تغريبة جديدة ومأساوية للآثار السودانية، لكنها تمضي هذه المرة نحو غياهب المجهول. بعد أن أنقذت حملة اليونسكو في الستينيات آثار النوبة من غمر مياه السد العالي، وابتلعت المياه جزءاً كبيراً من تاريخ حضارات سودانية شامخة، أُنشئ المتحف القومي بالخرطوم ليكون الحارس الأمين لما أُنقذ من نفائس التاريخ. على مرّ العقود، نمت مقتنيات المتحف لتروي قصصاً من كل حقبة زمنية وكل زاوية من البلاد. قبيل اندلاع الحرب الأخيرة، كان المتحف يتهيأ لتحوّل جذري، ومشروع ضخم يعيد تصوّر السودان عبر قاعات جديدة تزيّنها الكنوز الذهبية ومقتنيات التحنيط النادرة. وبينما كان تمثال تهارقا يستعد لتبوّؤ مكانه الجديد في قلب القاعة الرئيسة، أُغلق المتحف في انتظار مستقبل مشرق. لكن، ما لبث السودانيون أن استيقظوا على كابوس مروّع: سرقة الآثار، بعد عام وخمسة أشهر من بدء الحرب في الخرطوم، تحت أعين قوات الدعم السريع التي تمركزت في مبانيه، ليتحوّل الحلم إلى فاجعة تصدّرت عناوين الأخبار.
متحف السودان القومي. الصورة: آية سنادة
عامٌ مرّ منذ أغسطس 2023، في ظلِّ تكتّمٍ تامٍّ من المسؤولين والعاملين بالمتحف القومي على حادثة سرقة مقتنيات أثرية من مستودعات هيئة الآثار والمتاحف السودانية. كان الأمل معقوداً على استعادة القِطع الأثرية المنهوبة بعيداً عن أعين الإعلام، لتفادي تنبيه مهرّبي الآثار بأنهم ملاحقون من السلطات المحلية والدولية. وأكدت مديرة المتحف، الدكتورة إخلاص عبد اللطيف، أن عمليات سرقة محتويات المتحف القومي بدأت منذ أغسطس 2023 إثر اقتحام قوات “الدعم السريع” المتحف والاستيلاء عليه واستمرار بقائها في هذه المنطقة.
مقتنيات تمثل الحقب المتعاقبة للممالك النوبية من داخل الصالة الأرضية للمتحف
في حديثه لـ “أتَـر”، يؤكّد المؤرخ د. مروان نصر الدين أن شعباً لا يهتم بتاريخه هو شعب مبتور، محكوم عليه بتكرار أخطاء أسلافه، ويستشهد بما فعلته الدول الأوروبية خلال الحربين العالميتين، حين أخفت تراثها الثقافي لحمايته وحماية هويات شعوبها من النهب والتدمير. وكان لهذا الوعي العالمي بأهمية حماية التراث في أوقات الأزمات أثره؛ فقد صيغت “اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلح” في عام 1954 لتكريس هذه الفكرة، وهي الاتفاقية التي انضمّ إليها السودان لاحقاً بالتزامن مع حملة إنقاذ آثار النوبة وإنشاء المتحف القومي عام 1970. ورغم الانضمام المتأخّر، لم يكن الحفاظ على الآثار في السودان أمراً مُهمَلاً؛ فقد صدر قانون حماية الآثار السودانية في عام 1905 في ظل الحكم الاستعماري، وعُدِّلَ قبيل الاستقلال عام 1952، ثم مرة أخرى في عام 1999، ما يعكس اهتماماً راسخاً بهذا الجانب من التراث الوطني.
مقتنيات تمثل الحقب المتعاقبة للممالك النوبية من داخل الصالة الأرضية للمتحف
في التاريخ الحديث، شهدت العديد من الدول محاولات شرسة لطمس وتدمير إرثها الثقافي، سواءٌ أكان ذلك عمداً لأسباب أيديولوجية أم نتيجة للآلة العسكرية التي لا تلتفت إلى أهمية ما تدمّره. في مواجهة هذا التهديد، برزت حملات فردية ومؤسّسية هدفها وضع خطط وبروتوكولات لحماية وإخفاء المقتنيات الأثرية، وفق ما يوضحه هذا السرد.
