أتر

الحرم الجامعي المتعثر: قراءة في كتاب بحث في النزوح

صدر في سبتمبر 2024، كتاب «بحث في النزوح: أثر الحرب في السودان على التعليم العالي والمجتمع الأكاديمي»، للباحثتين منى القدال وريبيكا قليد، ضمن منشورات معهد ريفت فالي، ومن ترجمة أحمد النشادر.

نُقدِّم هنا مراجعة تلخيصية للمنشور، يرافقها بودكاست باللغتين العربية والإنقليزية، عبارة عن مقابلتين أجراهما المُحرّر مع المؤلفتين.

لم يكن التعليم العالي في السودان مجرد وسيلة للحصول على شهادات أكاديمية، بل كان رافداً سياسياً مؤثراً منذ الحقبة الاستعمارية البريطانية. بدأ هذا الدور مع «مؤتمر الخريجين» في الأربعينيات، واستمر عبر العقود حتى إسقاط نظام عمر البشير في عام 2019.

مع وصول نظام «الإنقاذ» بقيادة البشير في عام 1989، بدأ هذا الدور في التلاشي. اعتمد النظام سياسات لتفكيك المعارضة داخل الجامعات عبر توسعات عشوائية أضعفت البنية التحتية، وقللت من جودة التعليم. ورغم التوسع العددي، شهدت الجامعات السودانية تدهوراً في مستوى التعليم، وهجرةً للعديد من أساتذتها إلى دول الخليج بحثاً عن فرص أفضل.

تفاقمت الأوضاع مع تطبيق سياسات تقشفية في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، مما قلص قدرة الأكاديميين على البحث والنشر. استمرت الجامعات في العمل معتمدة على رسوم الطلاب، لكن الوضع المادي للأساتذة ظل صعباً. وبحلول عام 2023، تضاعف عدد الجامعات، لكن تدنت جودة التعليم.

أدى اندلاع الحرب في منتصف أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى إغلاق الجامعات، ما عمّق الأزمة الأكاديمية. في جامعة الخرطوم، تعطلت العملية التعليمية قبل الحرب بسبب الإضرابات المطالبة بزيادة الأجور، وزاد الضغط على الأقسام الأكاديمية وسط ضعف الإمكانيات وتزايد أعداد الطلاب.

تعرضت جامعات في الخرطوم وولايات أخرى لتدمير كامل، مثل جامعة النيلين وجامعة أم درمان الأهلية التي احتلتها قوات الدعم السريع. وثقت الصور والفيديوهات الدمار، فيما بقيت الأضرار الكاملة مجهولة بسبب استمرار النزاع. في دارفور، تعرضت جامعات مثل زالنجي والجنينة ونيالا لأضرار كبيرة.

نستمع في بودكاست مرافق للعدد أجرته مجلة «أتَـر» مع مؤلفتَي الكتاب، كيف كان تهديد السجلات الأكاديمية كبيراً. نجحت بعض الجامعات، مثل أم درمان الإسلامية، في تأمين خوادمها، بينما فقدت جامعات أخرى، مثل الخرطوم والنيلين، الوصول إليها. في دارفور، جرى تأمين الخوادم تحت حماية السلاح، بينما نقلت جامعة زالنجي السجلات الورقية لمحاولة رقمنتها.

بدأت بعض الجامعات، مثل جامعة الخرطوم، في استئناف الدراسة عبر الإنترنت باستخدام تطبيقات مثل «جوجل ميت» و«واتساب»، رغم الصعوبات. كانت هذه المبادرة نافذة أمل لبعض الطلاب، رغم أن تجربة التعليم عن بُعد كانت مشحونة بالتحديات. في مارس 2024، عقدت وزارة التعليم العالي اجتماعا وجهت فيه الجامعات في المناطق المستقرة باستئناف الدراسة عبر الإنترنت. لكن الجامعات في مناطق النزاع، مثل دارفور، واجهت صعوبات جمة نتيجة العنف وانقطاع الإنترنت.

نجحت بعض الجامعات الخاصة، مثل جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا وجامعة الأحفاد، في تأمين نسخ احتياطية لسجلات الطلاب خارج السودان، ما طمأن الطلاب إلى حد ما، رغم تأخر الوصول إلى تلك السجلات.

