أتر

النيل الأبيَض: على ضفاف المجاعة 

تصوير عبدالله مهدي بدوي

على طريق الأسفلت الممتد بطول ولاية النيل الأبيض، من شمالها إلى جنوبها، تتقاطر مناظر مبهجة تعكسها الخضرة ومياه الأمطار المتراكمة التي ترتادها قطعان الماشية. هذه المناظر لا تغيب عن العين ولا تنقطع حتى دخول مدينة رَبَك، عاصمة الولاية. 

لقد هطلت الأمطار بمعدلات عالية هذا العام، ما مكّن مزارعي الكفاف من ممارسة مهنة الزراعة الموسمية في المساحات القريبة من القرى. ومع بدء فصل الخريف، استبشر المزارعون في المشاريع الكبيرة بهطول الأمطار، ورأوا أن إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية تنهي الحرب المندلعة بين الجيش وقوات الدعم السريع، قد تثمر موسماً زراعياً ناجحاً يعوّض النقص البائن في ولاية الجزيرة ومشروعها الزراعي المتعطّل بسبب الحرب. 

لكن رويداً رويداً اقتربت الحرب، وأحيطت ولاية النيل الأبيض نفسها بالتداعيات المتشعبة، وتبددت الأحلام. 

في منتصف شهر سبتمبر الجاري، وصل الغالبية من المزارعين إلى أنه لا توجد زراعة مطرية تضاهي المعدلات المعتادة في النيل الأبيض، بمشاريعه المعروفة: (المِقِينِص، قَفَا، أم عَقاب، الحفاير الزُّرق، الطيّارة، التِّرتر، دَقَجة، القرصة وأم جديان) وغير ذلك من المشاريع الزراعية الكبيرة. 

وتتحكم عدة عوامل في هذا النقص الزراعي، منها التكلفة المرتفعة للمدخلات الزراعية، وشحّ الوقود وارتفاع سعره، إلى جانب رداءة وسوء الحالة الأمنية في ولاية تحاصرها الأعمال العسكرية النشطة من ثلاث جهات، وتشهد بعض أطرافها مواجهات متكررة بين الجيش وقوات الدعم السريع. 

نوتة

تعتمد ولاية النيل الأبيض على زراعة محاصيل مثل الذرة والسمسم والقمح والفول السوداني إلى جانب بعض المحاصيل البستانية التي تزرع في الجروف على النيل، مثل البطّيخ والشمّام والخيار والعجّور والطماطم، وأخذت تنتج منها كميات تجارية من مشاريع تُروى بالأمطار وأخرى قليلة تُروى من النيل باستخدام الطلمبات.  

في عقود سابقة، استضافت ولاية النيل الأبيض زراعة قصب السكر لمواجهة احتياجات صناعة السكر في مصانع (كنانة وعسلاية وكنانة 2) التي أقيمت في مساحات واسعة من أراضي الولاية. وفي سنوات أحدث، شهدت مشاريع النيل الأبيض تجربة زراعة الأرز، وهي استعادة لتجربة قديمة بدأت في مشاريع الإعاشة، وهذه مشاريع خُصّصت للمزارعين المتأثرين من قيام خزان جبل أولياء، وجميعها مشاريع موسمية تعتمد في ريها على الأمطار، باستثناءمشروع أم جَر الزراعي” الذي كان يُروى انسيابياً من مياه النيل وبدأت فيه زراعة الأرز قبل عقود لكنها توقفت. 

وإلى حدّ كبير، أثرت الحالة الأمنية وشحّ الوقود في تقليص المساحات الزراعية المتوقعة لهذا العام، ومنعت الحرب دخول الجازولين من مناطق الوفرة، ما جعل “أسعار الوقود المتوفر غير حقيقية ومبالغ فيها”، طبقاً للمزارع التيجاني الماحي الذي تحدث لـأتَـر، وأضاف: “استمرار الحرب وانفراط الأمن يهدد المساحات المزروعة، ويبدد رأس المال والمجهود الذي بذل“. 

وضع هذا الواقع ولاية النيل الأبيض في مؤشر متقدم من مؤشرات انعدام الأمن الغذائي، وينذر في الوقت نفسه بمستقبل غذائي سيِّئ. وفي الوقت الراهن، تشهد حواضر وقرى النيل الأبيض نقصاً حاداً في المواد الغذائية. وبالطبع لا ينسى الناس أهوال الحرب المتنوعة، لكن مفردة الشكوى المتكررة تأتي من الارتفاع المبالغ فيه للأسعار، من جهة، أو ضعف القوة الشرائية وكساد سوق البضائع من الجهة الأخرى أو انعدامها، وهو الوضع الذي “ينذر بكارثة غير مسبوقة يمكن أن تحل بالولاية“. 