وتشدّد ديباجة “اتفاقية لاهاي” على أن “أي ضرر يلحق بالممتلكات الثقافية، بغض النظر عن الشعب الذي تنتمي إليه، هو ضرر للتراث الثقافي للبشرية جمعاء، لأن كل شعب يساهم في ثقافة العالم“؛ لكن عملياً، ماذا يعني وجود تشريع سوداني لحماية الآثار؟ وما دلالة انضمام السودان لاتفاقية حماية الممتلكات الثقافية عام 1954، التي تحتفل بعامها السبعين هذا العام، بوصفها أول إطار قانوني دولي لحماية التراث المادي وغير المادي؟ والأهم، ما هي الضمانات الدولية الموثوقة لاسترداد التاريخ المنهوب خلال فترات الحروب؟
في مارس الماضي، نشرت وزارة الداخلية الإسبانية بياناً أعلنت فيه إيقاف عملية بيع تمثال من بين خمسة تماثيل نُهبت من متحف جبل البركل منذ عام 2014. ورغم أن الحكومة الإسبانية أعلنت القبض على الجاني والتحفظ على التمثال، إلا أن هيئة الآثار ما زالت في تواصل مستمر مع السلطات الإسبانية لاستعادته، وفقاً لأحد الباحثين فضّل عدم الكشف عن هويته.
عند النظر في فاعلية أحكام الاتفاقية الدولية لحماية الممتلكات الثقافية في فترات النزاع المسلح، فإن أولى الخطوات تبدأ بتوجيه اتهامات جنائية لمن يرتكبون اعتداءات ضد هذه الممتلكات، واعتبار الانتهاكات تجاهها جرائم حرب لا تسقط بالتقادم، ما يعني أنها تخضع لقوانين جرائم الحرب. لكن، هل جرى تطبيق هذه الأحكام فعلياً في السودان؟ وهل سبق أن حُوسب الجناة على انتهاكاتهم ضد التراث السوداني، أم تبقى هذه القوانين مجرد نظريات تنتظر التنفيذ؟
في نهاية يوليو الماضي، أطلقت اليونسكو وشركاؤها نداءً عاجلاً على موقعها الإلكتروني لمحاربة تهريب الآثار السودانية، دعت فيه المختصين والجمهور لتجنب التورط في أي تجارة أو استيراد أو تصدير أو امتلاك لقطع أثرية يُشتبه في أنها نُهبت من السودان.
نوتة
في يناير 2024 وصلت المعارك بين قوات الدعم السريع والجيش إلى موقع النقعة والمصورات الأثري، الذي يبعد حوالي 45 كيلومتراً جنوب مدينة شندي بولاية نهر النيل، والمدرج على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي. وقد أدانت الشبكة الإقليمية للحقوق الثقافية الأمر، إذ اعتبرت موقعي النقعة والمصورات الأثريين من أهم المواقع التاريخية المسجلة ضمن قائمة التراث العالمي في السودان، ويضمان تماثيل وآثاراً ومزاراتٍ منذ الحقبة المروية ٣٥٠ قبل الميلاد حتى ٣٥٠ بعد الميلاد. واعتبر محامو الطوارئ أن النقعة والمصورات تراث ثقافي مملوك للشعب السوداني، ويتعين إبعاده عن دائرة الحرب.
عند التأمل في أفضل السيناريوهات لما يحدث للقطع الأثرية المسروقة، يمكن تصوّر أن المهربين الذين يدركون القيمة التاريخية لتلك الآثار يسعون للحفاظ عليها بحالة ممتازة، فذلك يصبّ في مصلحة البائع والمشتري، لضمان أن القطعة أصلية وليست مزورة. هنا يوضح الدكتور مروان أن من أهم وسائل التعرف على القطع الأثرية المسروقة هو الرقم الدولي المكتوب عليها، إذ إنه يُمكّن السلطات من استرجاعها وإلقاء القبض على المهربين والمشترين مهما طال الزمن. ويُعرّف المجلس الدولي للمتاحف الرقم التعريفي للقطعة Object ID بأنه معيار توثيق دولي معترف به لتحديد وتسجيل القطع الثقافية.
“يُكتب هذا الرقم في مكان غير مرئي للجمهور، عادةً أسفل أو خلف القطعة، بواسطة خبراء المتاحف باستخدام مواد خاصة. وتشمل عملية التوثيق أيضاً تصوير القطعة ووصفها وإضافتها لسجلات المتحف، مع الاحتفاظ بنسخ متعددة منها كوسيلة عالمية لتعريف ملكية المتاحف للآثار”، يقول الباحث في التراث الطبيعي السوداني أبو بكر محمد متحدثاً لـ “أتَـر”.
