أتر

مأساة منسية: الصحة النفسية في السودان

كان محمد آدم، الذي شُخِّصت حالته بالذُّهان منذ 12 عاماً، يعيش في ولاية الجزيرة مع أحد أقارب الأسرة عند اندلاع الحرب. بعد شهر ونصف من الحرب، اتصل أقاربه بأخيه يحيى بالخرطوم، وأخبروه بأنه خرج إلى وجهة مجهولة. توقع يحيى أن يتوجه محمد إلى منزل الأسرة بالحارة الثامنة بأم درمان، وفي تلك الفترة كانت قوات الدعم السريع تسيطر على الأحياء الجنوبية والغربية من أم درمان. سارع يحيى في البحث عن محمد، وكانت رحلة البحث محفوفة بالمخاطر، ومرّ بأكثر من 15 نقطة تفتيش تابعة للدعم السريع في شارع العرضة. ظل يبحث عن أخيه لمدة ثلاثة أشهر بين مستشفى أم درمان ومبنى الجوازات والهجرة بحي بانت.

«كان من الممكن أن يوقفني جنود الدعم السريع ويسألونني عن أسباب مجيئي على نحو متكرر، لكن بلطف الله لم أتعرّض لمشكلات» ، يقول يحيى متحدثاً لـ «أتَـر».

ظهر محمد بعد ثلاثة أشهر، ووصل إلى المنزل، وبدأ علاجه، وتحسّنت حالته في نوفمبر 2023، لكنه خرج مرة أخرى وانقطعت أخباره لمدة 7 أشهر.

يقول يحيى: «في يوم 25 مايو 2024، أرسل إليّ أحد الأصدقاء ڤيديو عبر الماسنجر يَظهر فيه محمد محتجزاً من قِبل قوات الدعم السريع، ويرتدي ملابس القوات المسلحة. يقول مصوِّر الڤيديو إنهم في منطقة الباقير، وقد احتجزوا أفراداً من القوات الخاصة».

يُسأل محمد من قِبل جنود الدعم السريع، فيُعرّف نفسه باسمه الحقيقي، ويذكر رقماً عسكرياً عشوائياً (5678). التقط يحيى صورةً من الڤيديو يَظهر فيها محمد، ونشرها على فيسبوك موضحاً أن أخاه مريض، وأنه غير تابع لأي جهات نظامية.

«اتصلت ابنة أختي وقالت إن أخي ذهب إلى منزل شقيقتنا في الصالحة، وتبدو عليه مظاهر التعب والإعياء الشديد. كانت أختي تصر عليه بعدم الذهاب، ولكنه أصر على المغادرة» .

لم يصل محمد إلى المنزل وشعر يحيى بالخوف على أخيه، ويتوقع أنه يمكن أن يكون معتقلاً مرة أخرى من قبل الدعم السريع أو الجيش، أو قد يعرض عليه أيٌّ من الطرفين العمل معه، ويذهب مع متحركات إلى مناطق عمليات، وقد يلاقي حتفه في مكان ما ولا نعلم ماذا حل به.

قبل اندلاع حرب 15 أبريل، عانت البلاد من نقص كبير في خدمات رعاية الصحة النفسية التي كان يقدّمها القطاعان العام والخاص. لقد أهملت الحكومات المتعاقبة قطاع الصحة النفسية إهمالاً بالغاً، إذ ما يزال السودان يعاني من ندرة في الأطباء النفسيين مقارنةً بحجمه الجغرافي.

وقد كشف تقرير صحفي، أن جنود قوات الدعم السريع قتلوا العديد من المرضى النفسيين في الأشهر الأولى من الحرب. كما أكّد عضوان من غرف طوارئ بحري في التقرير ذاته أن أكثر من ثلاثة مرضى نفسيين أصيبوا برصاص جنود الدعم السريع. وشهد أحد سكان بحري مقتل ثلاثة مرضى نفسيين في شارع السيد علي ببحري في أوقات مختلفة.  