وفي الواقع، تحتشد النيل الأبيض بمئات القرى والبلدات التي تعتمد كلياً على الزراعة والحركة التجارية وحركة الصناعة التحويلية، إلى جانب مساهمة السكة الحديد ومرسى الصنادل التابع للنقل النهري وميناء كوستي الجاف. هذه الميزات أهدت إلى النيل الأبيض كثافة سكانية وعمالية مختلفة المشارب، يضاف هذا إلى كون الولاية هي التي تربط شمال السودان بجنوبه السابق قبل استقلاله. 

وإلى البعيد قليلاً عن الزراعة المطرية المتعثرة، شهدت المشاريع الزراعية المرْوية بولاية النيل الأبيض في السنوات السابقة تدهوراً أظهره التدني المستمر للإنتاج، وكان سبب ذلك السياسات الزراعية المتواضعة وقصور التمويل وعدم كهربة المشاريع الزراعية والاعتماد على الري التقليدي أو الطلمبات التي تستخدم الوقود، ما زاد من تكلفة الإنتاج الزراعي. 

في هذا الموسم شهدت أسعار الوقود قفزات هائلة في النيل الأبيض، وصل فيها سعر برميل الجازولين إلى 1,2 و1,4 و1,7 مليون جنيه بالتتابع، في الفترة بين شهري يوليو وسبتمبر. أخرج هذا الوضع بعض المزارعين من دائرة القدرة على الزراعة، ودفع نسبة أخرى عالية إلى الإحجام عن تمويل العمليات الزراعية نظراً للخسائر الكبيرة المحتملة 

في بادئ الأمر، أعلنت الحكومة عن إجراءات مشدّدة على حركة الوقود، خشية تسرّبه إلى قوات الدعم السريع التي تنشط بعملياتها العسكرية في أطراف الولاية، ثم حدثت انفراجة مكّنت المزارعين من الحصول على تصاديق الوقود واستلامه من مدينة تندلتي الوقعة في غرب الولاية، لكن بأسعار مضاعفة.   

رسمياً حتى الآن، تشير التقديرات إلى أن ما نسبته 76% من الأراضي قد جرت زراعتها في المشاريع. وحسب مصدر حكومي غير مأذون له بالحديث، فإن هذه النسبة تبلغ 60%، وكلا النسبتين لا يوافق عليهما المزارعون بسهولة. ولتأكيد هذه النسبة، يُشار إلى أن بعض كبار المزارعين قد حصلوا على الجازولين في وقت مبكر، حينما كان متوفراً، وسعر البرميل الواحد لا يتجاوز 400 ألف جنيه وخزّنوه تحسباً للطوارئ؛ لكنهم مع ذلك واجهوا المعاناة بطرق أخرى، مثل انعدام الأمن والسيول التي ضربت بعض المشاريع. 

لكن هذه النسبة لا تشمل صغار المزارعين، وقد واجهوا أزمة في التقاوي، إذ حُجزت تقاويهم في الطريق من بورتسودان إلى النيل الأبيض بسبب العمليات العسكرية النشطة. ويقول مصدر حكومي إنها عبارة عن  900 طن من تقاوي السمسم والذرة المدعومة من بعض المنظات المهتمة بالزراعة، ولم يصل منها إلى المزارعين سوى 106 أطنان فقط، وهي نسبة ضئيلة وغير كافية لزراعة المشاريع الصغيرة التي يديرها المزارعون عبر جمعيات زراعية. 

على سبيل المثال، يعكس الواقع في مشروع قفا الزراعي بعض أحوال الزراعة في هذه الولاية الزراعية الكبيرة. تُقدر مساحة المشروع بحوالي 500 إلى 700 ألف فدان بعد أن تقلصت كثيراً. وفي سنوات سابقة، استُقطع من مساحته للتوسع في زراعة قصب السكر لشركة سكر عسلاية وحصل المُلاك على تعويضات مقبولة لهم؛ لكنه رغم ذلك يبقى من أكبر المشاريع في ولاية النيل الأبيض ويُعوَّل عليه على نحو رئيس في توفير المحاصيل الغذائية والنقدية، مثل السمسم والدخن والذرة. وهو ملك حر للمواطنين، ويعتمد عليه السكان في مناطق ربَك، والجزيرة أبا، والمرابيع ود اللِّبيح. 

في هذا الموسم، عزف غالبية المزارعين في مشروع قفا عن الزراعة لعدة عوامل، أبرزها المخاوف الأمنية وإمكانية تعرض الآليات – والمحصول لاحقاً للنهب من قبل قوات الدعم السريع الموجودة منذ شهور في منطقة جبل مُويا في الحدود مع ولاية سنار. إلى جانب ذلك، يواجه المزارعون في قفا ارتفاعاً في سعر الجازولين، فضلاً عن انعدام السيولة والعجز المالي الناتج عن ظروف الحرب. 

Scroll to Top