رغم التحديات، تمكنت جامعة الخرطوم من إجراء الامتحانات النهائية لطلاب السنوات الرابعة والخامسة في مدن داخل السودان وخارجه، مثل ود مدني وبورتسودان، وأيضاً في مصر والسعودية، مما أتاح للطلاب استكمال دراستهم والتخرج.

من الحرم الجامعي إلى المنفى

أما الأكاديميون الذين نزحوا خارج السودان، فوجدوا أنفسهم أمام تحديات جديدة في البحث عن وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم الأكاديمية. واضطر البعض إلى العمل في مجالات أخرى لضمان دخل لأسرهم، مثل إعداد الطعام وبيع المنتجات السودانية التقليدية؛ بينما وجد آخرون فرصاً للتدريس في المدارس السودانية الخاصة التي انتقلت إلى مصر.

أحد أبرز تداعيات الحرب النزوح القسري للأكاديميين والطلاب. لجأ كثيرٌ منهم، خاصة من أفراد الطبقة الوسطى، إلى منازل الأقارب في مناطق أكثر أماناً داخل السودان أو إلى دول مجاورة بطرق قانونية عبر تأشيرات الإقامة أو العمل في شركات عائلية. لكن هذا النزوح لم يخلُ من الخسائر؛ فقد ترك العديد منهم أموالهم ومقتنياتهم الثمينة، بما في ذلك كتبهم وأبحاثهم التي جمعوها على مر السنين، لتجنب السرقات والسطو.

رغم لجوئهم إلى منازل الأقارب، إلا أن هذه المنازل لم تكن مجهزة لاستقبال العائلات لفترات طويلة، مما تسبب في ارتفاع كبير في الإيجارات، التي تجاوزت في بعض المناطق الريفية 1000 دولار شهرياً. كانت الأزمة أشدَّ حدة لأولئك الذين نزحوا مرتين، مثل الذين غادروا الخرطوم إلى ود مدني، ثم اضطروا للنزوح مجدداً مع توسع رقعة الصراع.

بالنسبة للأكاديميين في الجامعات الحكومية، ورغم احتفاظهم بوظائفهم، فإنهم يعانون من تأخير الرواتب،  إذ تُدفع 60% فقط من مستحقاتهم، وهذه النسبة تتآكل قيمتها يوماً بعد يوم مع تدهور الجنيه السوداني أمام الدولار وارتفاع تكاليف المعيشة. وبينما استطاعت جامعة الخرطوم دفع راتب شهر واحد من حساباتها الخاصة، فشلت بقية الجامعات الحكومية في توفير هذا الدعم.

أما الأكاديميون الذين نزحوا خارج السودان، فوجدوا أنفسهم أمام تحديات جديدة في البحث عن وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم الأكاديمية. واضطر البعض إلى العمل في مجالات أخرى لضمان دخل لأسرهم، مثل إعداد الطعام وبيع المنتجات السودانية التقليدية؛ بينما وجد آخرون فرصاً للتدريس في المدارس السودانية الخاصة التي انتقلت إلى مصر.

لم تترك الحرب الأكاديميين والطلاب سالمين نفسياً؛ فقد أثرت الصدمات التي عاشوها في قدرتهم على التركيز والعمل الأكاديمي، مما أدى إلى معاناة العديد منهم من اضطرابات القلق وما بعد الصدمة، الأمر الذي جعل الكتابة والبحث تحدياً حقيقياً حتى في ظل الظروف المناسبة.

كانت الجامعات المصرية تقدم خصماً بنسبة 90% للطلاب السودانيين قبل الحرب، ومع تفاقم الأزمة، جرى تخفيض هذا الخصم إلى 60% فقط، لترتفع الرسوم الدراسية إلى ما بين 900 و2400 دولار سنوياً، بعدما كانت تتراوح بين 300 و600 دولار فقط.

قبل اندلاع الحرب، كانت مصر وجهة رئيسةً للسودانيين الساعين لمتابعة تعليمهم العالي، بسبب معقولية تكاليف المعيشة والتعليم مقارنة بالدول الأخرى؛ إلا أن الوضع تغيّر مع بدء الحرب وتدفق اللاجئين السودانيين إلى القاهرة. تضاعفت أسعار الإيجارات ثلاث مرات، وأصبحت المعيشة باهظة على نحوٍ غير مسبوق نتيجة تراجع الجنيه المصري وارتفاع الأسعار.