نوتة

بحسب تقرير صحفي، بلغ عدد استشاريي واختصاصيي الطب النفسي في السودان 23 طبيباً، حتى العام 2022، وأغلبهم يعملون في العاصمة الخرطوم، بمعدل طبيب لكل 100 ألف مواطن. وتوجد في الخرطوم ثلاثة مستشفيات عامة متخصصة في الطب النفسي هي مستشفى التيجاني الماحي (أم درمان)، ومستشفى طه بعشر (بحري)، ومستشفى عبد العال الإدريسي (كوبر). ويُعد مستشفى التيجاني الماحي رائداً في مجال الصحة النفسية، ويضمّ 97 سريراً ويعمل به 6 اختصاصيين، إضافة إلى 5 استشاريين، و3 تابعين لوزارة الصحة. كما أن 24% من المرضى  من خارج الخرطوم.

فاقم هذا التوزيع المركزي وغير العادل للمستشفيات من تردي أوضاع الصحة النفسية في البلاد، مع تعقّد سياسات مؤسّسات الصحة النفسية المتعلقة باستقبال المرضى، فضلاً عن تفشّي ظواهر الفقر وعدم المساواة والتعرض للتمييز على أساس النوع، وهي عوامل تزيد من احتمالية المعاناة النفسية والعقلية.

قبل الحرب، كانت شوارع الخرطوم تعجّ بأعداد كبيرة من المرضى النفسيين المشرّدين، ما أسهم في إبعاد كثير منهم عن النظام الصحي، وجعلهم عرضة لانتهاكات عديدة.

البحث عن الأمان والعلاج

أمرنا أحد جنود الدعم السريع بالذهاب فوراً، وعندما ذكرنا له أن أختنا مفقودة، رفع سلاحه وهددنا بالقتل في حال عدم الذهاب، ذهبنا وقلنا خلاص نخلّيها لي الله

بدأت معاناة عواطف مع مرضها النفسي بعد وفاة والدتها، التي أصيبت بالعمى عندما كانت عواطف طالبة في المرحلة الثانوية. انتقلت الأسرة من حي الشهداء إلى حي المهندسين بأم درمان، وحتى ذلك الوقت، كان وضع عواطف مستقراً، وتعمل في وزارة التخطيط العمراني، وشُخِّص مرضها قبل أكثر من 30 عاماً، وتتابع علاجها مع د. عبد العال الإدريسي.

عند اندلاع الحرب، واجهت عواطف وأسرتها صعوبة في التعامل مع الأدوية، إذ يغيّر الطبيب  جرعاتها بحسب ما تقتضيه حالتها، ولم يستطيعوا تقدير حجم الجرعة التي تحتاج إليها، كما أنها امتنعت عن تناول الأدوية، ما عرّضها لانتكاسة. عندما اشتدّ الصراع في منطقة المهندسين، عادت الأسرة إلى منزلها بحي الشهداء، وواجهت بعض الصعوبات مع قوات الدعم السريع المنتشرة حولهم.

«كانت عواطف أحياناً تصرخ بصوت عالٍ جداً، فيأتون إلينا ليستفسروا عن مصدر الأصوات. نشرح لهم حالة عواطف، لكنهم يطلبون منا عدم إصدار أصوات»، يقول شقيقها عطا المنان، ومن ثم يضيف متحدثاً لـ «أتَـر»: «أحياناً لا تنام لمدة 4 أو 5 أيام متواصلة، وقد ضاقت الحياة في حي الشهداء بسبب شحّ المياه وانقطاع الكهرباء».

