أتر

مرضى السرطان: رحلة قاسية في طريق العلاج

في رحلة علاجية استمرت عاماً كاملاً، من يوليو 2023 إلى يوليو 2024، عانى بشير الزين وأسرته مرارات إصابة والدته بمرض سرطان الثدي، ومرارات الحرب التي عمّقت المعاناة.

بدأت الرحلة من مدينة الضعين، بولاية شرق دارفور إلى ود مدني، قبل اجتياحها من قبل قوات الدعم السريع في ديسمبر من العام الماضي. واضطرت أسرة بشير لخوضها بعد اكتشاف أن حالة والدتهم ما تزال في مراحلها الأولى. 

“قررنا الذهاب إلى مدني، وكان الطريق بالغ الصعوبة، أُخضِعنا لتفتيش شخصي دقيق وتحقيق في المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش، خاصةً أخي الأصغر الشاب، يقول بشير متحدثاً لـ “أتَـر”.

في ود مدني، لم تستطع أسرة بشير تلقي العلاج في مستشفى الذرة للأورام سبيلاً، فقد كان تدفق المرضى عليه يفوق طاقة عمله، وهو مستشفى عام، مما اضطرهم إلى التوجه للقطاع الخاص لإجراء العملية التي كلفت 800 ألف جنيه سوداني بمجمع العيادات بجامعة الجزيرة.

غير أن معاناتهم لم تتوقف عند إجراء العملية فحسب، فقد تطلبت حالة والدته تدخلاً بالعلاج الكيماوي وبمبالغ طائلة تعجز معظم الأسر عن الإيفاء بها، إلا أنه تمكن مع أسرته من تأمين تكلفة الجرعة الأولى والتي بلغت 400 ألف جنيه سوداني.

“بعد خضوعها لجرعتين من العلاج الكيمياوي، توجهنا إلى كسلا لمواصلة العلاج في مستشفى الشرطة، وهو مستشفى خاص أيضاً، لكن رغم ذلك كنا نشتري الجرعة ويتكفل المستشفى ببقية مطلوبات العلاج، وكان أرخص نسبياً مقارنةً بمدني”، يضيف بشير. 

سقطت ود مدني في قبضة قوات الدعم السريع، وأثقل ذاك السقوط كاهل أسرة بشير ضمن آلاف الأسر الأخرى. فقد كانت والدته تحتاج للعلاج الإشعاعي بعد الجرعات الكيمياوية المحددة. لم يكن العلاج الإشعاعي متوفراً في غير مدينة مروي بمستشفى الضمان الاجتماعي، فاضطروا مجدداً لاحتقاب أمتعتهم إلى مروي، فلم تكن لديهم رفاهية اختيار مكان العلاج كما كان الحال قبل الحرب.  

وصلوا إلى مروي وازدادت معاناتهم بسبب أعداد المرضى الكبيرة ونقص المعينات الطبية. تطَلَّبت جلسات العلاج الإشعاعي الخمس عشرة ثلاثة شهور بدلاً عن أسبوعين في الحالات الطبيعية. 

ونظراً لحالات النزوح والتدفق العالي تجاه المدن الآمنة نسبياً، اضطر بشير وأسرته، لمشاركة أسرة أخرى في السكن وتقاسم تكلفة الإيجار التي وصفها بالعالية وغير المقدور عليها. 

نوتة

شُيدت المدينة الطبية بمروي عبر وحدة تنفيذ السدود في 2007م، كجزء من المشاريع المصاحبة لسد مروي ومن ثم آلت فيما بعد للجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي بنهاية 2014، ليجري تشغيل المستشفى باسم مستشفى الضمان مروي في 2016، واتُّفِق على علاج الجرحى اليمنيين مع مركز الملك سلمان للخدمات الإنسانية والهلال الأحمر السوداني، كجزء من صفقات نظام البشير في حرب عاصفة الحزم التي شارك فيها مع التحالف العربي بقيادة السعودية. 

ووفق تقديرات إداري سابق بالمستشفى، لمراسل “أتر”، فإنها قد ساهمت في علاج 200 جريح في 2016، وجرى تشغيل الخدمات العلاجية للمرضى السودانيين بنهاية 2016. 

يشمل المشفى أيضاً مركز الأورام، وتتكون سعة المركز من حوالي (100) سرير. يقدم المركز، وفق الزيارة التي قام بها مراسل “أتر”، عدداً من الخدمات العلاجية لمرضى السرطان. 