المنافسة الشديدة بين الأكاديميين في مصر، فاقمت من أزمة الأكاديميين السودانيين. تعقّد الوضع أكثر بسبب فقدان الوثائق الأكاديمية. وتُعد تكاليف توظيف الأكاديميين السودانيين مرتفعة بالنسبة للجامعات المصرية، نظراً لحاجتهم إلى السكن والتأمين الصحي.

سعت السفارة السودانية في القاهرة إلى المساعدة من خلال تسهيل عملية توثيق بعض الوثائق والشهادات؛ لكنها ما تزال عاجزة عن الوصول إلى قواعد بيانات وزارة التعليم العالي السودانية.

كانت الجامعات المصرية تقدم خصماً بنسبة 90% للطلاب السودانيين قبل الحرب، ومع تفاقم الأزمة، جرى تخفيض هذا الخصم إلى 60% فقط، لترتفع الرسوم الدراسية إلى ما بين 900 و2400 دولار سنوياً، بعدما كانت تتراوح بين 300 و600 دولار فقط.

كما أضافت وزارة التعليم العالي المصرية رسوماً جديدة يتعين على الطلاب السودانيين دفعها بالدولار، بما في ذلك 2000 دولار رسوماً مُقدّمة، إضافة إلى 300 دولار رسوماً سنوية.

رغم هذه التحديات، ظهرت بعض المبادرات لحل الأزمات. على سبيل المثال، دخلت الجامعة العربية للعلوم الإدارية والخدمات المصرفية في محادثات مع وفد من أساتذة السودان في القاهرة، لتقديم تسهيلات للطلاب السودانيين، تشمل التقدم مجاناً والاستفادة من خصم يصل إلى 50% في الرسوم الدراسية، إضافة إلى توفير فرص عمل لأعضاء هيئة التدريس السودانيين المقيمين في مصر. ومع ذلك، تقتصر هذه الاتفاقيات على مجالات دراسية محدودة، مثل الدراسات الإدارية والمصرفية.

رغم القرب الجغرافي والثقافي بين إثيوبيا والسودان، لم تكن أديس أبابا ملاذاً مستقراً للأكاديميين السودانيين، بل تحولت إلى محطة عبور مؤقتة. يواجه الأكاديميون تحديات تجديد تأشيرات الإقامة التي تُمنح لمدة تصل إلى ستة أشهر مقابل 600 دولار، ما يثقل كاهلهم مادياً ويُجبرهم على مغادرة البلاد باستمرار لتجديد التأشيرات.

قدمت جامعات مثل بحر دار وغوندار فرصاً لبعض الأكاديميين السودانيين، لا سيما الحاصلين على الدكتوراه والذين يجيدون اللغة الإنجليزية.

عملية القبول في الجامعات الإثيوبية طويلة ومعقدة، إذ يتعين على الطلاب السودانيين تقديم طلباتهم عبر وزارتي التعليم العالي والخارجية في السودان، ليجري تحويلها لاحقاً إلى وزارة التعليم الإثيوبية، ومن ثم إلى هيئة التعليم والتدريب الإثيوبية لتقييم شهاداتهم. وحتى بعد القبول، تُفرض على الطلاب رسوم دراسية عالية يتعذر على الكثيرين تحملها. الخيار الآخر للتسجيل عبر خدمات اللاجئين، وهي عملية أكثر تعقيداً وتتطلب العيش في مخيمات اللاجئين على الحدود السودانية الإثيوبية، والتي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.

نستمع في البودكاست المرافق، كيف باتت جنوب السودان ملاذاً للأكاديميين السودانيين، بفضل الفرص التي وفرتها الحكومة. سعت الحكومة والجامعات في جنوب السودان، لا سيما في مجالات الطب، إلى جذب الأكاديميين السودانيين. جرى تسهيل تسجيل الأطباء للعمل برسوم تبلغ 400 دولار، إضافة إلى الحصول على تصاريح عمل.

جامعة جوبا كانت في طليعة المؤسسات التي سعت إلى توظيف الأكاديميين السودانيين، وتعاقدت مع حوالي 80 أستاذاً بحلول فبراير 2024، مع خطط لتوظيف 200 أستاذ آخرين خلال العام. لم تقتصر هذه التوظيفات على المجال الأكاديمي فقط، بل شملت دعماً مالياً للانتقال إلى جوبا، مثل شراء تذاكر السفر. ساعدت هذه الإجراءات، مثل دفع الرواتب مقدماً، في تيسير انتقال الأكاديميين السودانيين. لكنّ تكاليف المعيشة والإيجارات المرتفعة في جوبا تجعل الحياة صعبة، إذ توفر الجامعة سكناً لحوالي 100 أستاذ من أصل 1,000، مما يضطر البقية للبحث عن مساكن خاصة أو العيش مع عائلاتهم.