بدأت الأسرة رحلة النزوح إلى سنجة: «نزحنا على متن حافلة، لكن سرعان ما تعطّلت بنا في مدينة شندي، واضطررنا للركوب في دفَار من شندي إلى مدني». كانت رحلة صعبة على عواطف وشقيقها الأمين، بسبب تقدّمهما في العمر، وتعرض ظهراهما لتقرّحات بسبب الجلوس في الدفّار، بعد أن وصلوا إلى مدينة سنجة علموا بوجود مصحة نفسية فيها فذهبوا إليها، لكن لم تستطع الطبيبة إقناع عواطف بالعودة لتناول الأدوية. 

دخل الدعم السريع مدينة سنجة، وحاولت أسرة عواطف الخروج مع أفراد آخرين بأسرع وقت، لكن أفراداً من الدعم السريع اعترضوا السيارة وأمروا الركاب بالنزول وأخذوا مفاتيح السيارة. رفضت عواطف النزول فاضطرّوا إلى إنزالها بالقوة. وأثناء ذلك طلبوا من أحد الشباب فك رمز هاتفه وعندما تأخّر قتلوه فوراً، وفي هذه الأثناء اختفت عواطف ولم ينتبهوا إليها، فباشروا بحثهم عنها في المنازل المجاورة ولكن لم يفتح أحد بابه.

«أمرنا أحد جنود الدعم السريع بالذهاب فوراً، وعندما ذكرنا له أن أختنا مفقودة، رفع سلاحه وهددنا بالقتل في حال عدم الذهاب، ذهبنا وقلنا خلاص نخلّيها لي الله». 

وصلت أخبار مؤخراً بوجود عواطف بقرية تُسمّى ود سلمان، تسيطر عليها الدعم السريع، لكن لا تستطيع أسرتها الذهاب إليها وإحضارها. 

عندها قرّرت والدته السفر به إلى خارج البلاد، فاضطرّت إلى بيع مجوهراتها، وباع أخوه سيارته، وبعد خمسة أشهر من المعاناة النفسية والجسدية والعقلية سافروا إلى مصر لمواصلة العلاج والبحث عن أمان

أما معاوية نور الدين (اسم مستعار)، المصاب بالاكتئاب الذّهاني الحاد، فقد كابد أثناء هذه الحرب تجربة خطرة للحصول على الدواء.

متحدثاً إلى «أتَـر»، يروي معاوية الصعوبات التي واجهها مع أخيه في البحث عن الدواء أثناء الصراع بالخرطوم: «ذهبنا أنا وأخي الأكبر لشراء الأدوية، فلم نجد سوى علبة واحدة من الديباكين. أثناء عودتنا، مررنا بارتكاز لقوات الدعم السريع، فأوقفونا وسُئلنا عن الأدوية. شرح لهم أخي أنها لي، وأنني مريض نفسي، لكنهم لم يصدّقوا ذلك، وبدأوا بتوجيه الإهانات إلي. راح أحدهم يضربني بمؤخرة السلاح على رأسي صائحاً: “مالك؟ ما هسّي زينا واحد؟”. عندما زاد الضرب، تدخّل أخي فضربوه أيضاً، ولم أستطع التدخل لمساعدته. عدنا إلى المنزل من دون علبة الدواء، وكنت وقتها أعاني من نوبة اكتئاب مائل للاكتئاب الذهاني الحاد».

يروي معاوية أنه في تلك الليلة حاول الانتحار، لكن والدته تمكّنت من منعه، وقررت أنه من الأفضل الخروج فوراً من الخرطوم. وأثناء رحلة نزوحهم، كان معاوية يعاني من نوبة هوس (ارتفاع مرضي في المزاج مبالغ فيه مع مشاركة من البهجة والسعادة وفرط الثقة والتقدير، إضافة إلى تسارع الوظائف النفسية والحركية).