اختلال المعادلة

ومن قسم الأشعة العلاجية بمركز الأورام في مروي، تقول الدكتورة إسراء سيف إن معاناة المرضى لا تبدأ عند وصولهم إلى المركز، بل منذ محاولات الوصول لمروي من ولايات أخرى، في ظروف غير مهيئة وطرق وعرة للمرضى. ولهذا الأمر تداعياته المادية الباهظة، فمنهم من يضطر إلى تأجير سيارة خاصة أو إسعاف للوصول إلى مروي.  

يعاني مجال الطب النووي وإجراءاته المصاحبة، إلى جانب معامل الأنسجة المعنية بتشخيص الخلايا السرطانية، إلى حد بعيد. وبحسب ما أخبرت الدكتورة إسراء “أتَـر”، لا يوجد حالياً أي مركز يقدم هذه الخدمة كاملة في السودان. أما خدمات الرنين المغنطيسي، فلا يقدمها سوى مستشفى الوفاق القطري بمدينة الدبة ومستشفى الضمان الصيني بمروي. وفيما مضى، كانت وزارة الصحة وبعض المنظمات توفر العلاج الكيماوي، إلا أن هذه المعادلة قد اختلت تماماً، وانعدمت تلك الأدوية، وما يتوفر منها يكون تحت مظلة السوق الأسود أو تديرها مجموعات فساد. تقول إسراء: “قد يضطر مريض ما إلى السفر من أقصى غرب البلاد إلى الولاية الشمالية ليخضع فقط لصورة رنين مغنطيسي، وعليه، يجري تشخيص حالته“. 

نوتة

على الرغم من غياب معلومات دقيقة عن انتشار مرض السرطان في السودان بسبب غياب سجل وطني فعال، فقد قدّرت إحصاءات GLOBOCAN أن السرطان هو السبب الرئيس الثاني للوفاة وسط السودانيين. في عام 2020، كان هناك 27382 حالة سرطان جديدة و17055 حالة وفاة بالسرطان. 

يُعد السرطان، بحسب المكتبة الوطنية للطب التابعة لمعهد الصحة الوطنية الأمريكي، السبب الرئيسي للوفاة في جميع أنحاء العالم. وتوفي نتيجة للإصابة به، حوالي 10 ملايين شخص في عام 2020 وحده. وتوقع علماء الأوبئة أن يرتفع عدد حالات الإصابة بالسرطان إلى 28.4 مليون حالة بحلول عام 2040، بزيادة قدرها 47% مقارنةً بعام 2020، مع زيادة أكبر في البلدان الانتقالية (بنسبة تتراوح بين 64% و95%) مقارنة بالبلدان المتقدمة (بنسبة تتراوح بين 32%  و56%). 

جهاز الإشعاع الأوحد بالبلاد

تأثرَ مرضى السرطان، مثل غيرهم، بتداعيات الحرب على نحو غير مسبوق. فرغم سوء الوضع قبل اندلاع الحرب، إلا أنه كان أفضل حالاً. كان ممكناً تلقي علاج السرطان في ولايات عدة، من بينها مدني والخرطوم والقضارف. بعد خروج مدني والخرطوم عن تقديم الخدمة، وضعف إمكانيات المركز بالقضارف، يضطر مرضى السرطان للتوجه إلى مدينة مروي حيث جهاز الإشعاع الأوحد في البلاد. 

لا تقتصر المعاناة على المرضى لوحدهم، فمن المقومات الأساسية في تقديم الخدمات الطبية الكادر الطبي. في هذا المنحى اشتكت الطبيبة إسراء متحسرةً على ظروفهم المعقدة في العمل: “نشعر بعجز إزاء الافتقار للمقومات الضرورية لتقديم الخدمة، إلى جانب الضغط العالي للعمل وضعف الحوافز والعائد المادي، كما أن البيئة غير مواتية، ونشعر أيضاً بالضغط النفسي والبدني جراء ساعات العمل الطويلة“. 

استمرت إسراء في التعبير عن مخاوفها، مشيرة إلى أن توفر جهاز واحد للإشعاع في السودان يمثل هاجساً كبيراً لهم، فالضغط العالي عليه يتطلب صيانة دورية، وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، فمن المتوقع أن يتوقف الجهاز ويخرج عن الخدمة، وهذا ما لا يُحمد عقباه على مرضى السرطان. وقد طالبت الدكتورة بتدخل وزارة الصحة واضطلاعها بدورها في توفير الأدوية وإنشاء مركز أورام جديد.

