في مدينة نيالا التي شهدت صرخته الأولى، كانت المياه عزيزة ونادرة، ويحصر الناس استخدامها في الشرب، وسقيا حيواناتهم، لكن أن يفكر أحدهم في تعلم السباحة في المياه؛ لا شك أنه مجنون أو غير مسؤول، وفي الحالَيْن يُزجر بشدّة.
ورغم ذلك، كان الطبيب مدثر أحمد يحيى بشير، الذي يشغل حالياً منصب المدير الطبي لمستشفى طوكر، شغوفاً بالسباحة، التي لم يبدأ تعلّمها إلا بعد ما قدمت أسرته إلى الخرطوم.
في الخرطوم، ليست المياه عزيزة مثلما هي في نيالا، وهذا لا يعني أن نيالا تقع في منطقة قاحلة تخلو من مصادر المياه، لكنْ كثيراً ما يتقاعس المسؤولون الحكوميون عن مسؤولياتهم تجاه الناس والبلد عموماً.
ونعرف أن المسؤول الحكومي ما دام يتمتع بمزايا السلطة، لا يبذل مقدار ما يبذل في جرّ الدّثار على نفسه لمساعدة الناس.
هذا ما التقطه مدثر مبكراً، وعمل على نقيضه عندما تبوّأ أول موقع حكومي بعد تخرجه طبيباً في 2019 من كلية شرق السودان للعلوم الطبية والتكنولوجيا بولاية البحر الأحمر، فقد ظل يبذل جهداً مضاعفاً من أجل تقديم الخدمة للناس.
عندما اندفعت مياه نهر بركة في 25 أغسطس الماضي، وغمرت مناطق شاسعة من محلية طوكر، وأحدثت خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ألجمت المفاجأة المسؤولين الحكوميين بولاية البحر الأحمر. أما الموظفون في محلية طوكر، فقد حال ضعف الإمكانيات بينهم وواجباتهم، فحصلوا على عطلة إجبارية بفعل كارثة السيول.
لكن الطبيب مدثر أحمد، كان وحده من تكفل بالقيام بمسؤوليته المهنية. كان في ذلك اليوم الموظف الوحيد الذي داوم في مكتبه في المستشفى العام بمحلية طوكر.
يقيم مدثر في سكن الأطباء الذي يبعد عن المستشفى حوالي 80 متراً، وقد تحولت تلك المسافة بين السكن والمستشفى إلى نهر عمقه يتراوح بين 100 و150 سنتمتراً، ولأنه لا يعمل حسب الإمكانيات والمتاح من الأدوات، اضطر لأن يسبح في مياه السيول حتى الوصول إلى المستشفى من أجل إنقاذ امرأة كانت تحتاج إلى عملية ولادة قيصرية.
يقول الطبيب مدثر: “في ذلك اليوم كانت الكارثة فوق الإمكانيات المتوفرة، وأكبر من أدوات العمل المتاحة، ولذا كان لا بد من جهد بشري لا علاقة له بأدوات العمل التي توفرها الدولة”، ويضيف لمراسل “أتَـر” موضحاً ما حدث: “فضلت إنقاذ حياة المرضى الذين كانوا أكثر حاجة في ذلك اليوم، ولذا قررت السباحة في مياه السيول التي كانت مندفعة حتى وصلت إلى المستشفى“.
لم يختبر مدثر براعته في السباحة قبل ذلك اليوم، ويقول: “كانت شغفاً سابقاً، ومارستُها هوايةً في فترات متقطعة في الخرطوم، وأثناء الدراسة في البحر الأحمر، إلى أن اكتشفتُ في ذلك اليوم أنني قادر على السباحة بقدر معقول“.
ومدينة طوكر التي لفّها إهمال الأنظمة الحكومية المتعاقبة، إلى أن أعادها فيضان نهر بركة إلى الأضواء على نحوٍ مأساوي، كانت قبل 159 عاماً ملء السمع والبصر، حيث احتضنت أول مشروع لزراعة القطن في أفريقيا.
ويُعدُّ مستشفى طوكر المرفق الحكومي الرئيس الذي يفترض أن يقدم الخدمة الطبية لما يزيد عن 37000 ألف نسمة، هو عدد سكان محلية طوكر بحسب آخر إحصاء سكاني. ويقول الطبيب مدثر إن تقديرات التردد العام على المستشفى تصل إلى حوالي 85% من عدد السكان.
ويشتمل المستشفى على عدة تخصصات منها الأطفال، الباطنية، النساء والتوليد، الجراحة، والأسنان، ويعمل به 3 أطباء عموميين، واختصاصي نساء وتوليد، و7 مساعدين طبيين.
قبل الحرب، كان التردد اليومي على المستشفى ما بين 150 و200 مريضاً يومياً، وبعد توقف خدمات التأمين الصحي تراجع التردد إلى ما بين 50 و60 مريضاً يومياً، وبعد اجتياح السيول وتقطع الطرق أصبح التردد اليومي ما بين 20 و25 مريضاً في اليوم.
يقول مدثر إن أكثر الحالات التي تتردد على المستشفى تعاني من سوء التغذية، والإسهال المائي ونزلات البرد والحميات والملاريا.