«عندما وصلنا إلى أحد الارتكازات بالقرب من مدينة مدني، كنت أضحك، ظنّ الضابط أنني أضحك عليه. حاولت والدتي شرح طبيعة مرضي، لكنه لم يستمع إليها. ضربني، بينما كنت ما أزال مبتسماً، ووالدتي تبكي وتصرخ. أُصبت في ظهري، ولم أشعر أو أتذكر أي شيء بعد انتهاء النوبة. أخبروني بما حدث بعد مرور شهرين من إقامتي في مدني، لم تعد أدويتي متوفرة في الصيدليات، وفقدت تواصلي مع معالجي النفسي. كتب لي أحد أقربائي دواءً بديلاً، أحياناً أجده وأحياناً أخرى لا يتوفر».

لكن جميع الأدوية البديلة كانت لها آثار جانبية، على معاوية، وأحد البدائل تسبب له في نوبة صرع.

«كنت أستخدم أي بديل لأدويتي بسبب شعوري بالحرج لي ولأسرتي، ولكي لا أسبب مشكلة. طوال فترة إقامتنا في مدني، عانيتُ أنا وأسرتي في شرح نوع مرضي للعائلة التي كنا نقيم معها، خصوصاً بعد نوبات الهوس التي كنت فيها أكسر الأشياء وأخلق المشكلات. بعد انتهاء النوبة، كنت أعتذر وأشرح ما حدث مرة أخرى وما يترتب على الأدوية، ولكن لا أحد يصدقني»، يقول معاوية، ثم يضيف: «غالبية الأدوية البديلة لم تناسبني، ونتيجة لذلك، شرعتُ في الانتحار للمرة الثانية، فأخذوني إلى المستشفى».

 عندها قرّرت والدته السفر به إلى خارج البلاد، فاضطرّت إلى بيع مجوهراتها، وباع أخوه سيارته، وبعد خمسة أشهر من المعاناة النفسية والجسدية والعقلية سافروا إلى مصر لمواصلة العلاج والبحث عن أمان.

جهود حكومية لمواجهة الأزمة

تعمل كلّ من إدارة الصحة النفسية التابعة لوزارة الصحة الاتحادية والمنظمات وبعض من غرف الطوارئ على مواجهة أزمة الصحة النفسية التي تمر بها البلاد كما تواجه هذه القطاعات تحديات عديدة أثناء تقديمها للخدمات المختلفة.

وبحسب د. هيام إبراهيم، مديرة إدارة الصحة النفسية بوزارة الصحة الاتحادية، فإن الإدارة مسؤولة عن وضع الخطط، والحصول على التمويل، ومتابعة تنفيذ البرامج مع جميع الأقسام، وتدريب الكوادر.

لكن بعد اندلاع الحرب، تغيرت الأوضاع، وتحولت مهام الإدارة لتعمل على تقديم الخدمات في دُور الإيواء والمراكز، وإنشاء مساحات صديقة للأطفال في المدارس، والعمل باستمرار على تدريب العاملين في المستشفيات باستخدام دليل أعدّته منظمة الصحة العالمية.

متحدثة إلى «أتَـر»، تقول هيام، إن لديهم أيضاً عيادات جوالة في ولايات مختلفة بتمويل من منظمة الصحة العالمية، وأحياناً وزارة الصحة. ويُعدّ ضعف التمويل من أكبر التحديات التي تواجه الإدارة، إضافة إلى صعوبات الاتصال والتواصل مع بعض الأقسام في مناطق الصراع.

وتقول هيام إنه نتيجة للحرب، نزح عدد مقدر من الأطباء إلى الولايات المختلفة، والآن يوجد أطباء نفسيون في كسلا أكثر من ذي قبل، وكذلك في بورتسودان، والقضارف، وولاية نهر النيل، وفي الولاية الشمالية يوجد حالياً أربعة أطباء، ولم يكن هناك أي طبيب بتلك الولايات قبل الحرب، فمعظمها كانت تعاني من التهميش، والآن باتت تتوفر فيها خدمات الصحة النفسية.