رغم فداحة الكارثة التي ألمّت بالآثار السودانية، قد يكون هناك جانب إيجابي يُمكن الالتفات إليه. قبل اندلاع حرب أبريل، كانت يد التخريب قد امتدّت بالفعل إلى العديد من مقتنيات المتحف، خاصةً المعابد التي نُقلت إلى فناء المتحف ويعود تاريخها إلى حوالي 1500 قبل الميلاد. ورغم أن القانون السوداني يجرّم هذا التخريب جنائياً، إلا أن غياب الحراسة الكافية، عبر كاميرات المراقبة والحراس، أسهم في تكرار تلك الانتهاكات. هنا، يُمكن القول بأن الإهمال والفساد على مرّ الحكومات المتعاقبة في السودان جَعَلَا من تعاملها المُهمِل للآثار أمراً يكاد يُغضّ الطرف عنه، وفقاً لما يوضحه الباحث أبو بكر.
لافتة محفورة خارج معبد بوهين في فناء المتحف. بالأسفل مثال لتخريب جدار بأحد المعابد2015
نوتة
في العام 2017 بدأت إجراءات محاكمة متهمين بمحكمة مكافحة الفساد، على خلفية سرقة شجرة صندل من داخل المتحف القومي بالخرطوم، واقتلاعها من جذورها. ويرجح أن الشجرة زرعت إبان وضع حجر الأساس المتحف القومي السوداني نهاية الخمسينيات، وهي من الأشجار العطرية وتقدر قيمتها بنحو 700 ألف دولار أمريكي.
قد يمثل التعويل على رفع وعي الشعب السوداني بتاريخه فرصة نادرة للضغط من أجل حماية ما تبقّى واسترداد ما فُقد. بعد أن تسرَّب الخبر للإعلام، بات بالإمكان توجيه الأصوات المهتمة بالآثار نحو التوعية وإطلاق حملات إيجابية لاستعادة القطع المنهوبة والتأكيد على أهمية الحفاظ عليها.
وفي سياق انتشار ڤيديو في الأشهر الأولى للحرب يُظهر قوات الدعم السريع داخل معامل هيئة الآثار مع المومياوات التي يعود تاريخها إلى 2500 عام قبل الميلاد، يقول الدكتور مروان إن تلك المومياوات، حتى وإن لم تُنهب، فإن الاختبارات التي كانت تُجرى على حمضها النووي صارت غير صالحة بفعل امتزاجه مع الحمض النووي للبشر المعاصرين. ومع ذلك، فإن المومياوات، إذا وُجدت بحالة جيدة، يمكن أن تظل صالحة لأغراض العرض المُتحفيِّ فقط، مما يُبرز أهمية الحفاظ على ما تبقى منها بوجهٍ لائق.
على مدار العام الماضي، بدأت محاولات استرداد القطع الأثرية المنهوبة بسرية تامة، وفقاً لتصريحات مديرة الهيئة العامة للآثار والمتاحف، التي أكدت أن تلك المحاولات تجري بتوجيهات أمنية صارمة. وفي آخر تطورات القضية، أعلن جهاز المخابرات العامة السوداني، عبر بيان نشره على فيسبوك، أنه أوقف شاحنتين من طراز “لاندكروزر بك أب” تحملان آثاراً مهربة على الحدود مع دولة جنوب السودان. وفي خطوة دبلوماسية مهمة، خاطبت وزارة الثقافة السودانية حكومة جنوب السودان عبر وزارة الخارجية لاستعادة القطع المنهوبة.
وفي السياق ذاته، يُعدّ التعاون مع دول الجوار أمراً حاسماً في هذا التوقيت، رغم أن هذه الخطوات جاءت متأخرة عاماً وعدة أشهر من اندلاع الأزمة. وفي بيان صحفي لليونسكو في 12 سبتمبر، أعربت المنظمة عن قلقها من تزايد تهريب الآثار، معلنة عن تنظيم دورة تدريبية في القاهرة بنهاية عام 2024 لأفراد السلطات القانونية في الدول المجاورة للسودان، بهدف منع الاتجار غير المشروع بالآثار. وتعمل اليونسكو على تقييم الوضع الحالي للمخاطر التي تهدد مواقع التراث العالمي في السودان، وساهمت في تأمين خمسة متاحف رئيسية هي: متحف كرمة، متحف البركل، متحف البحر الأحمر، متحف الدامر، ومتحف سنار. وفي إطار التدابير الطارئة لحماية القطع الأثرية خارج مناطق النزاع، أجرت اليونسكو عملية جرد ورقمنة 1700 قطعة أثرية في تلك المتاحف.