
الأبيّض: تردّي صحة البيئة يُودي بصحة الإنسان
تعرّضت مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان لأمراض ذات صلة بتداعيات الحرب، وكشفت طبيعة الاستعدادات التي تحتاط بها السلطات الصحية من انتشار الأوبئة، وانعكس ذلك على التعامل مع التهاب ملتحمة العين الذي يُطلَق عليه في المدينة لقب “كارلوس“.
وبحسب الطبيب الصيدلاني عصام الدين أحمد، فإن وزارة الصحة الولائية لم تضع على عاتقها الاهتمام بالتثقيف الصحي، والتعامل مع ملتحمة العين بوصفه مرضاً وبائياً، بمحاربة الذباب كناقل له في مدينة تعيش نهايات فصل الخريف، إلى جانب عدم توفر المضادات الحيوية.
ويضيف عصام، أن كثيراً من اختصاصيي العيون يصفون للمريض علاجات (الأسترويد)، وهي مضرة في حالة التهاب الملتحمة، ولا تصلح إلا لما يعادل نسبة 5% من المصابين، فالمرض ينبغي علاجه بالمضاد الحيوي، ولا يتوفر في الإمدادات الطبية ولا في المستشفى، لكنه متوفر في السوق بأسعار ارتفعت بعد انتشار المرض، وقفز سعر القطرة من 800 جنيه إلى 5000 جنيه.
أدى التردي البيئي دَوراً في انتشار التهاب الملتحمة، ويمكن أن يؤدي إلى انتشار أمراض أخرى كالإسهال المائي والكوليرا، فالذباب منتشر في كلّ مكان بسبب برك المياه التي خلّفتها الأمطار وتراكم النفايات وسط المدينة والأسواق وقرب المشافي، ولم تجرِ معالجتها منذ ما قبل الحرب، إضافة إلى مياه الشرب الملوّثة بسبب خروج المصادر الرئيسة للمياه عن الخدمة، فالمدينة جميعها تشرب مياهاً غير معالجة، ولا تخضع لأي معايير صحية، كما أشارت مصادر مسؤولة في هيئة المياه من قبل لمراسل “أتَـر“.
وقالت مصادر صحية، إن أزمة المياه الحادة تقلل من مقدار الحرص على النظافة الشخصية وغسل الخضروات، لكن رغم تلك الظروف المواتية لانتشار الأوبئة بعامة، إلا أن المعلومات ما زالت متضاربة حول انتشار الإسهال المائي، كما لم يثبت وفق عدة مصادر وجود حالات كوليرا. وأكد مصدر مأذون بإدارة الوبائيات لـ “أتَـر“، أنه لم ترد حتى هذه اللحظة بلاغات للإدارة المختصة عن وجود حالات إصابة بالكوليرا أو الإسهال المائي؛ الخطوة التي تُعرَف في تعاملات إدارة الوبائيات باسم “العتبة الأولى لإعلان المرض“. وإن لم يَستبعد المصدر وجود إسهالات متعلقة بأمراض أخرى كالملاريا، كما أكّد فنّي معمل بالمستشفى الكويتي عدم تعامله مع حالة فحص معملي متعلق بالإسهال المائي أو الكوليرا. هذا ما أكدته أيضاً فنية معمل بالمستشفى التعليمي، طلبت حجب اسمها، لكنها استدركت قائلة إنها تتعامل مع اختصاصات ليست ذات صلة بالإسهالات مثل المسالك البولية، لكن من خلال وجودها داخل المعمل لم تسمع بوجود حالات.
طبيبة بمستشفى الأبيّض، أكّدت دخول حالات إسهالات للمستشفى، وهو ما أكّدته أيضاً طبيبة أخرى بالمستشفى التعليمي، وقالت إنها تعمل بنظام الورديات، لذا لا تستطيع حصر جميع الحالات التي دخلت المستشفى، لكن أثناء فترة عملها شهدت ما بين 3 إلى 4 حالات في الأسبوع، واستبعدت أن تكون بينها حالات كوليرا، لأنها استجابت للمضادات الحيوية التقليدية مثل الفلاجيل. وبحسب حديثها، فإن الكوليرا لا تستجيب للمضادات الحيوية المعروفة. وأضافت: “الكوليرا يصحبها إسهال يشبه ماء الأرز وقيء متواصل وجفاف حاد، على عكس الإسهال المائي الذي يكون متقطعاً وليس من أعراضه علامات الجفاف الحادة“.