خريطة توضح أقسام المستشفيات العاملة في مجال الصحة النفسية حالياً وتوزيعها الجغرافي

ونتيجة لتمدّد الحرب، خرجت بعض الأقسام عن الخدمة، مثل مستشفى ود مدني والفاشر، جراء استهداف الدعم السريع المستشفيات.

متحدثة إلى «أتَـر» تقول الاختصاصية الاجتماعية حنان يوسف، مديرة إدارة الصحة النفسية بولاية نهر النيل، إن لديهم قسمان معنيان بتقديم خدمات الصحة العقلية، أحدهما في مستشفى عطبرة، وآخر في مستشفى شندي. ويوجد بكل منهما اختصاصيان، أحدهما نفسي والآخر اجتماعي.

حالياً، وبسبب الضغط الكبير الذي تتعرّض له الولاية، تقدّم الإدارة خدماتها داخل مراكز الإيواء، إضافة إلى تنظيم تدريبات استهدفت أطباء الأسرة العاملين بالمراكز الصحية، ويستفيد من هذه الخدمات النازحون والمجتمع المضيف. وجرى توفير بعض الأدوية المجانية لثلاثة أشهر قادمة، عن طريق وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية.

قبل الحرب، كان المرضى يواجهون مشكلة غلاء الأدوية. ومن خلال العيادات الجوالة، استطاعت الإدارة تجنيب المرضى الشعور بالوصمة الاجتماعية؛ والتوعية بالأمراض وطرق الوقاية منها وكيفية علاجها، فضلاً عن أنها مكّنتهم من جمع بيانات إحصائية مهمة تتعلق بالمرضى وأوضاعهم المختلفة.

وتقول هناء إنّ أهم التحديات التي تمر بها الولاية هي ضعف الكوادر المؤهلة التي يمكنها تقديم خدمات جيدة، إضافة إلى أن أقسام الصحة النفسية بالمستشفيات لا ترقى إلى حجم الاحتياجات في الولاية.

مؤسسة عافية وغرف الطوارئ

رغم ضعف التمويل وكثرة العوائق التي واجهتهم من قبل القوات النظامية، استطاعت مؤسسة عافية، إدخال أدوية للعلاج النفسي إلى أم درمان.

عافية مؤسسة غير ربحية، تعمل على تقديم خدمات الصحة النفسية في السودان، ومنذ اندلاع الحرب ظلت تعمل في مدن ولاية الخرطوم الثلاث، وتقدّم استشارات فردية.

أما في الولايات، فتعمل في بورتسودان وكسلا وعطبرة، وتقدّم خدمات البحوث والتدريب. في ولاية كسلا، عملت مع مجلس الطفولة على مشروع يستهدف اليافعين من عمر 14 إلى 25 عاماً، وهي من أكثر الفئات تعرضاً للمشكلات المتصلة بالنزاع سواء أكانوا إناثاً أم ذكوراً.  

بخصوص المشكلات التي تواجه المؤسسة، تتحدث مرين النيل، مديرة المؤسسة، لـ «أتَـر» قائلة: «نواجه صعوبة في التنسيق مع الجهات الأخرى العاملة في المجال، فالجهود مشتّتة. لا نعلم أن الجهات المعنية عملت على الموضوع إلا بمحض الصدفة. التنسيق مهم للتعاون في إنجاز أعمال معينة أو معرفة الجوانب التي جرت تغطيتها والعمل على جوانب أخرى، وهو يجري الآن عن طريق المنظمات المموِّلة وحدها. لا بد من توفر جهات أخرى محلية تقوم بهذه العملية. نعمل حالياً على إنشاء منصّة إلكترونية تجمع الاختصاصيين النفسيين».

تلفت مرين إلى أن جزءاً كبيراً من المشاريع التي تنفذ حالياً هي مشاريع طوارئ قصيرة المدى، لا تتناسب مع السياق بحسب وصفها: «نحن نعمل في واقع جديد ومتغير على نحو متسارع، فالمشاريع القصيرة، مع عدم معرفة الحاجات الأساسية، تعني العمل على مشاريع معدة سلفاً على شاكلة جلسات فردية وجماعية، ونشر محتوى على مواقع التواصل الاجتماعي. تكمن المشكلة في أن المتضرّرين من الحرب عادة لا يستطيعون الوصول إلى خدمات الإنترنت».