ومع ذلك، تواجه الجامعات الأخرى، مثل جامعة أعالي النيل، صعوبة في استقطاب الأكاديميين بسبب نقص الموارد.

بحلول فبراير 2024، قُبِلَ حوالي 400 طالب فقط من السودانيين والجنوب السودانيين العائدين. وتواجه الوزارة صعوبة في تفسير قلة المتقدمين. مشكلة الوثائق كانت أحد الأسباب الرئيسة. تتراوح الرسوم الدراسية السنوية بين 300 و500 دولار، مما يُعجِزُ العديد عن تحمله. إلى جانب ذلك، تُعد تكاليف الانتقال والمعيشة في جنوب السودان عائقاً إضافياً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.

عند الوصول إلى الحدود اليوغندية، يجد اللاجئون الذين يفتقرون إلى المال اللازم للحصول على تأشيرات أو مواصلة رحلتهم خياراً وحيداً: التوجه إلى مخيم «كيرياندونغو» للاجئين، على بعد 200 كيلومتر جنوب الحدود. يركز المخيم أساساً على الزراعة، مما يقلل من الفرص المتاحة للأكاديميين الباحثين عن وظائف في التعليم العالي.

يوفر الحصول على صفة اللاجئ مزايا كبيرة، خاصة للأكاديميين والطلاب. ويمكن للأكاديميين العمل بشكل قانوني في الشركات أو الجامعات دون الحاجة إلى تصريح عمل، والذي قد يكلف ما بين 500  و2000 دولار سنوياً. وبالنسبة للطلاب، تمكنهم هذه الصفة من التقديم إلى الجامعات اليوغندية برسوم دراسية مدعومة من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.

الجامعات اليوغندية ليست مجهزة لاستيعاب أعداد كبيرة من الأكاديميين السودانيين، بسبب محدودية الإمكانات وضعف العلاقات الأكاديمية بين البلدين. وتُشكّل اللغة الإنقليزية عائقاً إضافياً لكثيرٍ من الأكاديميين السودانيين.

أما الطلاب السودانيون الراغبون في الالتحاق بالجامعات اليوغندية، فيواجهون تحدياً آخر يتعلق بمعادلة شهاداتهم؛ إذ يعتمد التعليم الثانوي في يوغندا على 12 عاماً، بينما يعتمد النظام السوداني على 11 عاماً فقط.

الجامعات اليوغندية ليست مجهزة لاستيعاب أعداد كبيرة من الأكاديميين السودانيين، بسبب محدودية الإمكانات وضعف العلاقات الأكاديمية بين البلدين. وتُشكّل اللغة الإنقليزية عائقاً إضافياً لكثيرٍ من الأكاديميين السودانيين.

أما الطلاب السودانيون الراغبون في الالتحاق بالجامعات اليوغندية، فيواجهون تحدياً آخر يتعلق بمعادلة شهاداتهم؛ إذ يعتمد التعليم الثانوي في يوغندا على 12 عاماً، بينما يعتمد النظام السوداني على 11 عاماً فقط.

ذات التحديات التي تواجه الطلاب والأكاديميين في يوغندا، نجدها في بقية دول شرق أفريقيا، مثل كينيا، وتنزانيا، ورواندا. ومع ذلك، انتقلت بعض الجامعات السودانية الخاصة، مثل جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، لبعض تلك الدول.

في ظل هذه الظروف القاسية، يواجه الأكاديميون والطلاب السودانيون تحديات غير مسبوقة تهدد مستقبل التعليم العالي في السودان والمنطقة. الحرب لم تدمر البنية التحتية التعليمية فقط، بل أثرت أيضاً على نسيج المجتمع الأكاديمي، تاركة آثاراً طويلة الأمد على التعليم ومستقبل البلاد. يتطلب تجاوز هذه الأزمة جهوداً محلية ودولية لإعادة بناء المؤسسات التعليمية ودعم الأكاديميين والطلاب لضمان استمرار التعليم كركيزة أساسية في نهضة السودان.

Scroll to Top