ورغم ذلك، فإن د. عصام يتحفّظ على استعدادات الطوارئ تحوّطاً لدخول المرض، بالإشارة إلى تردّي صحة البيئة، فالإسهالات المائية التي نفت مصادر مأذونة بإدارة الوبائيات ورود بلاغات بشأنها، ترجح مصادر عليمة في الحقل الصحي دخول حالات منها إلى بعض مستشفيات المدينة، وهي وإن كانت أقل خطورة من الكوليرا في حدة الأعراض المشتركة مثل الإسهال والجفاف إلا أنها بحسب د. عصام تتسبب في ظهور أعراض الجفاف والهبوط في الدورة الدموية. ومن ثمّ يحتاج المريض لتلقي محاليل وريدية وتعويض ملح التروية وعلاجات مضادات بكتيرية بالحقن الوريدي، وجميع هذه العلاجات كانت توفرها الإمدادات الطبية، وهي الآن متوفرة، لكن في القطاع الخاص وهذا يخضع لتقلبات السوق التي تفرضها تداعيات الحرب من حصار وجبايات مرتفعة وطرق تخزين غير مطابقة للمواصفات والمعايير وفق متابعات سابقة لـ “أتَـر“.
الفاشر: ما زال الحصار مستمراً
بعد مرور خمسة أشهر على الحصار الذي فرضته قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر بالتزامن مع هجمات شرسة ومتكررة من عدة محاور، إضافة إلى تدوين ممنهج تجاه المدنيين والمرافق المدنية، ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية والدواء.
ظلت قوات الدعم السريع تمنع وصول قوافل المساعدات الإنسانية إلى المدينة، وأصبح المورّدون يهرّبون السلع إلى الفاشر من خزان جديد عبر محلية دار السلام التي تسيطر عليها الإدارة الأهلية بأفراد حراسات ترتدي زي الدعم السريع.
قبل أسبوعين احتجزت الدعم السريع، عربات البضائع في حلة بعشومة جنوب محلية دار السلام. وقدمت قوة قوامها 25 عربة دفع رباعي مكتملة العتاد، أغلقت الطريق وحجزت جميع العربات المحملة بالبضائع، وجمعت 100 قطعة سلاح من أفراد حراسات السيارات (أيضاً يرتدون زي الدعم السريع)، ونهبت 25 جملاً، واعتدى أفرادها على الجميع، بعد استيلائهم على عدد مقدر من براميل الوقود.
وبعد ثلاثة أيام من الحادث، تقدمت القوة داخل محلية دار السلام، وارتكبت انتهاكات واسعة ضد المواطنين من ضرب ونهب وسلب الممتلكات، وصادرت أجهزة الإنترنت “ستارلينك”. ونتيجة لذلك باتت المدينة معزولة عن العالم الخارجي لثلاثة أيام متتالية.
تواصلت الإدارة الاهلية مع القوة المهاجمة الموجودة بوادي تينجة، فبرّر المهاجمون تعديهم بمحاولة منع الظواهر السالبة بالمحلية والقبض على مهربي الدواء والغذاء إلى الفاشر. وعلى ذلك نشروا عدة ڤيديوهات تحكي عن تمكنهم من القبض على المهربين، بعد إجبار المواطنين على الحديث عن عمليات تهريب نفذوها لتعيش المحلية أياماً من الرعب والقلق.
من ناحية أخرى، أثرت مصادرة البضائع على محلية الفاشر، وارتفعت أسعار السلع والوقود الذي أثر بدوره على أسعار الطواحين والمواصلات، ليرتفع سعر التذكرة إلى 35 ألف جنيه بدلاً عن 20 ألفاً، رغم ذلك عاد نازحو الفاشر إلى بيوتهم حتى مع ضيق الحال هناك، خوفاً من أفراد الدعم السريع الذين يجوبون شرقاً وغرباً ويقبضون على مرتادي شبكات الاتصالات وغيرهم من المواطنين دون تهم واضحة.
أما الفاشر فباتت تغيب وتشرق شمسها على أصوات المدافع والطيران الحربي، وما زال مواطنوها ينامون داخل المدينة، ليخرجوا في الصباح الباكر إلى جنوب غرب المدينة تجاه معسكر شالا والمزارع خوفاً من تدوين الدعم السريع الذي يستهدف الأحياء السكنية.