تشير مرين إلى غياب المعلومات عن الصحة النفسية في السودان وتعزو ذلك لعدة أسباب: «فالمشكلة ليست في شحّ المعلومات الخاصة بقطاع الصحة النفسية، بل تكمن في من يقوم بجمع المعلومات. في السودان، لا توجد مراكز بحثية متخصصة أو جامعات تهتم بالتوثيق، بل تتولى ذلك المنظمات المحلية والدولية. وللأسف، لا توجد في السودان قوانين مثل باقي الدول تُلزم المؤسسات بنشر الدراسات في العلن. هنالك العديد من الدراسات والإحصائيات، لكنها غير منشورة ولا يمكن الحصول عليها بسهولة».

وحول تمويل المشاريع الخاصة بالصحة النفسية تشير مرين إلى أن جميع الجهود المبذولة تتأثر باتجاهات الممولين والمنظمات العالمية. «فهم من يحدّدون في أي اتجاه يجب أن تعمل المشاريع، والقطاع الخاص معطل، والخدمة المدنية منهارة، ولا توجد موارد غير المنظمات العالمية التي تحدّد للجميع ماذا يجب أن يفعلوا وكيف. أولوياتنا واحتياجاتنا كشعب ليست بالضرورة متوافقة مع ذلك».

وتعمل غرف الطوارئ العامة والنسوية في مناطق مختلفة على تقديم خدمات الصحة النفسية. إحدى هذه الغرف هي غرفة طوارئ بحري، وتعمل على تقديم خدمات الصحة النفسية وغيرها من الخدمات منذ بداية الحرب.

من نشاطات الغرفة التوعية بأهمية الصحة النفسية في حالات الحرب، وتدريب المتطوعين غير المتخصصين على تقديم الإسعافات النفسية الأولية، وتقديم جلسات واستشارات نفسية عبر الإنترنت وعن طريق مقابلات في العيادات من خلال متخصصين في ولاية الخرطوم أو بقية الولايات الآمنة، وعيادات ومراكز خارج السودان لدعم المرضى الناجين من الحرب.

تقدم الغرفة أيضاً المساعدة للمرضى في شراء الدواء، وتقدم خدمات الدعم النفسي للحالات التي تتعرض للعنف القائم على أساس النوع الاجتماعي؛ لكنها في الوقت ذاته، تواجه تحديات مختلفة، تتمثل في صعوبة التواصل عند انقطاع الإنترنت والمكالمات؛ وضعف الموارد المتاحة للمتخصصين؛ فضلاً عن انعدام الأمن الذي يحد من قدرة مقدمي الخدمة على تقديم خدماتهم، ويحد من إمكانية وصول المستفيدين إلى الخدمات.

وتطمح الغرفة إلى التشبيك مع جميع العاملين في مجال الصحة النفسية لتقديم الخدمات على نحو أفضل. كما يعملون على إنشاء عيادات ومراكز يمكنهم من خلالها تقديم الخدمات عبر المتخصصين. 

على الرغم من الطابع المأساوي للحرب وتأثيرها السلبي على الصحة النفسية في السودان، إلا أنها قد تتيح فرصاً لبناء نظام صحة نفسية أكثر استدامة وعدالة لجميع المحتاجين في الولايات،  ففي السابق كان لا بدّ من الذهاب للمستشفيات والمصحات التي تتمركز في مناطق معينة من أجل تلقي الرعاية، ولكن باستمرار وتطور الجهود السابق ذكرها يمكن أن تزيد فرصة حصول الأفراد على الرعاية النفسية.

Scroll to Top