تحت ظلال أشجار الليمون حول مستشفى الأورام بمروي التقت “أتر”، بعديلة الطاهر، وقد جاءت من حاضرة شمال كردفان، الأبيض، في أغسطس الماضي، من أجل علاج طفلها من ورم في الرأس. تقول عديلة إن رحلتها استغرقت حوالي خمسة أيام، لم يكن لها خيار آخر سوى الاتجاه إلى مروي، فحالة ابنها تسوء يومياً، لكنها لم تفقد الأمل في علاجه. 

رحلتها من الأبيض إلى مروي لم تكن أصعب من رؤية ابنها ذي العشرة أعوام يتألم ويغمى عليه بسبب المرض. تشعر حالياً بالرضا رغم أنها تفترش الأرض وتتخذ من أشجار الليمون منزلاً لها ريثما ينصلح الحال، ولو بمعجزة. 

قوائم طويلة وأسرّة محدودة

متحدثاً لـ “أتر”، يقول الطبيب حسن محمد، إنهم يعملون على تسجيل جميع المرضى، وهناك قوائم تحدد عبر الأسبقية لمن سيدخل المشفى، خاصة وأن عدد الأسِرَّة محدود، مما يؤثر على عدد الذين يجب أن يدخلوا لتلقي العلاج. ويضيف محمد حسن أن السبب في ذلك يعود إلى طبيعة المستشفى الذي لم يكن ليتوقع أن يتحول إلى قبلة لمرضى السرطان في السودان. 

علي صدّيق، الطبيب المتعاون في مركز الأورام، يقول إن معظم المرضى يأتون من مدينة ود مدني، بعضهم بحالات متأخرة بسبب انعدام الدواء ومتابعة العلاج، فضلاً عن النزوح من ولاية إلى أخرى جراء توسع دائرة الحرب. ومع انتقال العمليات العسكرية إلى ولاية الجزيرة؛ توقف مركز السرطان بمدينة ود مدني الذي يعالج حوالي 60٪ من مرضى السرطان، حسب تصريح مسؤول بحكومة ولاية الجزيرة لـ “أتر“، وبعضهم من خارج السودان من دول تشاد وجنوب السودان. 

بينما كان مراسل “أتر”، يجري مقابلته مع عديلة، سُمِعتْ أصواتُ النواح قد ضجت في أرجاء المشفى. أخبرت عديلة، أن إحدى الأسر قد فقدت أحد أفرادها، وبعد أداء واجب العزاء، تحدث المراسل مع أحد أفراد الأسرة.  

أخبر “أتر”، بأنهم قدموا من النهود إلى مدني بعد تشخيص والدهم بورم في الأمعاء؛ لم يكن الطريق من النهود سهلاً، خاصة وأنهم شهدوا اندلاع المواجهات العسكرية في الأبيض، ثم مدني. 

يضيف الابن أن رحلة الخروج من مدينة ود مدني كانت أقرب للمعجزة، وجدوا أنفسهم في مواجهة متحركات الدعم السريع العسكرية، بعد أن تأخروا بسبب معاناة والدهم. وبعد رجاء لقيادة قوات الدعم السريع الميدانية تمكنوا من الخروج، لتبدأ رحلة المعاناة من النزوح إلى التفاتيش العسكرية التي واجهتهم في القضارف وكسلا ومن ثم نهر النيل والشمالية. 

شهر ونصف تحت لهيب الشمس والأمطار وسط جوع شديد، وخلال ذلك أصيب بعض أفراد الأسرة بالملاريا مرتين، بلا أي مأوى يمكن استئجاره، فكل ما بحوزتهم يذهب لعلاج والدهم. 

يعيش حول المشفى تحت ظلال الأشجار، عددٌ من الأسر التي تتوافد يومياً من أجل حصول ذويهم على بعض الجرعات والأدوية التي يجب أن يتناولوها، خلال فترة زمنية معينة. 

يعيش مرضى السرطان رحلة علاج طويلة تمتد ربما لأكثر من عام، هذا في ظل الأوضاع الطبيعية، لكن الآن، مع استطالة أمد الحرب وابتلاعها البلاد، تمتد رحلة العلاج في الزمان والمكان، وتطول، وتطول.  

Scroll to Top