصابة، يقضي منها ما يزيد عن مائة ألف.
وفي السودان، وفي ظل تردي الوضع العام حرباً وفقراً، يزداد الأثر السالب للنينو متزامناً مع زيادة أعداد النازحين وتكدسهم في المخيمات، فضلاً عن تعذر وصول المساعدات الطبية من أدوية ومستلزمات تشخيص جراء انقطاع الطرق الرئيسة، بسبب الفيضانات والسيول، أو تربص الجماعات المسلحة، ما يُفشل الحكومات المحلية في إدارة المنظومة الصحية وتقديم المساعدات للمصابين.
لا تقتصر تأثيرات النينو على ما سبق ذكره، إذ يعد ضعف المناعة الناجم عن سوء التغذية من متلازمات الظاهرة. ويصاحب فترات النينو فشل لعدد من المحاصيل الزراعية، فضلاً عن نفوق الماشية ونقص إمداد السلع الغذائية، فيتضرر الأطفال والنساء الحوامل على نحوٍ أشد. يقول الأطباء إن عدم الوصول إلى خدمات المياه والصرف الصحي الملائمة، يُؤثر على صحة الحوامل بصورة مباشرة، ومع تزامن ذلك، وارتفاع درجات الحرارة، يتضرر الجنين تضرراً ملحوظاً بسبب الإجهاد الحراري وما ينجم عنه من قلة تدفق الدماء عبر الحبل السري وارتفاع معدل ضربات القلب.
وفي عالم يتشاركه البشر مع غيرهم من الأنواع، وفي ظل تقديرات علمية تؤكد زيادة الأمراض المنقولة عبر الحيوانات جراء تداعيات الاحتباس الحراري، لتتسبب في ما يقرب من 3 ملايين وفاة سنوياً؛ لا تغادر مسألة المظلمة المناخية دوائر ومسودات علماء المناخ المغضوب عليهم، والتي تنادي بضرورة الوفاء بالتعهدات الخاصة بتعويض البلدان الفقيرة الأشد تضرراً من الاحتباس الحراري، وغير المسؤولة عن مسبباته من صناعات النفط والغاز، والتي استأثرت بها البلدان الصناعية الكبرى. وليس ثمة بيان أجلى من الحالة السودانية، حيث يفتك المناخ بإنسانها صحياً وسياسياً واقتصادياً، وهو الأشد فقراً والأضعف استعداداً للاستجابة ومقاومة الوبائيات في ظل مواسم أمطار غزيرة وفيضانات مدمرة ودرجات حرارة مرتفعة ونزوح ما يزيد عن أكثر من 10 ملايين في أسوأ أزمة نزوح في العالم، وصراع مسلح يغذي أوراه لاعبون إقليميون يتكئون على اقتصاديات ضخمة ممولة بتلويث المناخ.